حين ولد «داعش» من رحم الاحتلال I
تجري الرياح سناسن في العراق. القصف لم يحقق شيئاً ملموساً. أبعد مؤقتاً «داعش» عن القواعد العسكرية الأميركية في أربيل ومقار المخابرات وشركات الاستثمار الخليجية و«كارتلات» النفط العالمية ومنها «اكسون موبيل». والحديث عن المؤامرة دائرة كاملة من الوقائع والتحليلات. ليست نظرية المؤامرة هي التي تتحكم بالأحداث ولكن الأحداث هي التي تقرر مصير المؤامرة. فلا يمكن مواجهة مضاعفات أو عقابيل القوى المتصدرة في سياق الصراع، إلا بتبديل الإستراتيجية على ضوء المتغيرات أو تغيير الثوابت تحت مظلة الفشل الذريع للإستراتيجية السابقة. كل ذلك يشمل جميع أطراف الصراع من دون شماتة من أحدهم أو مكابرة من الآخر. وتبقى لحد الآن المبادرة بيد القوة الآيلة للانحدار، اميركا، والتي فرضت تقسيماً ميدانياً عسكرياً في العراق، فالجو بات لها والأرض لمن تبقى من قوى نادي «الكوندومينيوم». وضمن مسيرة القصف هذه لم تقترب اميركا قيد أنملة من زمن القضاء على «داعش». ولن تقترب.
ضغوط البيئة ومبادرات النخب
في الدراسات الميدانية التي نفذتها مراكز التحليل الأميركية، كان الشائع لديها أن «البيئة» الإسلامية العراقية تاريخياً جامدة وغير قادرة على النمو بصورة مستقلة عن مخزونها الديني السلفي، وهي أيضاً حاضنة جاهزة لنشوء التيارات المناهضة للسلطة الدينية الرسمية من جهة أو السلطة السياسية من الجهة الأخرى. لكن الدراسات المتميزة للعديد من المراكز العراقية الأكاديمية قد تجاوزت هذه الآراء الفجة وتمكنت، من خلال سبرها أغوار التاريخ العراقي عموماً والمعاصر خصوصاً، من الوصول إلى استنتاجات مغايرة تماماً. بل أكدت هذه الأطروحات، ومنها كتابات الدكتور يحيى الكبيسي، أن السلفية الدينية نفسها لم تكن قوية في نهوضها أولاً، وكانت عاجزة كلياً عن الامتداد الأفقي في البيئات المختلفة في البلاد. وهي كانت على العموم»حالات فردية لم تتحول إلى «مناخ شعبي» عام له الثقل في دفعها بالاتجاه السياسي المرغوب.
إن صعود البونابرتية العسكرية في العام 1958 كان له ضغوطه الخاصة في استفزاز هذه النخب،التي كانت معادية للحدث، ومبادرتها إلى تطوير أدواتها المعرفية، الدينية أولاً، وإلى تغيير أساليبها اليومية في الانتشار والتنظيم ثانياً. ولأنها لم تصطدم مع السلطة البونابرتية، وهذه ليست مهمتها، فقد غضت البونابرتية عملياً عن نشاطاتها واعتبرتها جزءاً أليفاً من الحياة الدينية للمجتمع. بل إن هذه البونابرتية، في مرحلتي عبد الكريم قاسم والأخوين عارف، لم تتصدَّ مادياً لهذه التيارات حتى حين تحول البعض منها، الحزب الاسلامي ـ «الإخوان المسلمين» و«حزب الدعوة»، إلى أحزاب شبه منظمة، بل هي استفادت عملياً منها في مواجهة الحزب الشيوعي العراقي وطاقاته التنظيمية المتوغلة في النسيج الاجتماعي للقاعدة الشعبية للمرجعيات المذهبية المتفاهمة في مختلف مضامينها اللاهوتية.
حاول بعض قادة السلفية «السنية»، ومنهم الشيخ عبد الحميد نادر، إدخال بعض الشباب إلى الكلية العسكرية بغرض تخريج ضباط سلفيين يدعمون النظام السياسي العام. وقد تبوأ بعضهم مراكز مهمة في الحرس الجمهوري وساهموا في انقلاب 17 تموز 1968 من خلال التعاون المباشر مع بعض الضباط «المتدينين» في الجيش، والمتعاطفين مع الحركات القومية ومنها حزب «البعث» ـ مجموعة أحمد حسن البكر وتابعه صدام حسين. لكن هؤلاء رفضوا بشدة دعوات اللواء عبد الغني الراوي، وهو قومي إسلامي متشدد، للتعاون معه في محاولته الانقلابية في العام 1969، وذلك لمعلوماتهم أنها مرتبطة مع المحور السعودي ـ الإيراني حينذاك. وقد بذل صالح عبد الله سرية، أحد المشاركين والذي قاد الاستيلاء على الكلية الفنية في مصر السادات لاحقاً، جهوداً كبيرة لإقناعهم، ولم تتوفر له الفرص أبداً. لكنهم وبعد تنحية أحمد حسن البكر واستيلاء صدام حسين على السلطة، العام 1979، نظموا أنفسهم في إطار عسكري سلفي ومنهم الضابط سعدون القاضي، الذي أصبح بعد الاحتلال الأميركي 2003، ولحد الآن، القائد الفعلي لحركة «أنصار السنة»، وكذلك الضابط الطبيب محمود المشهداني الذي أصبح في انتخابات العام 2005 رئيساً لمجلس النواب. وقد أجهضت مخابرات صدام حسين هذه الحركة الوليدة وقتلت بعض أفرادها وسجنت الآخرين.
حروب الخارج والسلفية المنظمة
استعادت السلفية المنظمة حيويتها من جديد عبر انفجار الحرب الشاملة بين العراق وإيران . وتمكنت في الثمانينيات من استغلال ظروف الحرب القاسية والعلاقة الجيدة بين العراق والسعودية إلى تهريب المئات من الكتب السلفية إلى البلاد. وكانت هذه السلفية مؤيدة سياسياً للحرب مع إيران، وتنطلق في ذلك من زوايا دينية ومذهبية خالصة وليست طائفية محضة. بل هي تعاطفت مع الحركة الاسلامية السياسية في سوريا والاردن ومصر في تلك الآونة. لكن الأمور تغيرت رأساً على عقب بعد أحداث الكويت العام 1990، وتدهور العلاقات العراقية مع دول الخليج وقياداتها السلفية الدينية والسياسية. وبدأت الحكومة العراقية تتعامل مع السلفية السنية بالضبط كما تتعامل مع التيارات الشيعية السياسية وتجرِّمها ضمن نفس المواد القانونية والسياسية. وقد وصلت هذه السلفية إلى الذروة في نشاطاتها من منتصف التسعينيات من القرن السابق وإلى نهايته. لكنها أيضاً ظلت حبيسة الجامع ولم تطمع بالذهاب أبعد من حدوده. وتُجمع كل المعلومات بأن هذه السلفية كانت سكينة في دعواتها، ومن بين رموزها الشيخ صبحي السامرائي، ولم تكن جهادية أو تلجأ للعنف أو تفكر باستعماله أبداً. واللافت أيضاً، وهذا يناقض وجهات النظر التي تدَّعي بأن السلفية المسلحة بنت بيئتها، أن هذه الحركات كانت عموماً ملتصقة في أجواء اجتماعية منفتحة ومنها أوساط البرجوازية الصغيرة في المدن، الطلبة والكسبة ومن المهن العالية المتميزة، وحتى بعض الشرائح الاجتماعية المرفهة ومنها أقسام من الطبقات التجارية، وهي لم تتمدد، على عكس حزب الدعوة، إلى الجهات الفقيرة في المدن والأرياف. كما أن هذه الحركات ظلت أيضاً محدودة في صورة التوجه السياسي المحلي، وقد كان تأثير علماء السعودية، باتجاهاته المختلفة الرسمية أو الخط الحركي أو الخط الإصلاحي، حاضراً بقوة في النشاط الديني اليومي.
السياق التاريخي والتدخلات الأجنبية
من هنا، فإن السياق التاريخي له دفقه الخاص الذي يستطيع أن يفرز زخم «حابل» البيئة المباشرة عن «نابل» قوة النخب الناشطة ميدانياً، لا سيما وقد تطورت أهدافها مؤخراً بعد الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003، وبدأت تربط مباشرة بين وظيفتها في مقاومة الاحتلال عسكرياً وبين حقها في الاستيلاء على السلطة السياسية لاحقاً. فالسياق التاريخي هنا أكثر متانة من البيئة الجغرافية، حتى لو كانت مستودعاً للدين أو المذهب التاريخي. وإذا أخذنا بالاعتبار القوة المادية الجديدة التي وفدت إلى العراق، أي الاحتلال وأجهزته السياسية والثقافية المعادية للمجتمع العراقي، وكذلك أجهزته العسكرية التي بدأت تستأصل وتبيد الجميع من دون تمييز، ومارست مراكزها القمعية في المعتقلات والسجون شتى صنوف القهر والتعذيب النفسي والجسدي ومحاولات التدجين وغسل الأدمغة وإعادة بناء «الشخصية» العراقية، فإن نتائج هذه الممارسات ستكون مدوية في مختلف الصعد، ناهيك عن الإعلام اليومي لأحزاب ومنظمات الاحتلال العراقية والتي كان لها الدور المشين في الدفاع عن «التحرير» وتسويغ كل سلوكيات الاحتلال تحت شعارات مكافحة الإرهاب السياسي والعسكري. وكانت هذه المعتقلات والسجون، ومنها أبو غريب وبوكا ومعتقل المطار في بغداد، المدرسة الأولى في اللجوء نحو تبني الأفكار الراديكالية التكفيرية، ناهيك أن الاحتلال نفسه قد فتح الحدود على مصراعيها بغية فسح المجال أمام قدوم منظمات «القاعدة» إلى البلاد لكي يسهل محاصرتها وإبادتها سياسياً وجسدياً كما كان يتأمل ويدَّعي ويأمل. ومن يلاحق سيرة أبو بكر البغدادي، وكان من تلاميذ الشيخ صبحي السامرائي ويميل إلى الانطواء والسلوك السلمي والمتسامح، سيعثر على الفراغات التي تحاول أجهزة الاحتلال تحاشيها أو التضليل بخصوص وقائعها، ومنها مسيرة الحياة الخاصة والسياسية للبغدادي ورهطه.
الصدمة والترويع وبداية التكفير المسلح
إن خطط اميركا في القصف والاحتلال والتدمير والتفتيت لا تختلف عنها تصرفاتها اليومية مع «المجتمعات» العراقية. وهي تشمل الحياة المدنية كما أنها تحتوي المسيرة الحربية. وحتى مع هجرة «القاعدة» وأصنافها إلى العراق، ظلت هذه التنظيمات العسكرية عاجزة عن الاندماج مع البيئات العراقية. وقد قاومتها هذه البيئات بكل الأشكال المتاحة. ويقول الخبير الأمني، ألان جود، إن «القاعدة» ومشتقاتها قد وصلت إلى الحضيص بين عامي 2008 و2011. لكنها استرجعت حضورها تحديداً من خلال الاجتماعات الميدانية والاعتصامات السياسية التي حصلت في العديد من المناطق «السنية» المناهضة للحكومة المالكية الطوائفية في بغداد. والظروف الجديدة هذه ساعدتها أيضاً في إشهار نشاطها المسلح بعد أن تطورت أساليب الاعتصامات من الحراك السلمي إلى الفعاليات العسكرية لبعض التنظيمات العشائرية والمدنية في المناطق الملتهبة مثل الحويجة والأنبار. وكان الاحتلال بعد العام 2011، قد بدأ يرسم سياسة جديدة للاستفادة من الشرخ العميق الذي حصل في العملية السياسية والاستئثار المطلق للمالكي في السلطة والثروة والقمع للخصوم والحلفاء سوية. وقد شجعت أميركا كل حركات الاحتجاج وغضت الطرف حتى عن نشاطاتها العسكرية وعن الصعود الحاد لـ«القاعدة» ومشتقاتها المختلفة، وفي المقدمة «الدولة الإسلامية في العراق» وقائدها أولاً أبو عمر البغدادي وبعده أبو بكر البغدادي. بل إن النشاطات العسكرية الجديدة أصبحت تشمل بقايا المقاومة السابقة، «أنصار السنة» و«الجيش الإسلامي»، ويتعاون معهما البعث «النقشبندي» بقيادة عزة الدوري أحد رعاة التيارات السلفية والصوفية في زمن صدام حسين وحملته الإيمانية المعروفة.
ويمكن الاستنتاج من دون مجازفة، أن السلفية التكفيرية المسلحة قد استثمرت مناخات التحركات المشروعة كي تكون مظلة لأغراضها الإستراتيجية. بل إنها فعلياً قد تجاوزت البرامج المحلية للاحتجاجات وفرضت أجندتها السياسية الخاصة وتحديداً بعد إعلانها عن تشكيل «داعش» في ربوع سوريا والعراق. كما استغلت إلى آخر الشوط مراكز الاستخبارات والإعلام الخليجية التكفيرية ورؤوس أموالها النفطية، لتمويل هذه التحركات وتغطيتها سياسياً وعسكرياً وفرض برامجها الخاصة في تدمير «الدول الوطنية» العربية، بالذات في مصر وسوريا والعراق.
طارق الدليمي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد