تيسير السعدي:ممثل بسبعةأصوات وتأسيس الفرقةالسوريةللتمثيل والموسيقا
عندما تنال الأولية باستحقاق وجدارة، فإنها غاية ومطلب لتميز صاحبها، لأن لها شروطها الذاتية والموضوعية والمقاييس العلمية، يضاف إليها في الفن الموهبة والأخلاق التي تكفل تهذيبها واستمرارها، وما عدا ذلك فإنها تجانب أصول التفوق والتقدم وتشكل عائقاً وإحباطاً للمجدين والمبدعين في جميع أوجه الحياة.
الأول بدراسة التمثيل في سورية هو الفنان «تيسير السعدي» حباه الله بموهبة فنية أذكتها الأجواء الدمشقية العتيقة بمظاهر الود وتنمية الذائقة الجمالية التي تحيل أيام المواطن العادي في حي شعبي إلى لوحات فنية إذاعية آسرة سوف تؤسس فيما بعد لمدرسة بيئية شعبية يشار إليها بالبنان حيث نرى أن جميع الأعمال الفنية الدرامية الدمشقية مدينة إلى الفنان السعدي وشركائه في رحلة الفن التي أمضى فيها عقوداً من الزمان، وما أبدعته الفرق التي شارك فيها تؤكد أنه فنان يرى الأمور بقلبه فيقلبها في عقله ويبذل الوقت والجهد والمال في سبيل إحياء الحركة الفنية السورية التي مهد لها أبو خليل القباني وغادرها إلى مصر.
سيرته الفنية
سيرة «السعدي» كما جاءت في كتاب (ممثل بسبعة أصوات) للكاتبة ميسون علي المدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية
تؤكد أن مسيرته الفنية لا تنفصل وتاريخه الحافل لا ينفصل عن قراءة مدينة دمشق على الصعيد الاجتماعي والسياسي والفني، فقد شكل مع رفاق مسيرته ركناً هاماً من أركان مدينته الناهضة من قيود الاحتلال الفرنسي أملاً بالمشاركة في تأصيل الهوية الوطنية وكان له ما أراد بالجهد والمثابرة والعطاء في ظروف قاسية لبعث حالة حضارية يساهم فيها الفن كما سائر الآداب والعلوم الأخرى.
السعدي هو النجم الأكثر شعبية من قبل الجمهور السوري بدءاً من الخمسينيات وقد استمرت رحلته الظافرة إلى يومنا هذا حتى استحق كل تقدير وإكبار، توجت بالتكريم وتدوين سيرتها الذاتية التي تماهت فيها الذات مع الموضوع لدرجة تستحق أن تشكل مرجعاً فنياً لا غنى عنه لقادم الأيام- من المهتمين بالتمثيل فهو التلميذ القدوة في مدرسة الفن الشعبي السوري، والمثل البارع الذي يصدق فيه قول مؤلفة الكتاب (ممثل بسبعة أصوات) و«إنه من الناس الذين يخالط حب الفن طعامهم وشرابهم ومنامهم، حتى ليبدو وكأنه ممثل يؤدي دوراً لا انقطاع فيه»... هكذا شكل السعدي رافداً أساسياً من روافد الفن السوري يمكن البناء عليه والاستسقاء من رحلته المضيئة التي ابتدأت من سوق ساروجة، الحي الدمشقي العريق الذي نسجت طابعه المقاهي ودور السينما وأصوات الباعة الجوالين، ورنين فناجين القهوة، وصاغت فنونه مطرقة النحاس تحفر الحكم والأشعار بالخط العربي البديع، ومثلها صوت الحكواتي يروي آداب الثقافة الشعبية والسير العربية، وصوت كراكوز وفصول خيال الشكل مضافاً إليها صوت سلامة حجازي.
مواكبة المتغيرات
من الظل إلى العلن رافق السعدي الحركة الفنية والثقافية السورية، وظل قريناً لكل ما يدور في بلده من متغيرات ومستجدات ثقافية واجتماعية وسياسية فكان تشكيل الفرق الفنية والنوادي الأدبية والصحافية، وقد وجد السعدي سنداً في نادي الفنون الجميلة وحظي بالتحصيل الدراسي في القاهرة ثم العودة والعمل في الإذاعة السورية فلمع اسمه مع كوكبة من الفنانين الذين شكلوا شريان الثقافة المحلية التي أخذت بالانتشار- عن طريق الإذاعة- في جميع أنحاء البلاد... ذلك أنها الوسيلة التي جمعت الشعب على حب فن التمثيل والقصص التي يكتبها «حكمت محسن» حتى أصبحت شارة الفرقة إيذاناً بالإصغاء إلى ما يدور بين «أبو رشدي» النزق، و«أبو فهمي» بارد الأعصاب، و«أم كامل» المرأة المغلوبة على أمرها، و«أبو ابراهيم» المتزن... حتى أضحت هذه التمثيليات علامة فارقة لاهتمام العامة بهذا الفن الذي ينبض بالصور الحية من حياتهم، وأعمالهم، واهتماماتهم، فمنها الحكمة والأمثال الشعبية المتدفقة التي استعادت حضورها فأصبحت جارية على كل لسان، ومن الإذاعة إلى المسرح، والسماع إلى المشاهدة تركت هذه الفرقة للتمثيل بصمة لا تنسى، وعلى الرغم من رحيل الذين ساهموا فيها، فقد ظل «تيسير السعدي» على عهده في رحلته الفنية وصولاً إلى التلفزيون الذي حضر فيه عزيزاً كريماً، ونجماً لامعاً لبراعته في جميع الأدوار التي أداها... فهو الفنان الذي عرف موهبته وزانها بالدراسة والمعرفة الأكاديمية والحياتية وتابعها عبر قراءته الثقافية التي لم تنقطع يوماً، وكان حافزه الدائم أنه جاء من بسطاء الناس وعاش همومهم وآلامهم وآمالهم، فكانت البيئة الاجتماعية مصدر أعماله وسبيله إلى تنمية الذوق الفني في مجتمع أصبح فيما بعد مقياساً لمعيار الفن وجودته وأصالته، والفنان موضوع الكتاب يتحلى بالوفاء لأهل حارته ومجتمعه وعبق زراعتها ورياحينها، وهو اليوم الدمشقي المعتق بالحب لوطنه تفوقت ذاكرته في التسعين على مجايليه من الذين أرخوا للفن بسيرتهم النبيلة وعطائهم الجليل، وتجاربهم المثمرة التي قدمت للأجيال اللاحقة فناً سورياً على طبق من ذهب.
بصمة لاتنسى
كل الممثلين نجوم وتيسير السعدي اليوم (قمرهم) لا يدانيه أحد في جهده ومثابرته وعطائه الذي لم ينقطع في جميع الظروف الصعبة التي مرت عليه فما أكسبته إلا العزيمة والإرادة حصانة فنية أخلاقية قل نظيرها: فهو الذي أشاع اللهجة السورية المحببة، وجعلها مسموعة قريبة من العامة والخاصة فأذكى خصوصية الفن السوري وبيئته الحافلة بألوان الثقافة والنضال عن طريق نشر التوعية والارتقاء بالذائقة الجمالية، واعتبار الفن من أهم وسائل التواصل، وكرّس قيمة العمل الجماعي من أجل هدف إنساني نبيل يقوم على تعزيز الفن والحوار الذي يقوم على التعدد والتنوع (لقد استطاع في غياب وتأخر الممثلين عن عملهم- أن يؤدي أدوارهم، فاستحق إنه الممثل بسبعة أصوات)... يضاف إلى سجله الذهبي الحافل: إنه لم ينشغل بالتيارات الفكرية المستجدة ولا الإيديولوجيات المتضاربة إلا بمقدار خدمتها لقضايا الشعب والفن ومساهمتها في معالجة المشكلات، وهو الذي كان يرى في التغيير الاجتماعي شرط التنمية والنهوض اعتماداً على العطاء والإبداع في ظل أي ظرف كان أو سيكون: سواء منها الواقع المعيشي الصعب أو البيئة المتزمتة لأن الفن الأصيل يتجاوز كل الحدود والسدود ليفرد ظلاله الإنسانية التي يتقبلها الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم وعصبياتهم... وقد شكلت البسمة التي زرعها على شفاه المستمعين والحضور سواءً مع فرقته أو رفيقة دربه (صبا).. شكلت مدخلاً أليفاً للقلوب وكانت فرقته مع أنور البابا وعبد الهادي الدركزللي تقدم فصولاً ضاحكةً فتدخل البهجة إلى جميع المناسبات، وكانوا يقدمون الحفلات الخاصة للنساء... وكثيراً ما تكون من غير أجر، يقول في أحد حواراته للكاتبة: «لم نكن نتقاضى أجراً لقاء العرض، كنا ندفع اشتراكات للنادي الذي يتولى تمويل العرض، وإضافة للاشتراكات كنا نبيع البطاقات، ويأتي الدعم من كبار الشخصيات، وكنا ننفق من أموالنا الخاصة في سبيل استمرارية النادي، وذكر أنه باع حصة من فرن والده وأنفقها من أجل استمرار النادي.
هوية شعبية
إنها غيض من فيض سيرة قدمتها الباحثة «ميسون علي» وقد اعتمدت فيها على الوثائق والحوار وتقصي الحقائق التي تضع الكتاب في قائمة الكتب المميزة لإصدارات هذا العام... لأنه يشكل إضافة وثائقية فنية عن بدايات فن التمثيل والمسرح في سورية... فهي وإن كانت سيرة ذاتية في أحد جوانبها فإنها سيرة للفن الذي قام على جهود فردية، وفرق تنفق من إمكاناتها لتؤسس لمدرسة فنية بتوقيع سوري وهوية شعبية أصيلة.
عفراء ميهوب
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد