تأجيج داخلي وخارجي لنار العراق
بدا كأن المشهد العراقي يراوح مكانه. لكن التدقيق في الصورة يوحي بخلاف ذلك، وباحتمالات خطيرة على مسار الأزمة. فالتجييش المذهبي بلغ مراحل مثيرة للقلق عند أطراف الأزمة، داخليا وخارجيا. المشاهد الجديدة لمسلحي «الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)» وهم ينفذون الإعدامات بالأسرى، تتوالى، فيما في المقابل، الحشود الغفيرة من المتطوعين للقتال الى جانب الجيش العراقي، بمن في ذلك أعضاء «جيش المهدي»، تشير الى أن «غزوة داعش» تكاد ترمي العراقيين مجدداً الى عامي الاقتتال الأهلي ما بعد الغزو الأميركي.
واذا لم تكن هذه الوقائع كافية، فإن الهجوم الذي تشنه «داعش» في مدينة تلعفر يدق نواقيس الخطر، مع تفاوت الأنباء بشأن الوضع الميداني فيها، يضاف الى ذلك الأنباء التي تحدثت عن عمليات حرق لكنائس وهدم أضرحة في مدينة الموصل التي كانت الشرارة الكبرى لانفجار الموقف. أما على الصعيد الخارجي، فقد كانت المواقف التي أطلقتها كل من السعودية وقطر بعدما التزمتا الصمت نحو أسبوع، تصب في وجهة استثمار الصراع الدموي العراقي لتحقيق أهدافهما السياسية بالتخلص من حكم نوري المالكي الذي حمّلته الدولتان الخليجيتان مسؤولية شبه كاملة عن الأزمة، من دون أن تصدر عنهما إدانة أو استنكار للهجوم الذي نفذه «تنظيم إرهابي» بحسب لائحة الإرهاب السعودية الشهيرة المعلنة في آذار الماضي.
وفيما دخلت المعارك في نطاق أضيق، حيث باتت الجماعات المسلحة تستهدف مناطق يصعب سقوطها، إلا أنّ رمزيتها وحساسيتها عالية، نظراً إلى موقعها الجغرافي وتركيبتها الديموغرافية، في محاولات حثيثة لخلط الأوراق قدر الإمكان والتغطية على استعادة المبادرة من قبل القوات العراقية، طغت مسألة التعاون الأميركي الإيراني بشأن الأزمة العراقية على مجمل التطورات أمس، حيث انصبّ التركيز على احتمال مناقشة الملف مباشرة خلال اليوم الأول من استئناف جلسات المفاوضات النووية المنعقدة في فيينا، وسط تضارب التصاريح الأميركية بشأن مدى التعاون المحتمل.
وأكدت مصادر مطلعة لـ«رويترز» فجر اليوم أنّ المسؤولين الأميركيين والإيرانيين ناقشوا الوضع في العراق على هامش المفاوضات. وصرّح مسؤول إيراني رفيع للوكالة أن الولايات المتحدة وإيران ناقشتا «الوضع الكارثي» في العراق لكن لم تصلا إلى نتيجة معينة. وأوضح المسؤول أن التعاون العسكري بين الولايات المتحدة وإيران لم يناقش «وليس خيارا مطروحا للبحث»، فيما نقلت وكالة الأنباء الإيرانية عن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف تأكيده أنّ مفاوضاته مع مساعد وزير الخارجية الأميرکية وليم بيرنز «ترکزت فقط علي الملف النووي».
في غضون ذلك، نقلت مواقع عراقية عدة إعلان بعثة الاتحاد الأوروبي في العراق، أمس، أنّ تنظيم «داعش» أحرق «كنائس عدة وهدم قبر المؤرخ الإسلامي ابن الأثير الجزري في مدينة الموصل».
ويوم أمس، تصدر قضاء تلعفر في محافظة نينوى المشهد العام، حيث تدور اشتباكات، منذ مساء أمس الأول، بين المسلحين الذي ينتمون إلى «داعش» وتنظيمات أخرى من جهة، والقوات العراقية من جهة ثانية، وسط نزوح آلاف العائلات. ويقع تلعفر، وهو أكبر أقضية العراق من حيث المساحة الجغرافية، في منطقة إستراتيجية قريبة من الحدود مع سوريا وتركيا، ويبلغ عدد سكانه نحو 425 ألف نسمة معظمهم من التركمان.
وبحسب ما ذكرت مصادر محلية فإنّ «المسلحين يسيطرون على أجزاء واسعة من القضاء»، فيما قال رئيس اللجنة الأمنية في نينوى محمد إبراهيم إنّ «المسلحين يسيطرون على نصف القضاء، بينما النصف الآخر تسيطر عليه القوات الأمنية معززة بأبناء العشائر».
وبرغم أنّ المسلحين يسيطرون منذ أسبوع على مدينة الموصل مركز محافظة نينوى، وعلى معظم مناطق هذه المحافظة التي تملك حدوداً تمتد لنحو 300 كيلومتر مع سوريا، إلا أنهم لم يبدأوا مهاجمة تلعفر سوى أمس الأول.
ميدانياً كذلك، نفذ الطيران العراقي ضربات جوية وصفت بـ«النوعية» على مواقع المسلحين في قضاء بيجي الذي يضم أكبر مصفاة نفط في العراق. وقال مصدر عسكري في مدينة سامراء رافق رئيس الوزراء نوري المالكي في زيارته إلى المدينة إنّ «الساعة الصفر اقتربت جدا، وسنبدأ بشن عملية عسكرية لتحرير مدينة الموصل». وكشفت «رويترز» نقلاً عن مسؤولين أميركيين، مساء أمس، أنّ مسؤول الاتصال التابع لوزارة الخارجية الأميركية في العراق بريت ماكغورك والسفير ستيفن بيكروفت اجتمعا مع المالكي لبحث الوضع. وقال المسؤولون إن الرئيس باراك أوباما لم يقرر بعد المطالب السياسية التي ستقدم للمالكي.
سياسياً، كان الحدث الأبرز أمس مصادقة المحكمة الاتحادية العليا في العراق على نتائج انتخابات مجلس النواب التي جرت في نهاية شهر نيسان الماضي والمعلنة قبل نحو شهر.
في غضون ذلك، وبالتوازي مع زيارة رئيس وزراء إقليم كردستان نجيرفان البرزاني إلى طهران، حيث أعلن استعداد الأكراد لمنع الإرهابيين من السيطرة على العراق، كانت اربيل في الوقت ذاته تقايض السلطات الاتحادية في بغداد أمس، حيث نقلت وكالة «رويترز» عن المتحدث الرسمي باسم حكومة الإقليم سفين دزيي قوله إنّ حكومته تعتقد أن نصيب الإقليم من إجمالي مبيعات النفط العراقية ينبغي أن يصل إلى 25 في المئة، في مقابل نسبة 17 في المئة حالياً.
كذلك، قال دزيي إن إقليم كردستان مستمر في محاولة التوصل إلى حل قانوني للنزاع مع بغداد بشأن وضع كركوك التي سيطرت قوات البشمركة عليها الأسبوع الماضي، إلا أنه أقر بأن حكومته أصبحت في أقوى وضع على الإطلاق يسمح لها بتأمين المدينة التي يعتبرها كثير من الأكراد عاصمتهم التاريخية. وأضاف «تحلّينا بكثير من الصبر. تلك المشكلة قائمة منذ أوائل الستينيات (من القرن الماضي) ... لم نحاول قط حتى حينما واتتنا الفرصة في 2003 أن نسيطر على كركوك وخلق أمر واقع وفرضه».
وبالعودة إلى الموقف الأميركي، قال المتحدث باسم البيت الأبيض جوش ايرنست، مساء أمس، إنّ الرئيس باراك أوباما سيستعرض اقتراحات فريق الأمن القومي التابع له بشأن كيفية التعامل مع الأزمة في العراق، بما في ذلك التحركات المحتملة عندما يعود إلى واشنطن في وقت لاحق من يوم أمس. وبشأن المباحثات مع طهران، قال إنّ «أياً من هذه الحوارات التي قد تجرى على الهامش (في فيينا) منفصلة تماما عن المحادثات بشأن برنامج إيران النووي». وتابع قائلا «أي محادثات مع النظام الإيراني لن تتضمن تنسيقا عسكريا.. لسنا مهتمين بأي جهد لتنسيق أنشطة عسكرية مع إيران».
من جهتها، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية جين بيساكي للصحافيين «نعتقد أن التركيز يجب أن يكون على تشجيع الزعماء العراقيين على انتهاج أسلوب غير طائفي في الحكم ونقاشنا لن يكون حول تعاون أو تنسيق بشأن أهداف عسكرية».
وكان المتحدث باسم البنتاغون الأميرال جون كيربي قد قال في وقت سابق «من المحتمل أنه على هامش تلك المحادثات أن تجرى مناقشات بخصوص الوضع في العراق.. لكن ليس هناك بالتأكيد نية ولا خطة لتنسيق نشاط عسكري بين الولايات المتحدة وإيران... لا خطط لإجراء مشاورات مع إيران بشأن الأنشطة العسكرية في العراق».
إلا أنّ هذه التصريحات تتناقض وتصريحات أعلنها وزير الخارجية جون كيري في وقت سابق أمس، حيث قال إنه منفتح إزاء أي تعاون «بنّاء» بين واشنطن وطهران حول العراق، وحذر من أنّ توجيه ضربات من طائرات من دون طيار قد يكون أحد الخيارات لوقف تقدم «الجهاديين».
وفي خضم هذه المواقف غير المحددة، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية، أمس، وصول السفينة الأميركية «يو اس اس ميسا فيردي» التي تنقل 550 عنصرا من المارينز وطوافات، إلى الخليج للتمكن من إرسال تعزيزات في حال إخلاء السفارة الأميركية في بغداد. وتنضم السفينة إلى حاملة الطائرات «جورج إتش. دبليو. بوش» التي أمرت الوزارة يوم السبت الماضي بأن تتحرك إلى الخليج بالإضافة إلى طراد الصواريخ الموجهة «فيليباين سي» والمدمرة «تروكستون» التي تحمل صواريخ موجهة.
من جهتها، أكدت الحكومة البريطانية، أمس، أنّ وزير الخارجية البريطاني وليم هيغ بحث الأزمة في العراق مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف. وقال متحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون «نحن على اتصال بالحكومة الإيرانية»، موضحا أن الوزيرين أجريا المحادثة الهاتفية «في نهاية هذا الأسبوع (الأسبوع الماضي)».
وفي الأراضي المحتلة، قال وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي يوفال شتاينتز لوكالة «رويترز» إن الولايات المتحدة والقوى الكبرى الاخرى تعهدت بأن أي تعاون من هذا النوع لن يعوق مسعاهم للحد من البرنامج النووي الإيراني، مضيفاً أنه لا ينبغي مساعدة إيران على توسيع نفوذها في العراق. وتابع أنّ ذلك سيعطي طهران نطاقا من السيطرة يمتد عبر الأراضي السورية وإلى لبنان حيث هناك حلفاء لهم. وربطاً بالملف النووي، قال «لن أتطلع قط لحل مهزلة بمهزلة اخرى».
في غضون ذلك، انتقد الرئيس الإيراني حسن روحاني، أمس، سياسات بعض القوى الدولية في «دعم الجماعات الإرهابية في المنطقة»، معتبراً أنّ هذه القوى تهدف إلى «ضرب وحدة المسلمين».
إيرانياً كذلك، رأى مساعد رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة لشؤون الإعلام الدفاعي العميد مسعود جزائري، أمس، أنّ الولايات المتحدة «تريد الانتقام من العراق لفشلها في سوريا».
أما في ما له علاقة بالتعاون بين طهران وبغداد، فقد نقلت وكالة «أسوشييتد برس» عن مسؤولين عراقيين، أمس، قولهم إنّ قائد «فيلق القدس» الإيراني الجنرال قاسم سليماني موجود في العراق للتشاور مع السلطات العليا في كيفية صد الهجمات الإرهابية، كاشفين أنّ سليماني أنشأ غرفة عمليات في هذا الصدد، إضافة إلى أنه زار أيضاً مدينة النجف وكربلاء ومناطق في غرب بغداد، في إشارة ربما إلى مناطق قريبة من مدينة الفلوجة التي يحاصرها الجيش العراقي منذ بداية العام الحالي.
وأشار المسؤولون إلى أنّه «جرى إخطار الولايات المتحدة» بشأن الزيارة، دون إعطاء توضيح.
كما نقلت الوكالة عن المسؤولين تأكيدهم أنّ طائرات أميركية قامت في الساعات الأخيرة بجولات استطلاعية لجمع معلومات استخباراتية.
عربياً، وفي أول مواقف رسمية رفيعة المستوى لهما تصدر منذ سقوط الموصل بيد المسلحين الأسبوع الماضي، اتهمت السعودية وقطر، أمس، رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بدفع بلده نحو الهاوية بسبب اعتماده سياسة «الإقصاء»، وطالبتا «بالإسراع» في تشكيل حكومة وفاق وطني.
وفي بيان نقلته وكالة الأنباء السعودية «واس» شدد مجلس الوزراء السعودي على «ضرورة المحافظة على سيادة العراق ووحدته وسلامة أراضيه»، رافضاً «التدخل الخارجي في شؤونه الداخلية»، داعياً كذلك إلى اتخاذ الإجراءات التي «تكفل المشاركة الحقيقية لجميع مكونات الشعب ... والمساواة بينها في تولي السلطات والمسؤوليات في تسيير شؤون الدولة وإجراء الإصلاحات السياسية والدستورية اللازمة». كما شدد على ضرورة «الإسراع في تشكيل حكومة وفاق وطني للعمل على إعادة الأمن والاستقرار، وتجنب السياسات القائمة على التأجيج المذهبي والطائفية التي مورست».
بدوره، حمّل وزير الخارجية القطري خالد العطية حكومة المالكي مسؤولية الأحداث. ونقلت وسائل إعلام قطرية عن العطية قوله أمام مؤتمر «قمة مجموعة الـ77 + الصين» في بوليفيا أمس الأول إنّ الهجمات تأتي «نتيجة عوامل سلبية تراكمت على مدى سنوات»، مضيفاً أنّ بغداد عمدت إلى «انتهاج السياسات الفئوية الضيقة واعتماد التهميش والإقصاء كما تجاهل الاعتصامات السلمية وتفريقها بالقوة».
من جهته، أعرب مجلس الوزراء الكويتي، في بيان، عن ثقته «في قدرة الشعب العراقي على تجاوز المحنة التي يمر بها بما يجسد وحدته الوطنية ويكرّس أمن العراق واستقراره».
أما الأردن المجاور للعراق، فقد دعا وزير خارجيته ناصر جودة إلى «عملية سياسية شاملة» في العراق «موازية للتوجه الأمني»، مؤكدا في الوقت نفسه استعداد الأجهزة الأمنية الأردنية لحماية البلاد. وشدد جودة في جلسة مغلقة لمجلس النواب الأردني على أنّ «ما يحدث في العراق من تطورات ليس ببعيد عما يحدث في سوريا».
المصدر: السفير+ وكالات
إضافة تعليق جديد