تركيا: من حافة الهاوية إلى المقصلة
ربما كان سليم الثالث متعجلاً بعض الشيء في إصلاحه النظام السياسي والعسكري. لوهلة تبدو المنطقة بأسرها رهينة الإصلاحات العثمانية قبيل أكثر من قرنين. أواخر القرن الثامن عشر، ومع انتهاء الحرب في بلغراد بين روسيا والعثمانيين، باشر سليم الثالث إصلاح المؤسسة العسكرية بمعاونة من بعض كبار ضباط الجيش.
مع كوشك حسين باشا، حاول السلطان العثماني استبدال القوة الانكشارية بنموذج من القوات الأكثر سرعة وحداثة. لم يكن السلطان ليتوقع أن إصلاحاته تلك ستترك من التبعات ما لا قرين له في التاريخ. أسّست تلك الإصلاحات، ولغير سبب، نواة الجيش التركي العلماني. كانت الجامعة هي الصرح الأول للمؤسسة الجديدة. على امتداد أكثر من نصف قرن، ظلت الجامعات مؤسسة محض عسكرية، تعلّم علوم الحرب والطب خدمة لمسار النهوض الجديد. بُعيد حرب القرم، منتصف القرن التاسع عشر، وعلى اثر التداعيات السلبية لما سمّي مرحلة التنظيمات، أعادت السلطنة إنتاج الخطاب الديني والأيديولوجي. كان عبد الحميد متوجساً من المؤسسة العسكرية الوليدة ونظام تعليمها الغربي. ولموازنة نفوذها، لم يكن أمامه من خيار غير إغراق المؤسسة الدينية بالخطاب السلفي. استدعى دعاة السلطنة آنذاك مفهوم الخلافة بعد غيابه من أدبيات السياسة السلطانية لعدة قرون. وحدها مسألة الخلافة كانت قادرة على دفع المسلمين إلى القتال في البلقان وعلى امتداد الثغور. لكن هذا الإصلاح أدى بدوره إلى مفاعيل سلبية لم تزل المنطقة تعيش تحت وطأتها إلى اليوم.
لقد وجدت الأقليات الدينية نفسها مكشوفة أمام خيارين: إما الاندماج في مؤسسة علمانية متطرفة، أو الغرق في أتون أمة متسلفة لا تعترف بحقهم في الوجود. منذاك صارت الأقليات أقرب للمؤسسة العسكرية في كل من تركيا، وبلاد الشام، وهو ما أسّس لمترادفة العسكر ــ الأقليات، في هذه المنطقة إلى اليوم. أما خطاب الأمة والخلافة فوقع هو الآخر في أزمة تاريخية أواخر فترة الوجود العثماني في بلاد الشام، وبعيد هروب السلطان محمد حميد الدين على متن الأسطول البريطاني.
ثمة حقيقة تاريخية أفضت بالإسلاميين إلى ما أفضى الواقع إليه. لم يتبنّ إسلاميّو الخلافة في السلطنة خطاباً تحررياً مضاداً لهجرة اليهود أواخر القرن التاسع عشر. بإصدار السلطنة لفرمان التملك عام 1869، دخل اليهود إلى فلسطين واستملكوا الأرض. حتى بُعيد نيسان 1882، عندما أعلنت السلطنة أول موقف معاد لتملك اليهود، هي لم تعترض على أصل الوجود اليهودي في فلسطين. كل ما في الأمر أنها دعتهم إلى الاستيطان في غير ولاية من أرض الخلافة. وهو ما جعل من قضية فلسطين قضية ملتبسة عند دعاة العودة إلى الخلافة، من مثل رشيد رضا ومن بعده حزب التحرير.
شكّلت قضية فلسطين أواخر عمر السلطنة مسألة وثيقة الصلة بالأمن القومي التركي، هي كانت محطّ إجماع المؤسسة العسكرية والدينية كحال المسألة الكردية اليوم. أعطى هرتزل آنذاك بزيارته للسلطنة عام 1901 وعوداً بتأييد الإعلام الخاضع لليهود جهود السلطنة في أرمينيا. كان شرطه الوحيد أن تتغاضى السلطنة عن الاستيطان اليهودي. مرة أخرى كانت المسألة الأرمنية أكثر إلحاحاً لعلمانيي تركيا في المؤسسة العسكرية وللسلطان الذي كان حذراً من تكرار تجربة محمد على بعيد أقل من قرن من اجتياح الأخير للمنطقة. وحده الوجود اليهودي عند المنفذ المصري المطل على المتوسط ــ فلسطين ــ قادر على موازنة الأقليات المسيحية والشيعية في الشرق، وعلى تحويل أي طموح مصري في الشرق إلى مسألة تهزّ عصب النظام الدولي.
إلى حد كبير يتشابه الأمس واليوم. سمة شِرطة حاكمة على سياسة كل من أجنحة النظام التركي. يتطلع الإسلاميون هناك إلى مبادلة قضايا ما وراء الحدود بأولويات الأمن القومي. هم يعرفون أكثر من غيرهم أدبيات ضبط المؤسسة العسكرية جيداً. قبل عامين، شرّع أردوغان للمؤسسة العسكرية فعاليتها في الشرق، فعززت المؤسسة العسكرية خطوط الأمن القومي على طول خط باكو ــ جبال أرضروم وفي العمق الكردي. بالنسبة إلى أردوغان، كان إعطاء المؤسسة العسكرية الضوء الأخضر في عملياتها في الشرق ضد حزب العمال الكردستاني، بعد إحجامه عن هذا التفويض لسنوات، يعني مبادلته السلطة العسكرية شِرطة الحكم بتفويضه في الشأن الداخلي. بالنسبة إلى المؤسسة العسكرية، هي لا ترى في أردوغان ندّاً على نحو كلي. يمثل أردوغان بالنسبة إلى قسم كبير من القوات المسلحة حالة قومية، دينية ــ قومية. ليس كل الشارع الأردوغاني شارعاً إسلامياً مثلما يتصور البعض. عشية الانقلاب كانت الأعلام الآذرية والتركمانية حاضرة في إسطنبول أسوة بالأعلام التركية نفسها. على المراقبين فهم أردوغان كحالة قومية مثلما يحلو للبعض توصيفه كحالة محض إسلامية. وإذا ما تشابهت علينا الأمور، لنستذكر أن حزب العمل القومي هو راهناً من أبرز حلفاء أردوغان.
بالعودة إلى الوراء، يبدو أنّ ثمة موازين متحولة جداً في الداخل التركي. عشية ترشيح عبدالله غول لمنصب الرئاسة عام 2007، كانت المؤسسة العسكرية على شفا إعلان انقلاب عسكري. لكن التماسها لخلاف مستعر داخل الساحة الإسلامية هو ما دفع بقائد الأركان آنذاك، إيشيك كوشانير، إلى تهدئة رجاله، شرط عدم المساس بأيّ منهم، أو لِنقُل، هكذا اشترط الجيش على جهاز القضاء. بعيد أقل من عام، وعلى اثر إعلان القبض على بعض من تنظيم أرغينيكون القومي، بدت الفرصة سانحة للإسلاميين للانقضاض على سلطة الجنرالات. اقتص التيار الإسلامي آنذاك، تحديداً جماعة الشيخ فتح الله غولن، من المؤسسة العسكرية قضائياً عام 2011، ما دفع بالمؤسسة العسكرية إلى اعتبار غولن عرّاب الحالة الإسلامية، وفي أعلى سلم أهدافها في التصفية السياسية. في تموز 2011، وكاعتراض من قبل أركان قيادة الجيش على الأحكام الصادرة في قضيتي أرغينيكون والمطرقة، أعلن المجلس العسكري التركي استقالة أربعة من أعضائه، بمن فيهم قائد الأركان. بالنسبة إلى أردوغان، بدت الفرصة آنذاك سانحة للخروج بالعدالة والتنمية من كنف غولن كما خرج من قبله من كنف أربكان. بصمت عمل أردوغان مع المؤسسة العسكرية لتقليم أظافر الشيخ العرّاب، من خلال إبعاد جماعته في جهاز القضاء، ومن خلال قوننة عمل مؤسسات الخدمة التابعة لغولن ابتداءً من عام 2012.
بتحديده للأكراد ولغولن كهدف مشترك، يعتقد أردوغان أن مساحة الوئام مع المؤسسة العسكرية باتت أكبر من مساحة الخصام. فبينما ترى المؤسسة العسكرية في إقصاء غولن وجماعته تجفيفاً لمنابع الإسلاميين، مراهِنة على نزاع الحالة الإسلامية، يعتقد أردوغان بأن العدالة والتنمية يستطيع أن يراهن على تحول في مزاج الجيش يبدو أنه آخذ في النمو منذ تسلم نيسديت أوزيل قيادة أركانه. أما المسألة الكردية، فلكل منهما مقاصده. يتطلع أردوغان من خلالها إلى أبعاد خطر الجيش عنه، فيما تتطلع المؤسسة العسكرية إلى الحرب باعتبارها أداة لاستعادة الهيمنة. بالنسبة إلى الأركان، يعتبر أردوغان الداء والدواء، الذي سيعيد من خلاله الجيش ترسيم حدود النفوذ الإسلامي داخل بنية الدولة ومؤسستها. هو كان قد أسهم في إضعاف نفوذ أستاذه نجم الدين أربكان عام 2002، ولولاه لبدت تركيا محرجة في غير مسألة على المستوى الدولي. بالنسبة إلى الجيش، لم يطرح أردوغان أياً من المسائل التي تمس الأمن القومي التركي، فلقد أولت حكومته، منذ وصولها إلى السلطة، المجال الحيوي التركي الاهتمام والعناية اللازمتين. في سوريا، وبالرغم من عظيم النبرة الأردوغانية العالية، لم يخرج عن سقف معادلة الناتو ــ وارسو التي تحكم هذين الجارين منذ قيام نظام يالطا. أما في الشرق، وعلى الرغم من الضغوط الدولية في ما يخص أرمينيا، فلقد جاهر أردوغان بدعمه الجارة الشرقية آذربيجان واعتبارها جزءاً من الأمن القومي التركي في غير مرة. لقد كان أردوغان واضحاً بُعيد اندلاع الأزمة الآذرية ــ الأرمنية حول إقليم قاراباخ بحسمه رفض خسارة آذربيجان حتى النهاية. هو يعلم أن خسارة آذربيجان في الشرق لا تعني المساس بالأمن القومي التركي فحسب، بل تعني نهاية فترة رضى المؤسسة العسكرية عنه قبل كل هذا.
هي حكاية تركيا على مدى القرنين الماضيين. في كل تغيير ثمة جملة من العوائق والعلائق الداخلية والخارجية. عشية بدء محادثات اتفاق المصالحة التركية الإسرائيلية قبيل أربعة أشهر، أقدمت الحكومة التركية على إقالة حقان فيدان من رئاسة جهاز الاستخبارات كبادرة حسن نيّة. الرجل الذي شغل إسرائيل وكان اليد اليمنى لأردوغان ومن أقرب أصدقاء إيران، وجد نفسه فجأة مقدماً كهبة تحت عنوان: حاجة داوود أوغلو له في العمل السياسي. ربما كانت إقالة فيدان بمثابة إعلان بداية الانقلاب. وقد يكون المنقلبون وجدوا خاصرة الأركان الاستخبارية رخوة في مثل هذه المرحلة. لكن المفارقة أن أحداً لم يأت على ذكر الحادثة أو حتى التدقيق فيها. ثمة درس ينبغي أن يتعلمه الإسلاميون والمؤسسة العسكرية اليوم. وهو الدرس نفسه الذي كان على سلاطين العثمانيين تعلمه قبل أكثر من قرن. إن رفع خطاب الهوية والإسلاموية على حساب قضايا المواجهة والتحرر لن يكون كافياً لتأمين المشروعية. وفي حال خسارة أي طرف لموازين حافة الهاوية، لن يؤول بنا الواقع إلى استبدال نظام بآخر، بقدر ما سيؤول إلى انتهاء الدولة. هل تخيّل العسكر لوهلة ارتداد الطاقة الجهادية التي أفلتوها طيلة الخمس سنين المنصرمة في سوريا عليهم؟ لوهلة، يبدو أن ما من أحد في تركيا اليوم يبدي كثير الاهتمام في البحث عن الحقيقة. ليلة انقلاب السادس عشر من تموز 2016، كان الكل في تركيا موقناً بأن ثمة انتقالاً لمرحلة جديدة من لعبة السياسة والهاوية. ثمة مقصلة كبرى ستكون عنواناً للمرحلة المقبلة. ليس من المهم البحث في الأحداث والأسماء ولا وفي عدد الرؤوس. الأهم أن اللعبة السياسية في تركيا، ومع الانقلاب، دخلت مرحلة المقصلة.
بشار اللقيس
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد