انطون تشيخوف: 150 سنة على وفاته
أحيا محبو الأدب في أنحاء العالم الذكرى الـ150 لميلاد الكاتب المسرحي الروسي أنطون تشيخوف الذي ما زال يحتفظ بمكانته بعد أكثر من مئة عام على وفاته. وبالمناسبة انطلق في المدن الروسية مهرجان يمتد على ستة أشهر تكريما لهذا المبدع، وحمل الرئيس الروسي ديمتري مديفيديف باقة ورد، وتوجه إلى بلدة تاجانروغ مسقط رأس تشيخوف جنوب روسيا حيث وصف القصص القصيرة والمسرحيات التي ألفها ذلك الطبيب بـ"الخالدة". وقال إنه ما زال في الإمكان التعلم من العشرات من أعمال تشيخوف التي تتمتع بشعبية عالمية متواصلة وألهمت كتابا آخرين بارزين ومن بينهم جيمس جويس وفرجينيا وولف. فماذا عن سيرة هذا الكاتب الإبداعية والإنسانية؟
“كاتب غير مبدئي أو نذل- والمعنى واحد- ما كنت قط – فأنا لم الجأ إلى الابتزاز، ولم أكتب هجاءات ولا وشايات. لم أداهن، لم اكذب ولم أهن أحدا. وقصارى القول ان عندي الكثير من الأقاصيص والمقالات التقدمية التي وددت حقا التخلص منها لعدم صلاحيتها، لكن ليس هناك سطر واحد يجعلني أشعر بالخجل بسببه”. هكذا كتب أنطوان تشيخوف في 10 نيسان (ابريل) 1890 في رسالة الى ف. م. لافروف، رداً على منتقديه للمرة الأولى والأخيرة في حياته، بعد ان صنفه احدهم مع” كهنة الكتابة اللامبدئية”.
بدأ تشيخوف طريقه الإبداعي في الصحافة الفكاهية، التي لم يكن العاملون فيها يدققون أو يتشددون في ما يخص مسألة التوجه الاجتماعي للمؤلفات الساخرة. وكان هذا الأمر سيّان بالنسبة إليهم في أغلب الأحيان، ولم يبالوا على من يضحكون سواء أكان فلاحا أم تاجرا... الخ. لم نقع على ما يشبه هذا المسلك عند تشيخوف لأن تطلعاته ومكارهه واضحة، محددة وثابتة. ففي العديد من الأقاصيص والدعابات والمشهديات يخرج تشيخوف سلسلة كاملة من الطغاة والمندسين و”التافهين” الخرفين الذين تعودوا أن يسخروا من بسطاء الناس من دون ان ينالهم اي عقاب. ولا تقتصر سخرية تشيخوف على ممثلي الطبقات والفئات المسيطرة، فهو يناضل ضد الرجعية السياسية وكشف مظاهرها، ضد حُماة النظام القائم رسميين كانوا أم غير رسميين، ضد التحري البوليسي والاستبداد، ويكتب بازدراء وقرف عن” الظرفاء الليبراليين” والغوغائيين السياسيين، معرّيا بلا رحمة ضحالتهم الإنسانية وعداءهم السياسي للتقدم.
والواقع ان تشيخوف في كثير من الأمور، اتّبع التقاليد التي نشأت في المطبوعات الفكاهية واقتبس وتعلم الكثير من خبرة من هم اكبر سناً من رفاق القلم. ومع ذلك برهن عدد كبير من الباحثين في السنوات الأخيرة وبصورة مقنعة، على ان تشيخوف على الصعيدين الفكري والفني، لم ينحُ نحو المجلات الفكاهية بقدر ما حطم وحوّل تقاليدها. وبالفعل مهما بدت شديدة تبعية الكاتب الشاب للأجناس التقليدية في الصحافة الفكاهية، ومهما كانت دامغة التطابقات بين أعمال له، وبين قصاصين ودعابات لرفاقه في القلم حينذاك، فمما لا ريب فيه أن مواقفه الإبداعية تشكلت خارج هذا المحيط. فالتطور الروحي للكاتب تم بعيداً عن ذلك الوسط – نصف البوهيمي ونصف الخسيس، اللامبدئي والقميء فكريا – الذي احتك به في إدارات التحرير في موسكو وبطرسبرغ.
