تعريف بفنّ الغرافيك وجمالياته في التشكيل السوريّ
أصدق ما يعبّر عن الإنسان فطرته ، وأصدق ما يعبّر عنها هو الفن، يؤكّد ذلك التاريخ، فأقدم الأعمال الفنيّة كانت من إبداع انسان ما قبل التاريخ، حيث عبّر عن نفسه وعن حياته اليوميّة وطقوسه وكذلك مخاوفه، من خلال رسوماته التي رسمها على جدران المغاور والكهوف، وذلك قبل أن يكون له لغةٌ متكاملةٌ وقبل الأبجدية بملايين السنين. وفن الغرافيك (أو مايسمى الحفر المطبوع) ينتمي إلى تلك العصور السحيقة، فأوّل أثرٍ غرافيكي وجد على صخور نهر الغاروون Garonne في فرنسا، حيث طبع الانسان باطن كفّيه المغموسة بدم الفرائس على سطح الصخور(1).
ومن أهم الابتكارات الفنيّة في هذا الفنّ هو ما قدّمه السومريّون 3100 ق.م باختراعهم للأختام الاسطوانية، التي صنعوها من الطين المشويّ وكانت تمهر بها الوثائق أو للتعريف بالأشخاص.
أثر الكفّ المطبوعة على الصخور
ومع التطوّر الحضاري وابتكار الأبجدية ومن ثمّ ظهور الورق، تطوّر فنّ الغرافيك تطوراتٍ كبيرةً، بدأت عند الصينيين الذين أبدعوا في الطباعة الخشبيّة 868 ق.م. لقد بقيت الطباعة الخشبيّة متفردةً لحينٍ طويلٍ من الزمن حتى القرن الرابع عشر حيث اكتشفت الطباعة المعدنية بطريقة النيللو Nello في إيطاليا ومن بعدها اكتشاف الطباعة الحجرية التي اكتشفها الفنان الألماني ألويز سنفلدر(Aloys Senfelder) عام 1796. بعد ذلك تطوّرت ثقانات فنّ الحفر تطوراتٍ كبيرةً وعرفت الطباعة المساميّة التي قدّمت إمكاناتٍ هائلةً في مجال الإعلان وفنّ الملصق واستخراج الدرجات اللونية المتعددة.
ألهم فنّ الغرافيك الفنّانين العالمين وقدموا من خلاله أعمالاً تشكيليةً خالدةً، ويمكن القول أن المرحلة الأهم في فن الغرافيك هي في القرن الثامن عشر وظهور مدارس الفن الحديث. وذلك لخصوصية فن الغرافيك التي تميزه بتقاناته المتعددة، وقد كانت باريس في منتصف القرن الثامن عشر موطناً لكثيرٍ من الأعمال الغرافيكية التي ألهمت فنانين عديدين مثل ادوارد مونيه – ادجار ديغا – فان كوخ – غوغان وغيرهم كما أن إمكانية نسخ عددٍ كبيرٍ من الأعمال التي أتاحها الغرافيك شكّل ظاهرةً في عالم الفن، وعُدّ خرقاً للحساسيّة تجاه الفن الذي اعتاده الإنسان نسخةً وحيدةً غير قابلةٍ للتكرار، وهذا ما نحّى الطقوسيّة والقدسيّة المرتبطة بالعمل الفني، والآلية الاحتكارية التسويقية للأعمال.
لقد استفاد الغرافيكيون من هذه الميزة بطبع أعمالهم التي تعبر عن المجتمع والإنسان والثورة، ونشرها بين الناس، خصوصاً في فترة الحربين العالميتين، وغدا الغرافيك أقرب الفنون إلى شرائح المجتمع، في الوقت الذي كانت فيه باقي الفنون أسيرة صالات العرض والمتاحف.
فنّ الغرافيك في سوريا:
دخل فن الغرافيك الى سوريا في منتصف القرن الماضي، وواكب وجوده حركة الحداثة التشكيليّة السورية. لقد أغنى فنّ الغرافيك التجربة السورية من خلال ابداعات فنانيه الذين عبّروا عن بيئتهم وحضارتهم كما عبّروا عن الخيال الذاتي ومكنونات النفس العميقة، وحاولوا محاولاتٍ جادةً لإيجاد صيغٍ تشكيليةٍ وتقانيةٍ وأسلوبيّةٍ تجمع بين خصوصيتهم وعالمية الفن كلغةٍ بصريةٍ.
والحقيقة أن انطلاقة الفنّ التشكيليّ عموماً في سوريا لم تبدأ إلا بعد التحرّر من الاحتلال العثماني، حيث بدأ النشاط الحقيقي والحرّ للفنانين، أما الانطلاقة الفعلية لفنّ الغرافيك فكانت مع عام 1960 وذلك بتأسيس كلية الفنون الجميلة التي ضمت شعبةً خاصةً لتدريس فن الغرافيك، أشرف عليها ودّرس فيها الفنان محمود حماد وتعاقب على التدريس فيها مجموعةٌ من الفنانين منهم (غياث الأخرس – برهان كركوتلي – مصطفى فتحي – عز الدين شموط – هيلموت آرت – جاك هيرمان – بيير غوتيه)(2).ويعتبر الفنان غياث الأخرس من أهمّ الفنانين الذين ابتدؤوا المسيرة لتطوير وتدريس هذا الفن بشهادة الناقد طارق الشريف الذي يعتبر أن سوريا لم تعرف معنىً حقيقياً لفن الغرافيك قبل الفنان غياث الأخرس (3).
بعد ذلك شهدت الساحة التشكيليّة السوريّة إقبالاً كبيراً على فن الغرافيك وصنعَ جيل الرواد تجارب رائدةٍ، ومن أهم الفنانين (علي الخالد – عبد الكريم فرج – نبيل رزوق – يوسف عبدلكي – ليلى مريود – زياد دلول – عبد السلام شعيرة – عبد اللطيف سلمان – هند زلفة – خلدون الشيشكلي – طلال العبدالله وغيرهم).
إن التأمّل في التجربة السورية يفتح أفقاً واسعاً للحديث عن جماليات فن الحفر (الغرافيك). فالفنّ العربيّ عموماً والسوريّ خصوصاً يمتاز بسماتٍ خاصّةٍ تشكيلياً من حيث الانتماء اللاشعوريّ إلى البيئة العربيّة في الأعمال على اختلاف مدارسها، والاهتمام بالتفاصيل والمفردات التشكيليّة والغنى اللونيّ وتنويع ايقاعات الخطوط والآثار الغرافيكيّة المختلفة في العمل الواحد، وهذا ما يعطي غنىً جماليّاً وبصريّاً، فكلّ أثرٍ غرافيكيّ يترافق دوماً مع قيمةٍ تشكيليةٍ وجماليّةٍ خاصّةٍ.
تنوّعت الأساليب والمدارس الفنيّة التي استهوت الفنانين السوريين، فمنهم من تأثّر بالحضارات القديمة التي تعاقبت على الأرض السورية، وحاولوا التعبير عن رؤيتهم الخاصّة لذلك في لوحاتهم، فالفنان مصطفى فتحي والفنان طلال العبدالله أبحروا في مجال الرمز القديم والموتيفات الثراثيّة القديمة، وحوّلوها من خلال الطباعة البارزة الى أعمالٍ رمزيّةٍ وتجريديّةٍ باستخدام الألوان الترابية المتناغمة مع عالم الماضي والذاكرة.
والفنان علي الخالد تأثّر بالحضارة التدمريّة تأثراً عميقاً، وعبّر عن ذلك بأعمالٍ سيرياليّةٍ تزدحم بالرموز والخطوط والألوان الدافئة وتأخذنا في رحلةٍ كالحلم إلى مجد زنوبيا، من خلال تقانات الطباعة الغائرة والمستوية.
والفنان غياث الأخرس مضى في تجربته بمراحل عديدةٍ، بدأها بمحاكاة المجتمع السوريّ وتصوير مشاهد للحياة الإنسانية بأسلوبٍ تعبيريٍّ، لينتقل الى عالم الرمز والتجريد الذي حاكى فيه علاقة الانسان بالأرض والسماء من خلال تقانات الطباعة الغائرة إضافة إلى الرسم على ورق البردي وتحميل هذه الطريقة قيمةً دلاليةً رمزيةً للتأكيد على الانتماء الوجداني الحضاري.
كذلك الفنان عبد الكريم فرج الذي بدأ رحلته بتصوير مشاهد إنسانيةٍ حياتيةٍ من بيئة السويداء بأسلوبٍ انطباعيٍّ، انتقل بعده إلى الطبيعة بجمالياتها اللامتناهية ليعبّر عنها بأسلوبٍ تعبيريٍّ وتجريديٍّ، مطوّعاً مختلف التقانات ليظهر جمالياتٍ بصريةً حداثيةً لا متناهيةً، فتجربته تميّزت بالتجريب والجرأة في دمج التقانات وخلق أجواءٍ انفعاليةٍ وعاطفيةٍ عميقةٍ ليفضل في النهاية الطبعة الوحيدة المونوبرينت.
والفنان نبيل رزّوق عشق الحياة الشعبيّة السوريّة منتقلاً بين الريف والمدينة، وعبّر عن ذلك بأعمالٍ انطباعيةٍ اعتمدت الألوان الدافئة في إشارةٍ الى الحنين والذاكرة، من خلال تقانات الطباعة الغائرة والمسامية، والدمج بين الطباعة والتلوين اليدوي بغية البحث عن حريةٍ أكبر في صبّ الشعور ضمن مساحات اللوحة.
إنّ التأمّل في أعمال الروّاد تظهر أنّ التجارب التشكيليّة السوريّة تمحورت حول عدّة محاور، هي الإنسانيّ والحضاريّ، والذاتيّ، ضمن رؤىً متحررةً ومنفتحةً على الآخر، وإنّ هذه الرؤيا وإن كانت ناتجةً عن فرديةٍ شخصيةٍ لكلّ فنانٍ إلا أنها بالمجمل تعطي صورةً عامّةً عن ثقافة الفنان السوريّ وهمومه الداخليّة وحلمه العميق بحياةٍ حرةٍ مفعمةٍ بالجمال. وفي ذلك تتجلّى الأصالة التشكيليّة السوريّة.
لقد ذكرنا أمثلةً لبعض أعمال الفنانين السوريين ويوجد غيرها العديد من التجارب التي أغنت التشكيل السوري. وخصوصاً التجارب الجديدة للجيل اللاحق من الفنانين والتي اتّصفت عموماً بمحاولات البحث عن الجديد في مجال التكوين والتقانة، وإيجاد عوالم بصريةٍ جديدةٍ تلبّي الحاجة الجمالية للفنان والمتلقي، وتتآلف مع الفنّ المعاصر ولغته العالميّة، فأغلب التجارب الحاليّة تميل إلى الدمج بين تقاناتٍ مختلفةٍ أو الدمج بين التصوير والغرافيك، أو إدخال الغرافيك اليدوي مع تقانات الحاسوب، كما نجد ميلاً نحو التجريد لما يعطيه من مدىً كبيرٍ في التجريب والمغامرة وتذوّق جماليّات الأثر الغرافيكي.
هذه بعضٌ من جماليّات الغرافيك السوري، والتي يعيشها الفنان مع نفسه ومع محبّي الفنّ والجمال من حوله، لكنّنا ما زلنا بحاجةٍ إلى تسليط الضوء بشكلٍ أكبرعلى هذا الفنّ وكلّ الفنون، وتقريب المجتمع إليه بكافة شرائحه، ليتكوّن حوارٌ انسانيٌّ وفكريٌّ وجماليٌّ بين الإنسان والفن، ما زلنا بحاجةٍ لتكريس الفنّ كقيمةٍ تثقيفيةٍ وروحيةٍ عليا في المجتمع، خصوصاً بعد الحرب التي استنزفت الجمال والحلم في أعماقنا.
————————————————-
الهوامش:
(1) فن الغرافيك Graphic (فن الحفر) هو اصطلاحٌ واسعٌ يعني “الحفر بالعمق لكلّ المواد التي نستطيع رسم الأشكال عليها وفي الإنكليزية تدل على الرسوم المحفورة والمطبوعة” (عز الدين شموط – تعريف بفن الحفر المطبوع – ط1 -ص7)، ولهذا الفنّ اصطلاحٌ عالميٌّ يختصّ بعملية الطباعة هو Printmakig (فن الحفر المطبوع): أي فنّ قطع أو حفر أو معالجة الألواح الخشبية أو المعدنية أو أيّ مادةٍ أخرى بغية الحصول على أسطح طباعيّةٍ تحتوي تأثيراتٍ تشكيليةٍ مختلفةٍ تنتقل بالطباعة على أنواع معينة من الورق. وتقسم تقانات فنّ الحفرالمطبوع (printmakig) إلى: طباعة غائرة – طباعة بارزة – طباعة مستوية – طباعة مسامية.
(2) محمود شاهين – على هامش المعرض الاستعادي الثاني لفن الحفر المطبوع في سوريا – صحيفة تشرين17\8\2014.
(3) طارق الشريف – فنّ الحفر في سوريا – مجلة الحياة التشكيلية – منشورات وزارة الثقافة – دمشق -ع51-52\ص91.
لبانة ربيع - مدى الثقافية
إضافة تعليق جديد