تركيا و«الديسك» السوري

19-11-2011

تركيا و«الديسك» السوري

عادت نبرة الخطاب التركي في السياسة الخارجية في الآونة الأخيرة إلى الارتفاع مجددا، علما أنها لم تتراجع لحظة، وإن عرفت فترات صمت أحيانا.
وكلام رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان في منتدى الطاقة في اسطنبول حول «عالمية» الأزمة السورية وانتقاده لسياسة الغرب تجاه سوريا وقبله إنذارات وزير الخارجية احمد داود اوغلو عشية المنتدى التركي - العربي في الرباط وأثناءه بتدفيع سوريا «ثمنا باهظا»، يعكس توترا وإحباطا غير مبررين، في وقت أشد ما تحتاج إليه الأزمة السورية والوضع في المنطقة إلى مبادرات عاقلة بعدما وصلت الأمور إلى طريق يبدو مسدوداً.
لقد أخطأت تركيا ودبلوماسيتها عندما مارست سياسة «إحراق المراكب» مع النظام في سوريا، ولم تترك للصلح مطرحا، كما نقول في لبنان. ومع ان هناك الكثير من العرب لديهم دوافع اكبر من الدوافع التركية للخصومة مع النظام السوري، فإن أحدا منهم لم يعلن يوما أنه «لم يعد هناك من كلام نتحدث فيه مع دمشق».
ومع ان في تركيا «عاقلاً» مثل الرئيس عبد الله غول و«ذكياً» مثل احمد داود اوغلو و«زعيماً» مثل رجب طيب اردوغان، فإن أحدا لم يكلف نفسه عناء مراجعة الحسابات والاعتراف بخطأ السلوك الذي كان متبعاً.
مبادرة الجامعة العربية تجاه دمشق، بمعزل عن جديتها أو غاياتها الكامنة، كان الأجدر بتركيا أن تحمل لواء نظيرتها منذ بداية الأحداث. وتركيا التي قالت لا للاحتلال الأميركي في العراق، كان عليها أن تقول أيضا لا لمحاولات هز استقرار التوازنات السياسية والقومية والمذهبية في المنطقة.
لقد بدا واضحا أن المواقف التركية الحادة والمتعجلة منذ بدء الأحداث في سوريا عكست قلة إدراك تركية لطبيعة التركيبة الداخلية السورية وطبيعة التوازنات المحلية على مختلف مستوياتها. كما عكست المواقف التركية أيضا قلة إدراك لطبيعة التوازنات التاريخية والسياسية والمذهبية في المنطقة. وما كلام اردوغان عن «عالمية» الأزمة السورية سوى إدراك متأخر لهذه التوازنات.
غير أن ما يؤسف له ان السيد اردوغان لم يكتف بذلك، بل تحدث بلهجة تحريضية كمن يريد للغرب أن يكرر السيناريو الليبي في سوريا، عندما قال ان العالم ساكت على ما يجري في سوريا لأن لا نفط فيها كما هي الحال في ليبيا.
وهنا نفتح قوسين لنقول إن أنقرة أيضا كانت ترى في ليبيا معمر القذافي بقرة حلوبا. والكل كان شاهدا على الموقف التركي المتعاطف في البداية مع موقف معمر القذافي كرمى للمصالح الاقتصادية التركية الكثيرة في ليبيا (ولا أحد يرفض هذه الاعتبارات في العلاقات الدولية)، والذي كان معارضا بالكامل لتدخل حلف شمال الأطلسي قبل أن تنقلب موازين القوى ويشارك الأتراك في الغزوة الأطلسية ويهرع الأتراك لينالوا قسطاً من الكعكة الليبية فيحيوا أحفاد (!) عمر المختار والناظرين إلى تعدد الزوجات أولوية في النموذج الليبي الجديد.
وبدلا من أن تتساءل أنقرة عن المسؤول عن مقتل أكثر من ستين ألف ليبي وتدمير البلاد، وهي شريكة في هذه المسؤولية، يبادر السيد أردوغان الى تشجيع الغرب على تكرار السيناريو الليبي في سوريا، وما يحمله ذلك من نتائج كارثية، في حين أن الأتراك لا يملون من التكرار من ان انفجار الوضع في سوريا سينعكس على تركيا.
لقد تحوّل الوضع في سوريا بالنسبة لتركيا الى حالة المريض الذي يعاني من مرض الديسك في الظهر. تحوّلت سوريا الى «ديسك» في الظهر التركي. وبدلا من ان تعالج أنقرة مرضها بجلسات علاج فيزيائي عبر تقوية العضلات المحيطة بالظــهر، نراها تســعى إلى علاجه بعمــلية جراحية غير مضمونة النتائج وقد تفــضي بالمريــض إلى التــهلكة من دون أن يعالــج المرض.
ترتفع الآن صيحات الحرب في تركيا. العديد من الكتاب بات يحرّض عليها، ولا يرى بديلا منها، ولا حاجة لذكر الأسماء، لكنها جميعا في الصحف المؤيدة لحزب العدالة والتنمية. كل الأسباب تفضي الى القول ان الحسم العسكري والأمني في ســوريا غير ممكن، لا من قبل النظام ولا من قبل الخارج.
وفي هذه اللحظة بالذات سيكون من الجنون لتركيا أن تبادر إلى أي تحرك عسكري بمفردها، أو بمشاركة آخرين. إن أفضل ما يمكن أن تفعله تركيا في هذه اللحظة، رغم كل الصعوبات بل الاستحالات الموجودة، أن تكون عامل تهدئة وتواصل. وإن فشل الرهانات الناتج من قلة دراية، أو من مؤامرة، أو الاثنين معا، لا يستدعي بالضرورة السير الى الهاوية. يمكن للعقل والذكاء التركيين أن يكونا عاملي لجم للجحيم «العالمي» الذي ستجد تركيا نفسها أيضا، وليس سوريا فقط، تدفع ثمنه باهظا. ليست تركيا بحاجة الى مبضع خشن لحل مشكلتها مع «الديسك السوري». القليل من الذكاء كاف لعلاجه، وبتدليك أياد ناعمة تعج بها.. المسلسلات التركية.

محمد نور الدين

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...