كان تشيخوف الوريث الشرعي لكل تقاليد الأدب الروسي العظيمة، وهناك يجب البحث عن المعلمين الحقيقيين والمرشدين الروحيين الذين وجهوا خطى الكاتب الشاب إلى عالم الإبداع. ومن الثابت ان منظومة تشيخوف الفنية لم تتكون دفعة واحدة. ويتضح الخط البياني لنموه الإبداعي جيداً، من خلال تاريخ المجموعات والأعمال التي صدرت له.
ترك لنا انطون تشيخوف ثروة مسرحية مميزة، تفوق مقاييس الزمان والمكان اللذين كتب فيهما المؤلف المسرحي والقصصي الشهير أهم أعماله على الإطلاق، وهو ما تشير إليه على نحو واضح ترجمات العديد من هذه الأعمال وفي مقدمتها انجازاته المسرحية. وانعكس تأثيره الشديد بالحركة الأدبية الرمزية على تجربته الكتابية في التأليف المسرحي وكتابة القصة القصيرة، وبدا واضحا انه ينطلق إلى حد بعيد من تجربته الشخصية كي يؤرخ لواقع أبناء الطبقة الارستقراطية الإقطاعية الروسية.
السنون ما بين 1896 و2004 خصصها النقد المسرحي الحديث للاحتفال بالذكرى المئوية لأفضل أعماله المسرحية، أو يمكن الانطلاق منه نحو إعادة تجديد وإحياء هذا الموروث الإبداعي الضخم بما يتناسب ومكانته على خريطة الأدب المسرحي الحديث. ويعتقد العديد من النقاد ان ترجمة أعمال منها”الأخوات الثلاث” و”النورس” و”بستان الكرز” و”عرض زواج”، سواء على يد المسرحي الأميركي المختص بمسرحيات تشيخوف شميدت، او غيره قد نجحت في إبراز الإخلاص المتناهي لهذه الأعمال لأمرين في غاية الأهمية، أولهما الأمانة الشديدة في نقل صورة واقعية حقيقية لعصرها، وتقديمها في الوقت نفسه لكل ما هو حي ومفعم بالحياة والسلاسة للمسرح الحديث. كما نجحت في إعادة رسم صورة حقيقية تذكرنا بحياة تشيخوف ونشاطه وروحه المرحة، التي كان يسيطر عليها حس الدعابة والفكاهة إلى حد ملحوظ، ويشار إلى هذا في ترجمة شميدت الى العامية الأميركية وقدرتها على تجسيد ما كان يجذب رواد مسرح تشيخوف من عبارات سوقية يفترض انها كانت تشير إلى تبنيه فكرة المسرح الكوميدي في ذلك الوقت.
في مساء 17 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1896 عرضت على مسرح الكساندرفسكي في سانت بطرسبورغ مسرحية جديدة بعنوان” النورس” بمناسبة الاحتفال باليوبيل الفضي لولادة الممثلة الروسية الشهيرة في ذلك الوقت الزافيتا ليفكيا، وكانت ليلة رهيبة بالنسبة إلى مؤلفها تشيخوف، الذي واجه فشلا ذريعا بتقديمه عملا مختلفا بكل المقاييس، ولم يتذوقه الجمهور الذي سرعان ما بدأ يتململ من تلك المعاناة الصامتة التي امتلأت بها المسرحية، دون مراعاة للتقاليد المسرحية العريقة التي اعتادها سابقا، والتي تقوم في الأساس على ما يعرف بالحركة الدرامية، اما تشيخوف فقد تسلل هاربا إلى الخارج كما لو انه كان لصاً.
نغمة الحزن
كان الباحثون الذين يرسمون لوحة الارتقاء الإبداعي للكاتب في الثمانينيات، غالبا ما ينطلقون من الاعتقاد بأن تطور أسلوب تشيخوف قد سلك خطاً استهدف الكشف التدريجي عن نغمة الحزن التي كانت مستترة في البداية، وتشديد النبرة الوجدانية في الأقاصيص الفكاهية. بيد ان نظرة أكثر تأنيا إلى المرحلة المبكرة من إبداع الكاتب، تجعلنا ندرك ان هذا الإبداع تطور على نحو مختلف بعض الشيء وأصبح أكثر تعقيدا. والتوجه الوجداني الذي نلمسه في إبداع تشيخوف إبان النصف الأول من الثمانينيات، مرتبط بالطرح الصريح لموضوع درامي معين، حيث الوجدانية وسيلة للتعبير عن تعاطف المؤلف مع أبطاله ومع مكابداتهم الدرامية.
وفي هذا السيل الهائل من الاعمال التي كتبها في مطلع الثمانينيات- مع ما هي عليه من تنوع في المواضيع وبعد عن الكمال من الناحية الفنية- لا بد من التمييز بين ذاك الذي اندثر تدريجاً واختفى من ابداع الكاتب، وبين ما تطور وترسخ في هذا الإبداع.
هكذا تغير ابداع تشيخوف وتنوع. وشيئا فشيئا صارت الحياة في مؤلفاته تتبدى من خلال التشابك الوثيق بين الجوانب المشرقة والمظلمة، الكوميدية والتراجيدية. وفي هذا الصدد تبدلت أيضا نبرة الأقاصيص الفكاهية والوجدانية. وصارت أكثر تعقيداً في مضمونها، بينما امّحى في ذات الوقت ما كان يفصل بينها من حدود. كلما تعمق تشيخوف اكثر في ماهية الظواهر والحوادث الفردية التي يصورها، ازدادت المسائل التي تعترض سبيله تعقيداً . فمن وراء مصير الشخص الواحد الذي يستحق العطف والمشاركة لاح مصير الكثيرين، واذا بالدراما الشخصية للمضطهد والمظلوم تبدو مجرد جزء من مأساة الشعب العظمى.
كان العام 1887 الأخير من فترة “الكتابة الغزيرة” وفيه صدرت 60 قصة من أقاصيص تشيخوف، بينما لم يكتب الا 10 فقط في العام الذي يليه، والحقيقة ان العام 1888 يمكن اعتباره عام الانعطاف في إبداعه، وفي العام 1889 يكتفي الكاتب بنشر: “التافهون” و”الأميرة” و”حكاية مملة” في حين لم ينشر في العام 1890 سوى أقصوصتين غير كبيرتين هما”الشياطين” و”غوسيف”.
وفي العام 1890 قام تشيخوف برحلة الى الشرق الأقصى بغية تفقد ظروف اقامة المنفيين في جزيرة سخالين، حيث قضى الكاتب هناك أكثر من ثلاثة أشهر، وأجرى بمفرده استفتاء دقيقا لسكان الجزيرة بمن فيهم السجناء والمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة. هذه الرحلة باعتراف تشيخوف نفسه ساعدت على بلوغه الرشد ولا شطط في ذلك، فهو إبان “سياحاته السخالينية” غاص في بحر الآلام الإنسانية، وبات الآن ينظر إلى الواقع المعاصر والى الأدب بعينين جديدتين.
وجاء عمل تشيخوف الأساسي “جزيرة سخالين” – من يوميات السفر” نتيجة مباشرة للانطباعات السخالينية( 1890 حتى 1894) ونشر لأول مرة في “الفكر الروسي” في فترة 1893- 1894 ثم صدرت “جزيرة سخالين” في طبعة مستقلة في العام 1895، وبدا تشيخوف راضيا كل الرضا وهو ينهي عمله بالكتاب وقد عبّر عن ذلك في 2 كانون الثاني (يناير) من العام 1894 حين كتب يقول:” ان الطب لا يستطيع الآن ان يعيرني بالخيانة: لقد وفيت قدسية العلم حقها، وقمت بالواجب نحو ما كان الكتاب القدامى يسمونه تحذلقاً. وانا مسرور لأن ركن تعليق الملابس في نثري سوف يضم هذا المفصل الخشن ايضاً، مفصل المساجين.
حسين نصر الله
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد