بل «لواء اسكندرون» وليس «هاتاي»
«واجهت الهيئة مشكلة احتواء الكتب السورية على أفكار البعث البائد ومبادئه الهدامة، التي حرص النظام الهمجي على دسّها في مناهج التعليم بهدف تسميم أفكار أبنائنا منذ نعومة أظفارهم بتعاليم بعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام الصحيحة، وكذلك تشويه التاريخ الإسلامي والعربي بمعلومات وصور غير صحيحة بما يتناسب مع توجهات الحزب الهدّامة. لذا بذلت جهودا مضنية لتنقية الكتب من هذه الأفكار قدر الوسع والطاقة، وسبقت عملية الطباعة فترة رصد للملحوظات، ليتمّ بعد ذلك تعديلها على النسخ الإلكترونية، ثم طُبعت هذه الكتب بالألوان في مطابع عالية الجودة». نقلا عن بيان هيئة الشام الإسلامية.
كنا سمعنا وكتبنا بكل مرارة عن بيع من ينصّبون أنفسهم أوصياء على الشعب السوري، ومن صادروا واختطفوا حراكهم الانتفاضي منذ سفر التكوين، الآثار السورية، ليبلغنا بعدها نبأ بيع النفط السوري بعد أن تمّ رفع الحظر المفروض أوروبيا على سوريا، ما مكّن من يسمّونهم «المعارضة المعتدلة» من تصديره من المناطق التي تسيطر عليها في دير الزور والحسكة والرقة، لكنّنا مطلقا ما توقّعنا أنّ ثمّة من يمكنه أن يجرؤ على بيع التاريخ والجغرافيا، في مزاد السمسرة السياسية، ودون أن يُستفتى صاحب الحق، الشعب السوري الذي يتوالد أوصياؤه كما يفرّخ «أصدقاؤه!».
ما تكشفه صحيفة «لوس أنجلس تايمز» الأميركية في عددها الصادر بتاريخ 16 نيسان الماضي، وتحت عنوان «المعارضة السورية تبدأ بإعادة كتابة التاريخ في المناهج الدراسية الجديدة»، يبعث على الحيرة ويطرح أسئلة ملحّة، عاجلة وخطرة في آن.
لم يتردد تقرير رجاء عبد الرحمن، في التعليق على الخرائط والنصوص الواردة في النسخ الجديدة من الكتب الدراسية المعتمدة في عشرات المدارس في مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا، في الحديث عن «تغيير جزء من جغرافية الشرق الأوسط»! ذلك أنّ «لواء اسكندرون»، الذي تحتلّه تركيا منذ 75 سنة، والذي ظلّ ولا يزال بذهن كل طلاّب سوريا وباقي طلاّب العرب أرضا عربية محتلّة مثله مثل فلسطين، وهضبة الجولان، وسبتة ومليلية والأحواز، وعربستان، أضحى بخرائط المناهج المعالجة والمعدّلة لا يحمل اسم «هاتاي» التركي، فحسب، بل جزءا لا يتجزّأ من الأراضي التركية! لا نستغرب بعدها أن يتمّ حذف كل إشارة إلى «الاحتلال العثماني» الذي استمرّ أربعة قرون، لتنتقى تعابير خالية من كلّ مضمون يحيل إلى معاني الـ«احتلال».
اختصاصيو اللجنة والمشرفون على «تنقية المناهج وتطويرها»، وذلك باستئصال وتجفيف «أفكار البعث البائد ومبادئه الهدّامة»، أزالوا نعت «التحريرية» من «حرب أكتوبر التحريرية» لتصبح «حرب أكتوبر» فقط، ذلك أن «سوريا لم تحرّر شبراً»، كما يقول المدير التربوي للهيئة جهاد خيطي. اللّجنة المشرفة على إعداد البرامج واختيار المواد، تذهب أبعد من كل ذلك، لتستبدل صورة شهيرة كانت تتصدّر الصفحة 163 من كتاب «المجتمع» للصف الخامس الابتدائي، كان يظهر فيها الرئيس الراحل حافظ الأسد رافعا العلم السوري، بما هو، مغاير تماما من حيث المضمون والرمزية: صورة لمشاة البحرية الأميركية «المارينز»، وهم يرفعون العلم الأميركي، خلال الحرب العالمية الثانية في معركة «إيو جيما!!».
تجدر الإشارة إلى أنّ «هيئة الشام الإسلامية» هي من قامت بطبع حوالي 200 ألف كتاب من كتب المناهج السورية للمرحلة الابتدائية، ثم تولّت توزيعها على مدارس 14 مخيماً للاجئين السوريين، وعلى طلاب الـ10 مدارس أخرى المنتشرة داخل عدد من المدن التركية. تقرير الصحيفة يؤكّد أيضا أن «مقرّ اللّجنة التي قامت بطباعة هذه الكتب وتوزيعها موجود في السعودية»، لتخلص ملمّحة إلى أن «الهيئة تابعة لجماعة الإخوان المسلمين»!
إذا كانت الهيئة الموقّرة تؤمن فعلا بما ورد ببيانها التوضيحي، المنشور على موقعها الرسمي، من أنّ «المشكلة ليست في الألفاظ والصور، بل في المضامين والفِكر»، فكيف لم تنتبه لجنتها البيداغوجية والتربوية المختصّة، إذا سلّمنا بحسن النية، بما تشمله عمليات المعالجة التجريفية للتاريخ والجغرافيا معا، وهي الحريصة على التأكيد في البيان ذاته على قيامها «بإجراء هذه التعديلات، وهي تعديلات كثيرة جداً، فعشرات الخرائط قد عدلت، وكذلك الأعلام، وحذفت صور بشار الأسد وزوجته ووالده وغيرها، وحذفت العبارات التي تمجد حزب البعث، إضافة إلى النصوص المقتبسة من أقوال الرئيس الراحل وقادة الحزب»؟ أم أن لجنة أخرى هي من هندست عملية التغيير؟
عن الحجج التي تساق وعن التبريرات التي تعلل بأن «عملية تعديل النسخ الإلكترونية كانت من الصعوبة بمكان»، فلم يكن فعل ذلك ممكنا إلا من خلال متخصصين، وباستخدام برامج احترافية تتيح التعامل مع الملفات من هذا النوع. ولم يكن متوافراً إلا متخصّصون أتراك لا يعرفون العربية، ومعظمهم لا يعرف الانكليزية، فرب عذر! أليس في الهيئة مشرفون وأكفاء ومختصّون سوريون وعارفون بالتاريخ والجغرافيا؟ أما كان بالإمكان متابعة «المتخصّصين الأتراك» وتوجيههم؟ هؤلاء الذين تفتقت قريحتهم ففهموا باقي النصوص ثم استعصى فهمهم حين تعلّق الأمر بتاريخ تركيا وبلواء اسكندرون؟ وإذا كانوا هم من تكفلوا بهذا الجانب، فمن تولى اختيار الصور والنصوص المتعلّقة بالكيان الصهيوني والعلاقة بالولايات المتحدة؟
المناهج التعليمية التي حرصوا على تنقيتها وتطهيرها من «أفكار البعث البائد ومبادئه الهدّامة، التي حرص النظام الهمجي على دسّها في مناهج التعليم بهدف تسميم أفكار أبنائنا منذ نعومة أظفارهم بتعاليم بعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام الصحيحة»، كما يرد في بيانهم. أليس حريا، وباسم نفس تعاليم الإسلام الصحيحة أن تراعى فيها حقوق السوريين التاريخية وأن تصان من خلالها الذاكرة الوطنية، وألا يستبدل فيها تدجين ذهني ديكتاتوري بهندسة لذاكرة تطبيعية منبتة رموز «ثورتها» المارينز وإن التحفوا بعلم الانتداب!!
ألم يجدوا في كل تاريخ سوريا، الرسمي وغير الرسمي، فضلا عن التاريخ الإسلامي، لهؤلاء الذي يصمّون آذاننا بحرصهم الشديد على الإسلام، حرص الوكيل الحصري، غير صورة مارينز الولايات المتحدة؟ من يعيدون كتابة التاريخ ويبترون الجغرافيا بمشرطهم «الإسلامي» الأطلسي، يوقّعون، قبل أن يتسلّموا سلطة غير مضمونة، صكوك ارتهانهم ويفرّطون في ما ليس لهم حقّ فيه. ألم تكن من ضمن قائمة مؤاخذاتهم أن نظام البعث «عميل» ويمارس «دجل الممانعة» وأن «الجبهة الأبرد» هي الجولان، وأنّ «التحريرية» لا تليق وصفاً لحرب تشرين، فما الذي يجعل هؤلاء يأتون ما لم يجرؤ هذا النظام على إتيانه، وإن في ظلّ صفقة بقاء؟!
هل كان لزاماً أن تتنازل الهيئة ومستشاروها من التربويين والبيداغوجيين فتفرّط، بمناهجها هذه، في ما كان حتى الأمس القريب مصدر تخوين لنظام البعث؟ هل طالبهم الأتراك والصهاينة والأميركيون، وكل هؤلاء الذين يتباكون على حقوق الشعب السوري، برد جميل المساندة الآن وقبل التربّع على عرش السلطة؟ هل هي مجرّد مبادرة أم ذلك من صلب حزمة توصيات لمّا تتكشّف خباياها بعد؟
هل تكون التعديلات عنوان المقايضة البخسة التي تفرّط في الأرض وتزيف التاريخ تأسيسا لعلاقات مستقبلية مرتهنة بالكامل لـ«أولياء النعمة»؟ أين الشعب السوري من كل ذلك، وهم أوصياؤه المعتمدون، وبتكليف ممّن يديرون حربهم بالوكالة؟ هل استشير أو استفتي قبل أن توزع مناهجهم على أبنائه بالمخيمات، وهم الحريصون جدا على «المبادرة إدراكاً من الهيئة لأهمية استمرار العملية التعليمة وعدم توقفها رغم المصاب الجلل الذي يتعرّض له الشعب السوري جراء العدوان الهمجي الإرهابي من قبل عصابة بشار وزبانيته»؟ هل يجبّ «العدوان الهمجي والإرهابي» النظامي عدوان المستعمر ويمحو همجية المارينز وما فعلوه بالعراق، وهم ممّن دبّج المناهج على مرمى حجر؟
هؤلاء الذين يصمّون آذاننا بالحديث عن «الضرورات التي تبيح المحظورات» وتعليلات «الريلبوليتيك» (السياسة الواقعية) وشماعات «الواقعية النضالية» لا يستغبون سامعهم، فحسب، وإنما يمارسون حالة إنكار جماعي، ويريدونها عوجا، تماما كأستاذة علم الاجتماع لطيفة طرابلسية، التي بدل أن تشرح لطلاب المخيمات معنى الديموقراطية وتطبيقاتها، تقضي يومها، كما تقول، وهي تشرح لهم ماهية الديكتاتورية!!
نعرف أن مشوار النهوض العربي الكبير لا يزال، في ميله الأول، داميا ومريراً، تماما كما نعرف أن ثمة قوى ردة كامنة وأخرى مستنفرة، وكيانات عربية وصهيونية وأخرى غربية تعمل الآن وغدا على إجهاض الحلم جنينا، بعضها بالعنف العاري، وبعضها بالعنف الاستيعابي، اختطافا أو إجهاضا أو اختراقا. كما نعرف أن المرحلة أكثر من عصيبة، إلا على هؤلاء الذين يزيفون الوعي الجماهيري ويبيعون شباب أمتهم الوهم والحمل الكاذب، حينا، ويرمون بهم حطبا لحروب الوكالة، ومعارك دونكيشوتية، حينا آخر، ولكننا غير هؤلاء نستصرخ: ثمة تسونامي تاريخي حقيقي يجتاح المنطقة العربية، ارتجاجاته تقوّض أسس «النظام» الإقليمي العربي تباعا وعلى جميع الأصعدة: الأمن القومي، والمصير المشترك، والهوية.
والحركات «الإسلامية»، التي كان ولا يزال حريا بها أن تؤدي دور الحصن الأخير لوقف هذا التذرذر السوسيولوجي، والتشظي الكياني، بسبب عدائها للفكرة القومية، تجد نفسها مضطرة إلى السباحة في بحيرة العصبيات الجديدة، طمعا في التمكن والقيادة، وإن لزم الأمر نسف التاريخ وتجريف الذاكرة الوطنية والتفريط في الحقوق التاريخية، ليتحالف بعضها مع سدنة غوانتانامو والقتال تحت رايات الأطلسي!
يوم نفصل بين النظم الحاكمة والوطن بكل مكوّناته ومقدّراته ونسيجه الاجتماعي ووحدته، فلا ندمّر الأخضر واليابس باسم الله وتحت رايات التوحيد! وباسم العمل «الثوري»، ولا ندلّس التاريخ الوطني ولا نفرّط في الحقوق بتجريف الجغرافيا، باسم ضرورات المرحلة، ومجاملات الديبلوماسية، وسمسرة قصيري النظر الإستراتيجي، ويوم نحصّن الانتفاضات من خطيئة تقديم صكوك الطاعة للأعداء، مجانا وقبل الإمساك بسلطة غير مضمونة، وحين نتطهّر من رذيلة الاستقواء بالغزاة الذين لا يهبّون إلا لضمان مصالحهم وفرض شروط الوصاية والتبعية الجديدة، معزّزين بـ«فضل» مساهمتهم في «التحرير»، والتدمير المنهجي والمنظّم لأبسط مقوّمات الوحدة الوطنية، ولما تبقّى من البنى التحتية تمهيدا لكعكة «إعادة الإعمار»، ويوم يعود الآباء الشرعيون وصنّاع الحراك الانتفاضي الفعليون، ليتصدّروا المشهد، يمكن أن نتحدّث فعلا عن ثورة وعن تغيير... قبل ذلك وخلاله سيظلّ هؤلاء الذين يُنصّبون أوصياء على الجماهير، لا يفعلون سوى استبدال الطغاة بالغزاة!
نبيل نايلي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد