بطل العالم في الكذب يقود جيش المرتزقة لإبادتنا
الرئيس الأميركي جورج بوش، و6 من أبرز معاونيه في إدارته، كذبوا (بحسب دراسة أخيرة نشرها تشارلز لويس ومارك ريدينغ ــ سميث) في الفترة الفاصلة بين 11 أيلول 2001 وغزو العراق، أكثر من 936 مرّة لتبرير قرار احتلال كابول وبغداد. أكاذيب كانت ضروريّة خصوصاً لتعظيم «ما يمثّله العراق من خطر على الولايات المتّحدة». حتّى «المنطقة الخضراء» في كابول لا تزال عصيّة على «المتمرّدين»، أمّا تلك الخاصّة ببغداد، فهي لا تزال بدورها تحت النيران اليومية.
أمام هذا الفشل، كان على بوش وفريقه إعادة حساباتهم، وإيجاد وسائل «مبدعة» تنقذهم من المستنقعين الأفغاني والعراقي.
الوسائل العسكريّة على عظمتها وإجرامها وإرهابها، أظهرت محدوديّتها. الموازنة الأميركيّة للدفاع في عام 2008، بلغت 515 مليار دولار، وهو رقم قياسي. يمكن الاحتلال أن يقتل مليون ونصف مليون عراقي كما فعل حتّى الآن، لكنّه لن يتمكّن من إبادة الشعب عن بكرة أبيه.
لهذه الأسباب، كان لا بدّ من التفتيش عن كلّ الطرق التي قد تطفئ نار المقاومة. وكان على هذه الطرق أن تبتعد عن الأساليب العسكريّة، بعدما استُنفِدَت خيارات القنابل الذكيّة أو «الإرهابيّة». لُجِئ إلى العلوم البحتة، الطبّ تحديداً. اختُرعَت أكثر العقاقير الطبيّة فتكاً لإجبار المعتقل على «الاعتراف» بـ«جريمة» مقاتلة المحتلّ. اختُرعَت أدوية تُعطى للجنود كافية لمحو جزء من ذاكرتهم، تحديداً كلّ ما يثير في نفسهم شعوراً بالذنب إزاء اغتصاب ارتكبوه أو عمليّة قتل بدم بارد اقترفوها.
المخدّرات الخفيفة والقويّة عُبِّئت بحناجير، منها يُعطى للعدوّ، ومنها الآخر لـ«أبطال الحريّة». أيضاً «الطبّ القاتل»، أو طبّ الحروب أظهر محدوديّته. بقي اللجوء إلى آخر الحلول: العلوم الاجتماعيّة، وتحديداً تلك التي تدرس الإنسان فرداً أو جماعة. تشرّحه أخلاقيّاً واجتماعياً وتاريخياً وطبياً وإثنيّاً لمحاولة الخروج بوصفة سحريّة عن أنجع السبل في التعاطي مع البيئة الثقافيّة التي تحتضن العدوّ. كان لا بدّ من اللجوء إلى الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا. علمان يستعينان بالتاريخ وعلم الآثار وعلم الاجتماع وعلوم النفس. يدرسان عادات المجموعات البشريّة عبر التاريخ: أنماط عيشها، دياناتها، لغاتها، آليّات إنتاجها الاقتصادي، أساطيرها المؤسّسة، فنونها وثقافتها وأنماطها الغذائيّة... قاعدة معلومات ثمينة يقدّمها علماء لضبّاط الجيش، وفي النهاية، على هؤلاء العمل بمقتضاها.
الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا بالتعريف، هما من عائلة العلوم الاجتماعيّة التي وُجِدَت مبدئيّاً لخدمة تقدّم البشريّة. بكلام أوضح، لفهم الاختلافات بين المجتمعات البشريّة، من نواحي بِناها التحتيّة والفوقيّة، وبالتالي إيجاد تفسيرات علميّة لاختلافاتها المعرفيّة.
غير أنّ «النظام» استطاع أن يجنّد العلوم الإنسانيّة أيضاً في خدمة أهدافه الكبيرة. ورغم أنّ نقابات علوم الأنثروبولوجيا تشترط عدم تسخير هذه المعارف الاجتماعيّة في أهداف عنصريّة أو سياسية أو عسكريّة، فإنّ «الأهداف الكبيرة» ـــ وهي هنا الانتصار في الحروب ـــ اجتذبت المئات من هؤلاء العلماء.
هكذا مثّلت أفغانستان والعراق أكبر مختبرين طبيعيين في التاريخ لهؤلاء الذين درسوا في الكتب طبائع السكّان الأصليّين، وانتشروا بزيّ مدني حيناً، وعسكري حيناً آخر بين الجنود. «فلتوا» في ساحات المعارك، لكن استبدلوا المدافع والرشّاشات بمعارفهم وبفنّهم في مخاطبة السكّان الأصليّين، لمعرفة الوسيلة الفضلى للتعاطي معهم سلميّاً، ولثنيهم عن مقاومة المحتلّ. كان العقل الأميركي ومن يدعمه في حربه على «الإرهاب»، يأمل عدم الاضطرار إلى اللجوء إلى وسائل صعبة. غير أنّ ردّات فعل الشعبين العراقي والأفغاني فاجأته، لذلك كان لا بدّ من فعل أيّ شيء غير كلاسيكي في سبيل الانتهاء من كابوس بات الخروج منه بأقلّ خسارة ممكنة مهمّة وطنيّة. فحتّى الكاتب الفرنسي اليميني جان فرنسوا ريفيل، لم يستطع إخفاء خيبته إزاء العراقيّين، لأنهم لم يستقبلوا لوقت طويل قوات الاحتلال بالزهور والترحاب. وكتب ريفيل في صحيفة «لو فيغارو» في أيلول من عام 2003: «هناك كره رهيب تجاه الأجانب الغربيّين عند العراقيين، كما هي الحال عند العرب عموماً. نحن أمام شعب عاجز عن حكم نفسه، وهو في الوقت نفسه، لا يريد أن يهتمّ الآخرون به». قراءة استشراقيّة تنهل من فكر برنارد لويس.
صحيح أنّ المال مثّل محفّزاً قوياً في شراء ولاء زعماء العشائر في البلدين، غير أنّه لم يكن كافياً. يجب التعاطي مع أوسع شريحة ممكنة من الناس العاديّين، وإقناعهم بعدم جدوى ممانعتهم للوضع القائم ولحتميّة الاحتلال التاريخيّة. والتعاطي مع عامّة الناس يتطلّب فهمهم، بعقليّاتهم ولغتهم ومنظومة تفكيرهم. صحيح أنّ المال يشتري الذمم، غير أنّه ليس كافياً. ففي حالة «مجالس الصحوات» العراقيّة، أدّى المال الدور الكبير في هذه الاستدارة. ويقول الصحافي باتريك كوكبورن إن «مدينة الفلّوجة التي لا تزال مهدّمة إلى حدّ كبير منذ معارك عام 2004، أصبحت أكثر أمناً. والصحوات أجبرت رجال القاعدة الذين كانوا أسياد المدينة إلى مغادرتها أو التخفّي فيها». غير أنّ مفعول «الصحوات» لم يُعَمَّم على الملايين. لذلك، فالعلم الذي يطال الجميع، هو بالضرورة الأنثروبولوجيا بتعريفه الأوسع، الذي يتضمّن العلوم الإنسانية جميعها.
إدارة بوش بقيت مصرّة لفترة طويلة على حصر التعاطي مع حالات المقاومة بالأساليب التقليديّة العسكريّة. غير أنّ استقالة وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وعدد كبير من صقور إدارته على خلفيّة الإخفاقات العديدة، وخصوصاً في أفغانستان والعراق، أوصل أشخاصاً كروبرت غيتس إلى وزارة الدفاع. الرجل أدرك استحالة نجاح هذه الأساليب الحربيّة وحدها. نبش في التاريخ واستذكر أدوات قديمة طُبِّقَت في أميركا اللاتينيّة وفييتنام، وقبل ذلك في المستعمرات البريطانيّة والفرنسيّة. أدوات تكلّف مالاً أكثر ربّما، لكنّها قد تحمل نتائج أبهر، توظيف العلم في الحروب نموذجاً.
برنامج hts، أو «النظام البشري الميداني» human terrain system، هو عنوان ثوري حسمت الإدارة الأميركيّة العمل به في أفغانستان والعراق في أيلول من عام 2007. وبحسب تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانيّة «بي بي سي» في آذار الماضي، فقد أقرّ البنتاغون لتطبيقه 40 مليون دولار في 16 تشرين الأوّل من ذلك العام. ويقوم أساساً على اختيار مجموعة من علماء الأنثروبولوجيا ودمجهم بالفرق العسكريّة في أفغانستان والعراق. ويُعَدُّ كل من غيتس، والقائد السابق لقوات الاحتلال في بلاد الرافدين، الجنرال دايفيد بيترايوس، الأبوين الفعليّين لهذا البرنامج.
ويكلّف كل عالِم خزينة وزارة الدفاع بموجب هذا البرنامج، أكثر من 400 ألف دولار سنويّاً، من ضمنها قيمة بوليصة التأمين التي تغطّي نفقات خطف هؤلاء.
مهمّة هؤلاء استشارية لمصلحة ضبّاط الجيش، من خلال شرح الطريقة «الثقافيّة» الفضلى التي يجب اعتمادها مع سكّان هذين البلدين. والبرنامج تديره شركة بريطانيّة خاصّة (bae) أو british aerospace et Marconi electronic systems).
كما يقوم البرنامج على تزويد العسكر بمعلومات تسمح لهم بعدم استيعاب ردود فعل السكان الأصليين خطأً عندما يواجه هؤلاء العسكر أوضاعاً عنيفة.
رئيس كليّة الأنثروبولوجيا في جامعة مينيسوتا الأميركيّة، ويليام بيمان، كتب في عدد شهر آذار لمجلّة «لو موند دبلوماتيك» عن هذا الموضوع، موضحاً أنّ مهمّة «كسب قلوب وعقول المجموعات السكّانيّة المحليّة» أساس الحرب الضروس بين الاحتلال والمقاومة. لذلك هي أساس البرنامج الأميركي المذكور.
وأول برنامج لتسخير الأنثربولوجيا في الحروب الأميركية، أُعِدّ في عام 1965 تحت اسم برنامج «كاملوت». وكانت التشيلي مختبره. حينها، قرّرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي أي إيه» فعل كل شيء لمنع الزعيم اليساري سالفادور أليندي من الوصول إلى الحكم في ظلّ الأنظمة العسكرية الدموية التي احتلت، بفضل الدعم الأميركي الكامل، عواصم جميع دول القارة الأميركية اللاتينية.
فمنذ الأيام الأولى التي فكّر فيها حكّام واشنطن استغلال العلوم الاجتماعية لخدمة استراتيجياتهم السياسية، لم يكن الهدف من ذلك فهم عقلية الشعوب وسلوكها للتعامل معها حضارياً. فهذه العبارة تبقى كاذبة إذا لم تُضَف إليها معادلة أخرى: يجب فهم كيف تفكر هذه الشعوب العالمثالثية، لتسهيل احتلالنا لها، أو لتغيير طريقة تفكيرها من دون دم إذا أمكن. هكذا كان ضروريّاً معرفة لماذا الغالبية الساحقة من الشعب التشيلي تؤيد الزعيم الاشتراكي، لا للتعاطي مع هذه الرغبة الشعبية بواقعية، بل لتغيير هذه الرغبة، بالدعاية والثقافة والمال ووسائل الإعلام والبرامج الوثائقية الكاذبة عن المعسكر الاشتراكي... وبالانقلاب كآخر دواء.
أما ثاني تجربة انثروبولوجية أميركية وأهمّها، فكانت برنامج «العمليات المدنيّة والثوريّة لدعم التنمية» (civil operations and revolutionany development support (cords)، وأُعِدّ لدمج البرامج المدنية كما العسكرية لـ«إحلال السلام» في فييتنام.
بكلام آخر، كان الهدف منه إعداد «خريطة بشرية» للشعب الفييتنامي لتحديد بدقّة، هويّة المجموعات التي تدعم الشيوعيّين في هذا البلد، ليتمّ التعاطي معها بوصفها أهدافاً مباشرة للعمليات العسكرية والسلمية. و«التعاطي مع هذه الأهداف» عبارة أكاديمية تحمل بوضوح كلّ التصوّرات عما هو مطلوب فعله إزاء هذه المجموعات عقاباً لها لدعمها الشيوعيّين في نضالهم ومقاومتهم للمحتلّ. وفي هذا البرنامج، لم تكن الإنثربولوجيا العلم الوحيد، بل إلى جانب علماء الانثروبولوجيا، جُنِّد مؤرّخون وعلماء جغرافيا ونفس ولغة ومهندسون ومرشدون اجتماعيون لتحديد ما الذي يجب فعله لـ«اجتثاث جذور الإرهاب» حسب الأدبيات الأميركية المعاصرة.
تبدأ الرحلة بالتفتيش عن المناطق والقرى التي توفِّر الاحتضان الشعبي للمقاومة، ثم يبدأ البحث عن السبب الذي يدفع بامرأة عجوز لتخاطر بحياتها وتحضّر المأكل والمشرب والمأوى للشيوعيّين، وأحياناً توصل السلاح إليهم. على هذا الأساس، توضَع لائحة من الإجراءات: تقديم الرشوة أولاً لتكفّ العائلات ومكوّنات المجتمع الأهلي عن دعم المقاتلين. ثمّ تُنَظّم جلسات «إرشاد اجتماعي» لهؤلاء لإقناعهم بـ«فوائد» التخلّص من الشيوعيّين وبـ«منافع» الاحتلال. تقديم المساعدات الاقتصادية أساس في البرنامج، وكذلك تنظيم اللقاءات التي تهدف إلى تذكير الشعب بإلحاد الشيوعيّين وكسرهم لتقاليد المجتمع الفييتنامي التقليدي... وعندما تفشل (وقد فشلت) أدوات علماء الاجتماع ـــــ المحاربين، أو عملاء الاستخبارات بزيّ علمي، يأتي دور آلة القتل. وهكذا حُرق الآلاف من الفيتناميّين في بيوتهم المصنوعة من القشّ، وأُبيدَت قرى بأكملها، لأنّ المجتمع الأهلي لم يتجاوب مع وصفات علماء الانثروبولوجيا.
غير أنّ الولايات المتحدة لم تكن القوة الاستعمارية ـــــ الإمبريالية الوحيدة أو الأولى التي جعلت العلوم (الوضعيّة البحتة أو الاجتماعية ــــ الإنسانية منها)، سلاحاً فعّالاً وقاتلاً في الحروب، وفي سعيها نحو الهيمنة الإمبراطورية. فالمؤرخ الفرنسي آلان روسيو يشير في «لو موند دبلوماتيك» إلى أنّ فرنسا مثلاً، وهي صاحبة الإرث الاستعماري الكبير، كانت سبّاقة في تأسيس مذهب «الانثروبولوجيا الاستعمارية الميدانية العسكرية». ويذكّر روسيو بأسماء رموز في هذا المجال، ممّن لا تزال «مآثرهم» كبيرة في إدخال هذه العلوم في آلة القتل الاستعماري: الجنرال ملشيور دوماس في الجزائر، والجنرال لويس فايدهيرب في السنغال، والجنرال جوزف غالياني في فييتنام، ولويس هوبرت غوتزالفي في مدغشقر... إلى جانب العشرات من الضباط الأدنى رتبة أو الدبلوماسيّين في مكاتب دول عربية خضعت للاستعمار الفرنسي.
ويستذكر روسيو عبارة للجنرال غالياني تلخّص فهم هؤلاء لدور العلم في حروبهم يقول فيها عام 1894: «أولى جهود القائد الميداني يجب أن تكون دراسة الأعراق البشرية، كراهية المجموعات إزاء الأخرى، التنافس في ما بينها. فالضابط الذي ينجح في وضع خريطة إثنية دقيقة للميدان الذي يعمل فيه، يصبح قريباً من وضع هادئ أمنياً من خلال اعتماد تنظيم يلائمه إلى أقصى حدّ ممكن» من طريق اللعب على وتر المنافسة والخلافات والأحقاد التي تتبادلها المجموعات، أكانت قبائل أم عشائر أم عائلات... وتوظيفها لخدمة سلامة الجيش المحتلّ.
ولمّا كانت وصفة غالياني غامضة بعض الشيء، أراد إزالة أيّ لبس حولها، فأضاف في «الترياق» الذي يصفه: «كل عمل سياسي (نقوم به) في المستعمرة يجب أن يسعى إلى الاستفادة من العناصر المحلية المفيدة، وأن يحيّد أو حتى يُحطّم ويدمّر العناصر المحلية غير القابلة للاستعمال».
ويلفت روسيو إلى أن أول وأبرز وأهم درس أتت به علوم الاجتماع لتلقّنه لقادة الحروب الاستعمارية الغربية، بات أبرز مبادئ إدارة ساحات الحروب في العالم الثالث، وهو ليس سوى: فرِّق تَسُدْ. ويعطي أمثلة سريعة عن تطبيقات تلك النظرية العلميّة، من ناحية تغذية الأحقاد الإثنية أو القومية أو الدينية أو العشائرية، أو بتحديد مصطلحي «سياسة الأعراق»: أمازيغ/ عرب في مستعمرات المغرب العربي، مجموعات إثنية أكثرية ضدّ الكمبوديّين في الهند الصينية، وقبائل هوفاس/ قبائل ميديناس في مدغشقر...
ارنست خوري
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد