حركة طالبان: من مدرسة دينية إلى حكم أفغانستان
سامح عسكر:
منذ أيام عقدتُ محاضرة على موقع “تويتر سبيس” عن طالبان والوضع الأفغاني، في ضيافة “مواطن كافيه” بدعوة كريمة من محمد الفزاري رئيس تحرير “مواطن” وبدر النعيمي ومحمد هلال محرري “مواطن” في الخليج ومصر، فكان الحضور غفيرا يربو إلى ما فوق 150 مثقفا من خيرة كتاب الشرق الأوسط ومبدعيه في المجالين السياسي والديني والتاريخي، ولقد وقفت في تلك المحاضرة على محطات من تاريخ الحركة وددت عرضها اليوم بشيء من الإيجاز.
في البداية، وردًا على سؤال “هل تغيرت حركة طالبان” قلت: إن ذلك يتوقف بشكل أساسي على تغير الشعب الأفغاني بصفته الكلية، فلو تغير الكل فسيتغير الجزء بالتبعية ..مما يعني أن حقيقة تغير طالبان من تلك الزاوية يلزمها رصد لتغير المجتمع الأفغاني فكريا، وبشكل شخصي رأيت أن عدة ملفات أفغانية شابها العديد من التغير أولها “ملف المرأة” التي حصلت على مكتسبات منذ بداية عصر إعادة الإعمار الأفغانية سنة 2008 فرأينا حضورا نسائيا مجتمعيا وفنيا وإعلاميا صنع عدة مكتسبات للمرأة لن تفرط فيها بسهولة، وعلى ما يبدو فإن طالبان ستعاني من هذا الملف كثيرا نظرا للضغوط الهائلة الواقعة عليها من أطراف إقليمية ودولية لإجبارها على تغيير مسارها السياسي والديني ناحية المرأة، وبالطبع ستكون أولى خطوات هذا التغيير هي مناقشة وضع المرأة الأفغانية في التعليم وحق التوظيف كحد أدنى يمهد للمرأة الأفغانية المشاركة بالحكم.
الأمر الثاني وهو ملف الأقليات الدينية والعرقية، فالشيعة الأفغان تصل نسبتهم إلى ما بين 15 : 20% من الشعب الأفغاني، ويملكون حضورا شعبيا واجتماعيا قويا في النسيج القبلي الأفغاني عن طريق عشائر الهزارة وفي التوزيع الديمغرافي لتلك العشائر التي تتركز في الشمال والوسط والغرب أكثر إضافة لحضور قوي في العاصمة، ولأن تاريخ حركة طالبان مع الشيعة ليس على ما يرام دفع ذلك الإيرانيين للحذر في التعامل مع ملف أفغانستان بتهور عسى أن ينجح الإيرانيون في تدجين طالبان ودفعها لتغيير سلوكها ناحية الشيعة.
فدولة إيران تصنف طالبان حركة إرهابية منذ اعتقالها لدبلوماسييها في مدينة مزار الشريف سنة 1998 في أحداث وصفت حينها بالطائفية؛ إذ سبقتها عدة معارك مع مقاتلي حزب الوحدة الشيعي بقيادة زعيمه “علي خليلي” ومن قبله قتل زعيمه الروحي “عبدالعلي مزاري” وباتهامات لا تخلو من الشرك والكفر على الطائفية الشيعية بالكامل في أفغانستان، علما بأن علي خليلي شغل مؤخرا منصب نائب الرئيس الأفغاني الأسبق “حامد كرزاي” مما يعني أن دولة ما بعد طالبان شهدت حضورا للشيعة الأفغان على مستوى القيادة وبالطبع سيؤدي ذلك لتشجيع الرؤية الانتقامية السنية لدى طالبان بدعوى الخيانة، إضافة لتراكب هذه الدعوى مع الخلاف المذهبي فيصبح مستقبل العلاقة بين طالبان والشيعة محفوفا بالمخاطر.
ذكرت أن موقف طالبان من الشيعة مركب حيث يطغى العامل القبلي والديني على هذا الخلاف بشكل معقد، فطالبان منتمية بشكل كامل للعرقية البشتونية التي تمثل فوق 40% من الشعب الأفغاني، بينما ينتمي الشيعي لقبائل الهزارة التي هي أقرب للعرق التركي والفارسي، وبالتالي فالخلاف جد مركب ومعقد يجمع بين الخصومة المذهبية التاريخية بين السنة والشيعة وبين الخصومة السياسية التي حارب فيها الشيعة حركة طالبان في التسعينات بالتعاون مع قبائل الطاجيك والأوزبك في الشمال مع عبدالرشيد دوستم وأحمد شاه مسعود، إضافة لتاريخانية هذا العداء المذهبي وما يكنه شيعة أفغانستان تجاه الحكم البشتوني الذي دفع الأمير الأفغاني “عبدالرحمن خان” والمتوفى سنة 1901 بعقد مجازر طائفية ضد الشيعة نهاية القرن 19 في إطار معركته للسيطرة على الحكم لصالح بريطانيا.
علما بأن هذا التوقيت –أي نهاية القرن 19– شهد حروبا بالوكالة بين بريطانيا وروسيا كانت أفغانستان هي مسرح تلك الحروب فيما سميت تاريخيا بـ”اللعبة الكبرى”، ومن ثم يظهر لنا أن ثمة علاقة بين الحضور الروسي في أفغانستان ومصالح زعمائه وبين الصراع القديم بين روسيا وأوروبا، حيث أدى ذلك لاندلاع 3 حروب عرفت بالحروب (الأنجلو أفغانية) وهي التي اشتعلت بين الأفغان والمحتل البريطاني القريب في الهند باعتبار أن أفغانستان هي البوابة الغربية للهند، وبالتالي فسيطرة روسيا عليها تمثل تهديدا مباشرا لمصالح بريطانيا في الهند، وقد حصلت تلك الحروب في سنوات (1839-1842) و(1878-1880) و(1919) والأخيرة أدت لهزيمة بريطانيا ورحيلها عن منطقة آسيا الوسطى بشكل كلي.
من هنا يظهر أن السؤال الحاسم عن حقيقة تغير طالبان تملؤه التفاصيل والمناقشات الفكرية والسياسية والتاريخية والاجتماعية والدينية، علاوة على مناقشة حاسمة أخرى لحقيقة تغير طالبان أيدلوجيا بما يجعلها ترفض فكرة الحكم الديني، وفي هذه الجزئية لم يظهر من طالبان رفضها للحكم الديني، فهي ما زالت ترفض تحويلها كحزب سياسي ..وهو شرط لإيمان طالبان بالتعددية السياسية والمجتمع الديمقراطي، حيث يستحيل على طالبان أن تحكم ديمقراطيا بالجماعة الحالية ولكن بحزب منافس ضمن إطار تعددي، فالحزبية والتنافس ما زالا غائبين عن مُكوّن طالبان الفكري، علما بأن هذه المشكلة قد عانى منها إخوان مصر لعقود حين نصحهم المقربون بتحويل الجماعة لحزب لكن قياداتهم رفضت طوال عشرات السنين، وحين فعلت ذلك بعد ثورة يناير لم تفصل عمليا بين الحزب والجماعة مما أدى لثورة الشعب المصري على الحزب بصورة ثورته على الجماعة، وهي نتيجة سياسية طبيعية لمراهقة زعماء الإخوان سياسيا حينها وفقرهم المعرفي الشديد بتحديات العصر.
وفي سؤال عن التشابه بين طالبان وداعش قلت إن المقارنة تجب أولا بين داعش والقاعدة لإثبات مخالفة داعش لأصول وإجماعات المذهب السني في قضايا عديدة، وذكرت ما قلته في مقال قديم منذ سنوات بعنوان “تعالوا لنفهم داعش” ولن أذكر هنا ما قلته في المحاضرة والمقال يكفي للشرح، وإيجازه باختصار شديد أن القاعدة يحكمها إجماعات المذهب السني وبالخصوص في شأن الخلافة التي تتطلب الإجماع على مبايعة الخليفة، بينما هذا غير متحقق عن داعش التي أعلنت خلافتها دون الاتفاق مع أحد وبشكل فردي محض مما أشعل حروبا بينها وبين تنظيمات سنية أخرى كالقاعدة والجيش الحر وجماعات سورية مقاتلة بالعشرات، وبما أن طالبان حركة سنية فهي محكومة بإجماعات المذهب السني على نفس النمط إضافة لخلاف كبير حول توجه حركة طالبان الجهادي المحصور كليا بشكل محلي ولم يثبت حضوره دوليا خارج الحدود الأفغانية بالشكل الذي يعاني منه السلفيون الجهاديون.
مع ذلك ذكرت أن طالبان هي إسلام سياسي متشدد وليس معتدلا كما يحب وصفه البعض الآن لقبوله وحماسه لطرد المحتل الأمريكي، وبالطبع فالذي يطرد الاحتلال ينبغي له أن يتسم بشيء من القبول النفسي والأخلاقي قبل السياسي، ومن تلك المنطقة حصلت طالبان على شعبية -ولو بسيطة- في الشرق الأوسط الكاره بشكل كبير للسياسات الأمريكية وتدخلاتها في شؤون المنطقة، علما بأن بعض مفكري الإخوان المسلمين اتهموا طالبان في التسعينات بالعمالة لصالح الولايات المتحدة بعد سيطرتها على كابول، ومن أمثال ذلك الدكتور المهندس أحمد فريد مصطفى في كتابه (مذكرات مهاجر إلى المدينة المنورة) وقد حكى فيها الدكتور الإخواني مذكراته في أفغانستان وذكر أحداثا في صفحة 37 من الكتاب عن تعاون وثيق بين طالبان وأمريكا.
علما بأن هذه الشهادة من فريد مصطفى قد تكون مزيفة لعوامل منها طرد الحركة للمجاهدين الأفغان من كابول وخصوصا القائد الإخواني الشهير “عبدرب الرسول سياف” وهو أحد أكبر زعماء الجهاد الأفغاني المنتمين للتنظيم الإخواني فكريا وسياسيا، وبالطبع عندما يطرد الطالبانيون سيافا ورفاقه إضافة لزعماء الجهاد الآخرون كبرهان الدين رباني –ذي الميول الإخوانية أيضا- فمشاعر الإخوان العدائية تجاه طالبان ستكون طبيعية ويحكمها التنافس والصراع السياسي لا الخلاف الأيديولوجي المتطابق بشكل كبير، وأذكر هنا أن الأستاذ فهمي هويدي وهو أحد مفكري الإسلام السياسي ذكر في التسعينات وصفا لحركة طالبان هو (جند الله في المعركة الغلط) وهو وصف يختصر العلاقة بين طالبان والإخوان، فطالبان وفقا لهويدي والإخوان هي (جند الله) لكن بما أنها حاربت عناصر التنظيم فهي (معركة خاطئة).
علما أيضا بأن عبد رب الرسول سياف له ذكريات تعاون واحترام بينه وبين طالبان في البداية، حيث أثنى على طالبان في مجلة الإصلاح سنة 1996 بقوله: “طالبان هم أحبابنا ولا زالوا على صلة بنا” والمصدر مجلة البيان ج 130 صـ 70، مما يعني أن الحركة البشتونية في بداياتها حصلت على دعم المجاهدين الأفغان بصفتها حليفة جهادية ضد السوفييت في السابق، لكن عند ثورتها على الحكم وسيطرتها على كابول سنة 1996 فالطبيعي أن تنشأ الخلافات وتشتعل الصراعات بين حلفاء الأمس وخصوم اليوم.
أما عن سؤال هل هي حركة صوفية أم سلفية، قلت إن الحركة تمنع الموالد والأضرحة وشواهد القبور، وهذه علامة على توجه سلفي يرفض التوسل والاستغاثة، وتاريخيا موقف طالبان من التوسل مذكور في مجلة الطالب بالتسعينات، وهي الناطقة باسم الحركة وقتها حيث ذكر في العدد 10 صـ 11 أن طالبان تنبذ التوسل وتحرم الاستغاثة، وهذه أمور أساسية في السلوك والمعتقد الصوفي، حتى في بند الصفات الخبرية يذكر مفكري طالبان أنهم أقرب للحنابلة كمقال مولوي بير محمد حين أيّد معتقد الحنابلة في الصفات بنفس العدد صـ 12، مما يعني أن مقولة انتماء طالبان للمذهب الماتوريدي هي الأخرى محل شك، وفي تقديري أن ثمة خلافًا كبيرًا بين عناصر الحركة وانشقاقات فكرية لم يظهر منها إجماع على معتقد واحد، وهذه من أحد نتائج العمل السياسي حيث تذوب الفوارق العقائدية بين المقاتلين إذا أجمعوا على هدف سياسي واحد، وطالبان رفعت شعار الجهاد الإسلامي والحُكم الديني فبالطبع ستكون خلافات الفقه والعقائد وقتها ثانوية.
لكن هذا لا يعني أن تلك العقائد غير مرشحة للاشتعال بل مرشحة وبقوة إذا هيمن فريق منهم على الحركة وبدأ في إقصاء الطرف الآخر فستظهر وقتها تلك الخلافات على شكل حروب دينية تكررت كثيرا بين جماعات العنف الديني سواء في أوروبا أو في الشرق الأوسط.
فالثابت أن الحركة تطلب تطبيق الشريعة حرفيا كما يؤمن بها الوهابيون السلفيون، ويظهر ذلك من تطبيقها الأول بين عامي 1996–2001، ومن مقالات مفكريها كالدكتور شير علي شاه في جريدة المسلمون سنة 1996 وهو أستاذ حديث باكستاني بجامعة المدينة المنورة في السعودية، ومن قبلها أستاذ حديث في جامعة دار العلوم حقانية وهي إحدى مدارس باكستان التي صنعت طالبان منذ السبعينات، إضافة لمدارس أخرى كدار العلوم بكراتشي والجامعة الأشرفية في لاهور، علما بأن الزعيم الباكستاني في السبعينات “ضياء الحق” هو الذي دعم تلك المدارس سياسيا بشكل ضخم لمواجهة المد الشيوعي وبدعم كامل من الولايات المتحدة، ومن تلك الزاوية نرى أن ضياء الحق سلك السلوك نفسه للرئيس المصري أنور السادات حين دعم الجماعات والإسلام السياسي والمدارس الدينية لمواجهة الشيوعيين للسبب نفسه، وهو تحالف مصر وباكستان وقتها مع الولايات المتحدة ضد السوفييت.
حتى في تصريحات الملا عمر نفسه فله مقولة ذكرها حفيظ الله حقاني في كتابه (طالبان في أفغانستان) حيث يقول صـ 107: “نريد تطبيق دين الله في أرضه ونريد خدمة كلمة الله وتنفيذ أحكامه الشرعية وحدوده”. وهذا الكتاب يعد من أنجب الكتب التي كتبت في طالبان واسمه بالكامل (طالبان أفغانستان من حلم الملالي إلى إمارة المؤمنين) لصاحبه حفيظ الله حقاني، ومما ذكره أن طالبان تتبع المدرسة الأثرية الحديثية المعروفة بالمنهج النظامي لمؤسسها الشيخ نظام الدين بن قطب الدين السهالوي والمتوفى عام 1748، والمدرسة الأثرية التي ينتمي لها هذا الشيخ لا تعمل بالتأويل سوى في نطاق محدود أشبه بتناول الحنابلة للنصوص الدينية حيث يقولون بوجوب ظاهر النص في الغالب، وهي نقطة قد استشكلها الشيخ يوسف القرضاوي على سلفية هذا الزمان حيث سماهم بـ”الظاهريين الجدد” نسبة للمذهب الظاهري المتشدد الذي يؤمن بحرفية النصوص ووجوب اتباع تعاليم الظاهر وترك العمل بالتأويل وخلافه مما يميز مدرستي المعتزلة وعلم الكلام.
ومما قلته أيضا أن حركة طالبان هي ظاهرة إسلام سياسي في صراع ديني عالمي هو الذي أعقب عصر القومية، فالحروب المبنية على أساس قومي انتهت، هي التي ميزت البشرية في النصف الأول من القرن العشرين بحربين عالميتين ثم أعقبها صراع أيديولوجي سياسي بين الرأسمالية والشيوعية، وهذا أيضا انتهى. بيد أن الذي نعيشه الآن هو صراع من نوع مختلف يغلب عليه الطابع الديني بين معسكر يؤمن بحرفية وظاهرية النص الإسلامي الداعي للشريعة والغزوات والفتوحات وبين عالم حداثي ناقم وثائر على كل منتجات هذا المعسكر وتجاربه الدينية في الماضي، خصوصا في أوروبا التي عانت من تلك الحروب الدينية لعدة قرون مما دفعها لتغيير ثقافتها بشكل شبه كامل لمجتمع علماني لا فرق فيه على أساس الانتماء الديني، وهي الحقبة التي بدأ فيها ترسيخ فكر المواطنة والعقد الاجتماعي الذي جاء بالحداثة لاحقا ومجتمع حقوق الإنسان.
وفي سؤال عن العلاقة بين طالبان وأمريكا قلت إن العلاقة هي بين أمريكا وأفغانستان ككل، حيث إن تلك العلاقة يحكمها نظرية “الدومينو” التي شغلت العقل الأمريكي في الحرب الباردة وتعني أن سقوط دولة ما في حضن الشيوعية سيعقبها تساقط كل دول الجوار في قبضة الشيوعيين، ومن هذا المنطلق غزت أمريكا فيتنام ودعمت المجاهدين الأفغان ضد الاحتلال السوفيتي، في مقابلة بالكربون انتقم فيها الأمريكيون من دعم السوفيت لشيوعيي فيتنام بدعم إسلاميي أفغانستان ضد شيوعيي البلد نفسه، ولأن هذا الصراع الأيدلوجي قد انتهى مثلما قلنا وأن البساط قد انسحب لصالح الصراع الديني فلم تعد أفغانستان مصلحة أمريكية ضد روسيا والشيوعية كما في السابق، وتلك الجزئية هي التي دفعت الولايات المتحدة لمراجعة وجودها في أفغانستان طبقا لنهاية عصر الدومينو.
وردا على سؤال عن حقيقة براجماتية طالبان، قلت إن السياسة تعني البراجماتية فإذا أرادت طالبان أن تصمد ويبقى حكمها لابد أن تمارس قدرا كبيرا من البراجماتية لطمأنة دول الجوار أولا، ولترسيخ حكمها في أفغانستان للقضاء نهائيا على أي تهديد عسكري مثلما أخطأت في السابق وتركت خصومها العسكريين في الشمال ليكونوا هم الخنجر الذي يقضي عليهم بمساعدة أمريكية في سنة 2001، وتلك البراجماتية رأيناها بوضوح في تصريحات المتحدث باسم طالبان سهيل شاهين بأن “الصين دولة صديقة”، وفي استقبال وزير خارجية الصين لبعض زعماء طالبان في يوليو الماضي 2021 علما بأن مصلحة الصين في احتواء طالبان والتعاون معها في طريق الحرير أولا، وفي الاستثمارات بقطاع التعدين ثانيا، ولأن أفغانستان تمثل حدا جغرافيا مهما لأمن الصين القومي من الناحية الغربية ثالثا.
كذلك في طمأنة طالبان دولة إيران على شيعة أفغانستان وسماحها بعقد الاحتفالات الدينية للهزارة، فردت إيران بتصريحات إيجابية منها أن طالبان هي جزء من النسيج الاجتماعي الشعبي الأفغاني ولا يمكن تجاهلها، مع أخبار عن تعليمات إيرانية للإعلام المحلي بعدم وصف طالبان بالحركة الإرهابية أو المتشددة لقطع الطريق عن مخططات محتملة في ذهن الإيرانيين بإشعال حرب سنية شيعية بين إيران وطالبان هي في مصلحة إسرائيل وأمريكا في المقام الأول، ومن تلك الزاوية ترى إيران أن تواصلها مع طالبان ضرورة إقليمية ومصالح مشتركة ضد المحتل الأمريكي ولا يُستبعد أن تكون هناك علاقات عسكرية بين الجانبين مثلما تردد عن تواصل طالبان منذ سنوات مع زعيم الحرس الثوري إسماعيل قاآني ودعم قاآني للحركة بالسلاح كأحد أدوات الضغط ضد أمريكا والناتو في صراع إيران مع الغرب بخصوص الملف النووي والشرق الأوسط.
أما علاقة طالبان مع باكستان فتحكمها رغبة باكستانية بتوحيد أفغانستان وتفريغها من السلاح الذي قدر مؤخرا بـ30 مليار دولار منها 10 مليار دولار سلاح أمريكي متقدم، وباكستان تنظر لطالبان كملف أمن قومي يهدد الحدود الغربية للبلاد، فطالبان تمثل العرق البشتوني المتواجد في باكستان بما يربو على 30 مليون مواطن، وهو رقم كبير له دلالته حيث إذا نجحت طالبان في استمالة بشتون باكستان فستكون مقدمة للقضاء على السلطة الباكستانية الحديثة لصالح دولة راديكالية دينية ممتدة تشكل أفغانستان وباكستان معا، ولتحقيق ذلك يلزم طالبان إقناع البشتون في باكستان للانضمام للحركة وهو ما حدث جزئيا في جبال وزيرستان منذ سنوات حيث تركز وجود طالبان في تلك المناطق فترة من الزمن للتمهيد وصناعة دولة دينية جديدة، إضافة لرغبة الشعب الباكستاني نفسه الذي يميل شعوريا للإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي إضافة لكراهية مفرطة لأمريكا، مما يعني وجود شعبية كبيرة لطالبان في باكستان قد تهدد عرش عمران خان مستقبلا.
ومن هنا يكون الملف الباكستاني هو أكثر ملفات طالبان حساسية لارتباطه جذريا بمنشأ طالبان الديني وهي المدارس الدينية للحركة الديوباندية توجد منها آلاف المدارس على مستوى العالم تخرج فكر طالبان كل يوم، حيث ترعاها ما تسمى جمعية علماء الإسلام Jamiat Ulema-e-Islam أي ليس محصورا وجود الحركة فقط على أفغانستان وباكستان، كما توجد آلاف من مدارس الأزهر التي تخرج وهابيين يؤمنون بتطبيق الشريعة الوهابية والتقليد الحرفي بالشكل نفسه، علما بأن الحركة الديوباندية الهندية التي أسست طالبان لم تكن متشددة في تطبيق تعاليمها بالبداية، لكنها تشددت وصارت أكثر عدوانية بعد حروب الاستقلال الباكستانية ضد الهند، ويمكن اعتبار أن تاريخ ظهور الجماعات الجهادية في آسيا الوسطى بصفة عامة كان مرتبطا بتلك الحروب.
كما أن ضعف العلمانيين الأفغان والباكستانيين يمكن القول إنه السر في رواج وانتشار طالبان، فالدولة لم تدعمهم مقابل انتشار كاسح لمدارس الديوباندية الدينية، شبيه بما يحدث في مصر حين انتشرت مدارس الأزهر الدينية انتشارا كاسحا وبدعم من الدولة مما أدى لانقلاب فكري وهابي صار هو المسيطر على المصريين إلى اليوم، فمصر كانت مرشحة لتكرار النموذج الأفغاني لولا تسرع الجهاديين بقتل رموز الدولة ونخبتها إضافة للسياح والأقباط حيث صنع ذلك نقمة شعبية عليهم دفعت كثيرا من السلفيين والجماعات للحذر من إبداء قناعاتهم ونقد الجهاديين في الظاهر، وهو الذي أدى لتأخير أفغنة مصر لسنوات.
أختم بحقيقة سياسية وهي أن سيطرة طالبان على أفغانستان شبيهة في مجرياتها وعناصرها بسيطرة الحوثي في اليمن، إذ إن صعود طالبان في أفغانستان كان طبيعيا في ظل تهدد شرعية الرئيس برهان الدين رباني في ظل انفلات أمني وصراع قبائلي واسع، وهو نفس الصعود الحوثي حيث ارتبط بتهدد شرعية الرئيس عبدربه منصور هادي في ظل انفلات أمني وصراع قبائلي يمني واسع أيضا، وكلتا الحركتين ترفعان شعار الجهاد ضد أمريكا من المحل، وهذا الذي يفرق بين هؤلاء وحركات القاعدة وداعش والإخوان الذين يؤمنون بالجهاد العالمي لفرض الشريعة السنية المنصوص عليها في كتب الأئمة، وهذا التشابه يعطي لمحة مستقبلية عن أفغانستان واليمن حيث سيرتبط الإصلاح فيهما بزوال التهديد الأمريكي والتدخلات الخارجية أولا، ومن ثم إدخال تلك الحركات كأحزاب سياسية تنافس في مجتمع ديمقراطي.. وهذا بعيد المنال اليوم لكنه متوقعًا إذا نجح زعماء تلك الحركات في إصلاحات بنيوية وعقائدية وهيكلية كبيرة لا يمكن البدء فيها اليوم لأسباب سياسية وطائفية تمنع ذلك الإصلاح إلى حين.
مواطن
إضافة تعليق جديد