جورج طرابيشي... «قائد» في حرب المئة عام
بدأ جورج طرابيشي مسيرته ناقداً أدبياً. مَن قرأ «الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية» و«الرجولة وأيديولوجيا الرجولة في الرواية العربية» و«شرق وغرب/ رجولة وأنوثة»... ما كان ليصدِّق أن الكاتب والناقد السوري الذي كشف عن نضجٍ نقدي مبكر وأطروحات خلّاقة وتحليلات أدبية ذات مذاق مختلف، سيُدير ظهره لكل ذلك ويغرق ـــــ بلا عودة ـــــ داخل مصنَّفات التراث العربي والإسلامي ومراجعه.
الحقُّ كلّه على محمد عابد الجابري. قراءة طرابيشي للمجلّد الأول من مشروع الجابري في «نقد العقل العربي» هي نقطة التحول في مسيرته. كان الرجل يَعِدُ نفسه بالمزيد من الممارسات النقدية في الرواية العربية، حين وقع على مخطوطة الجابري المرسلة إلى «دار الطليعة» حيث كان طرابيشي يعمل، ويرأس تحرير «دراسات عربية». قرأ المخطوطة وافتتن بها، ثم قرأ الكتاب بعد صدوره. «سحرني الجابري بالإشكاليات التي طرحها وبطريقته في صياغتها»، يقول طرابيشي... ويضيف: «كان «تكوين العقل العربي» الكتابَ الوحيدَ الذي حملته معي وأنا أغادر بيروت إلى باريس هرباً من جحيم الحرب الأهلية».
لكنّ نقطة التحول تأخرت قليلاً، إلى حين وقع كتاب «رسائل إخوان الصفا» بين يديه. قرأه ليُعاود التلذُّذ بالشواهد التي غرفها الجابري من هذا المرجع المهم، وبنى عليها كتابه. هنا كانت المفاجأة ـــــ الصدمة، إذْ اكتشف صاحب «من النهضة إلى الردَّة» أنّ تلك الشواهد إما مزيفة وإما مبتورة من سياقها، وأنَّ من اتهمهم الجابري بالعداء للمنطق لم يكونوا كذلك. «كانت فجيعتي بالجابري كبيرة. منذ ذلك الحين وأنا أشتغل على نقد مشروعه. أنجزت أربعة مجلدات، وسأنهي قريباً المجلد الخامس والأخير».
بدَّل طرابيشي آباءه باستمرار. من البعث والفكر القومي إلى الوجودية، ومنها إلى الماركسية ثم الفرويدية. نسأله إن كان ذلك هرباً مستمراً من فكرة الأب أم حيوية ثقافية؟ يفضِّل أن يسميه تراكماً معرفياً ونقدياً: «كلما شعرت أنّ الفكر الذي أتبنَّاه لا يعطيني القدرة على تفسير ما نحن فيه، كنتُ أتجاوزه». في المقابل، يعترف بأنّه كان يهرب من عقدة الأب: «عانيت من هذا في صغري. لم أتصالح مع أبي نفسه إلا بعد وفاته. كانت مصالحة مؤلمة ساعدني فرويد فيها». من هنا، نفهم اعتباره الجابري أباً من نوعٍ آخر في البداية، قبل أن يبدأ بنفيه. فَضلُ الجابري عليه أنه نقله من الأيديولوجيات الغربية إلى التراث العربي.
لا يبدو أن شغل طرابيشي على التراث سينتهي بانتهاء نقده للجابري. إنه مدينٌ للرجل لأنّه «ورَّطه» في التراث، لكن الردَّ عليه فتح أمامه أبواباً ومسالك أخرى للعمل عليها. «نقد النقد» تحوَّل نبرةً وحساسيةً ذاتية لدى طرابيشي. لم يعد الجابري الجبهة الوحيدة التي يحارب فيها. كتب «هرطقات1» و«هرطقات2»... وكان «المعجزة أو سبات العقل في الإسلام» (دار الساقي ـــــ 2008) آخر إصداراته. وهي كتب تبدو كأنها هوامش توصَّل إليها طرابيشي في سياق شغله على المتن المخصص لنقد العقل العربي. إنّها حصيلة جانبية لسجاله الأساسي مع الجابري الذي أفجع مفتونه مجدداً بالقول إنّه مسيحي، ولا يحقُّ له الخوض في الإسلام! يقرُّ طرابيشي بأنه فُجع بسطحيّة تعليق الجابري على نقده له، ويذكِّرنا بأن الجابري لم يكتفِ بذلك، بل أعاد صياغة تعليقه السابق في مهرجان الجنادرية الأخير حين صرَّح بأن «ثمة مناطق في الإسلام والثقافة العربية والإسلامية محظورة على المسيحي».
يأسف طرابيشي حين يُخفض بعض المفكرين العرب سقف أفكارهم، ويتخلَّون عن جرأتهم بهدف كسب الجماهير. يفضِّل صاحب «مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة» مخاطبة النخبة، ويرفض التعامل مع الجمهور العريض، مشبِّهاً الأمر بالتراتبية العسكرية في الجيوش: «مهمة المفكر مثل ضباط قيادة الأركان التي يليها ضباط الصف ثم الجنود. التوجُّه إلى الجنود مباشرةً ليس مهمة المفكر. على الأقل ليس الآن. هذه مهمة ضباط الصف».
لكنّه محارب من الجمهور ومن الأصوليين، ومغضوب عليه من السلطة السياسية. ألا يجعله هذا محكوماً بالنفي واليُتْم الدائمين؟ «بالنفي، نعم. باليُتم، لا» يسارع طرابيشي بالردّ... ويضيف: «المفكر الحقيقي هو القادر على الإنجاب. ربما لا يُنجب في هذا الجيل، بل في جيل لاحق». لكن هل هذا الإنجاب يحصل داخل محمية تضم نخبة تتبادل الأفكار فيما بينها؟ «نحن نعيش حالة نتجت عن أمرين أساسيين: خيبة الجماهير بأنظمة سياسية وأيديولوجيات، والدولارات النفطية التي غزت كل مفاصل حياتنا». بالنسبة إليه، الأصولية كانت نتيجة لكل هذا. «أعتقد أن معركتنا مع الأصولية تحتاج إلى مئة سنة، ولست متأكداً من هوية المنتصر».
أخيراً، نسأل «الناقد السابق» إن كان نادماً على هجره للنقد الروائي، وخصوصاً أن النبذة التي تُكتب عنه في إصداراته تخلو من ذكر «سوابقه» الروائية؟ «أنا أعشق الرواية. وإن كان ثمة شيء آسفُ عليه، فهو انقطاعي عن نقدها ومتابعة الجديد فيها. أنا غارق في التراث، ولا أجد وقتاً لقراءة روايات»
حسين بن حمزة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد