خالد خليفة: واقعية شخصياتي أصابتني بالخذلان
سواء حازت «مديح الكراهية»، رواية السوري خالد خليفة، جائزة البوكر العربية بعد غد أم لا، فإن وصولها إلى هذه المكانة، كواحدة من روايات عربية ست مرشحة للجائزة، كفيل بتسليط الضوء من جديد على الرواية السورية برمتها، تلك التي رزحت دهراً في ظل الصورة المتأدبة التي روّجها الآباء. قد تكون هذه واحدة من فضائل البوكر؛ أن يصبح بلد الرواية الفائزة، وروايته، قيد التداول. وعلى ذلك إن فازت رواية ممنوعة في بلدها، كرواية خليفة تلك، فإن من شأنها أن تفتح الباب لحركة روائية نشطة. لا شك في أن الرواية السورية تكتب الآن في الظل، يلزمها ناشر أقل اكتئاباً، ورقيب لا يراقب، صحف تكتب، وقراء يؤمنون بالقراءة. مـــاذا يقــول المرشح السوري إلى البوكر؟ كيف وصل إليها؟ وماذا ينتظر غــداً؟ وكيــف يرى الروايات المرشحة إلى جانبه؟ هنا حوار معه:
كيف تلقيت خبر وصول روايتك إلى الترشيح النهائي لجائزة البوكر العربية؟
} كان ذلك حين اتصل صديقي الصحافي المصري سيد محمود من القاهرة وأبلغني النبأ. لا أخفي سعادتي الكبيرة بخبر وصول روايتي «مديح الكراهية» إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية، وهذا ما عبرت عنه في أكثر من مكان ولقاء. سعيد في أن بعض العدالة أصاب هذه الرواية، خاصة أن الرواية السورية تعيش حالة عزلة كبيرة عن الأدب العربي، رغم أهمية ما كتب حولها، كما تعيش تحولات مهمة خلال السنوات العشر الأخيرة.
هل تعتقد بأن الروايات الست التي وصلت إلى التصفية النهائية تستحق فعلاً مكانتها؟
} وصول الروايات الست إلى التصفية النهائية هو خيار لجنة تحكيم لا يسعني إلا أن أحترم شجاعتها. بعد إعلان النتائج قرأت الروايات الخمس، وأعتقد أنها تمثل اتجاهات مختلفة في الكتابة العربية، وما يميزها قوتها واستحقاقها للوصول إلى التصفيات النهائية، وهذا الرأي لا أجامل به أحداً، بل هي دعوة إلى قراءة هذه الأعمال الخمسة التي كتبها أستاذنا بهاء طاهر في روايته «واحة الغروب»، وصديقي مكاوي سعيد وروايته «تغريدة البجعة»، وصديقي الياس فركوح «أرض اليمبوس»، والمتميزة مي منسى في روايتها «أنتعل الغبار وأمشي»، والكاتب اللبناني الكبير جبور الدويهي وروايته «مطر حزيران».
كيف تنظر إلى مفارقة أن رواية حديثة، ممنوعة في بلدها، لراوٍ شاب، تتمكن من الوصول إلى نهائي البوكر كرواية سورية وحيدة؟
} لا أجد أية مفارقة فيما ذكرت، وأحبّ أن أوضح بأن المنع شيء خارج النص ولا يعطي أي عمل ميزة إضافية، فالكثير من الأعمال الممنوعة لا قيمة إبداعية لها، وأرجو أن لا يفهم أنني أخفف من وطأة المنع الذي يطاول كل حياتنا العربية. أما عن أنني شاب، فعن أي شباب تتحدّث وبالأمس فقط انتخبت روسيا رئيساً في الثانية والأربعين ليقود امبراطورية وهو أصغر مني بسنتين، هذه الغرابة لا نجدها سوى في الحياة الثقافية العربية؛ يبقى الكاتب شاباً وغير جدير بالاعتراف حتى يصل إلى الستين من عمره، إلا إذا كان متنفذاً. إنها ميزة أساسية لهذه الجائزة التي عاملت النص بمعزل عن عمر وجنسية ونفوذ كاتبه، لذلك لدى النص الصومالي والموريتاني والسعودي والسوري والمصري وغيره فرصة متساوية للفوز والانتشار وبالتالي الاعتراف الكامل غير المنقوص.
ألا تعتقد أن لسيرة القمع التي تسردها الرواية ترجيحاً لكفة اختيارها؟
} سيرة القمع وتصادم الأصوليات هو موضوع هذه الرواية، وموضوع أية رواية وحكايتها هو جزء أساسي من أي رواية، لكن الرواية ليست حكاية فقط، إنما هي بحث كامل في اللغة والتقنيات والزمن والمكان الروائي، ولا أخفي شغفي في البحث الدائم عن أفضل وسيلة أو أسلوب لسرد ما أريد قوله، وحماقتي التي أحبّ الحفاظ عليها بتجريبي لأساليب قد لا يكون نجاحها مضموناً دوماً، لذلك لا يكفي أن تسرد سيرة قمع أو حكاية حب كي تصنع رواية جيدة، والسؤال الأساسي بالنسبة إليّ هو لا ما تكتب، بل كيف تكتب.
إلى أي حدّ تنتمي روايتك إلى الرواية السورية، هل هي استمرار أم انقطاع؟ إلام تنتمي تجربتك الروائية حقاً؟
} كل نتاج جيلي هو انقطاع عن الإرث الروائي السوري بمعنى من المعاني، فالحامل الإيديولوجي لم يعد الحامل الفكري للرواية السورية، والمتابع لنتاج أبناء جيلي، وأنا واحد منهم، يكتشف ببساطة اختلاف الأساليب والأسئلة، ونحن استمرار بمعنى أننا بنينا على ما كتب في الرواية السورية خصوصاً، والرواية العربية عموماً.
كم تنتمي «مديح الكراهية» إلى تجربتك السابقة في الكتابة؟ نعني روايتيك «دفاتر القرباط» و«حارس الخديعة»؟ ماذا تمثل كل من هذه الروايات بالنسبة إليك؟ هل تفكر بالشكل الروائي؟ ما البحث الذي تمثله كل من رواياتك؟
} كتبت روايتي الأولى «حارس الخديعة»، وكنت في الخامسة والعشرين من عمري في غرفة صغيرة وفقيرة دون حمام، وكانت الحماقة هي الشيء الوحيد الذي يكفل لي إنهاءها. نص مفتوح على هذيانات لغوية، وتجريب على جمل طويلة، وبعدها بسنوات قليلة بدأت كتابة روايتي الثانية «دفاتر القرباط» في ظروف أسوأ ووضع نفسي معقد لا وقت للحديث عنه الآن. وكتبت روايتي «مديح الكراهية» خلال ثلاث عشرة سنة، أي أن التفكير والبحث فيها جعلني أعيد التفكير مرات عدة للوصول إلى أفضل الصيغ والاقتراحات التقنية، لذلك أعتقد بأن الروايات الثلاث تمثل استمرارية لبحثي عن تقنيات للكتابة، فمن أسهل الأشياء بالنسبة إليّ سرد الحكايات، أستطيع تأليف حكاية خلال ثلاث ساعات، لكنني أحتاج إلى خمس سنوات كحد أدنى كي أكتبها رواية، ولا أضمن في نهاية كتابتي أن يبقى شيء من هذه الحكاية.
المرحلة التي تحدثت عنها في «مديح الكراهية» واقعية تروي حقبة محددة من تاريخ سوريا، هل ترى أن على الرواية أن تكون شاهداً على العصر؟
} لا يمكن للرواية أن تتخلى عن رغبتها أن تكون شاهداً على العصر، لكنها ليست كأي شاهد، فهي تحتاج في تدوينها إلى الشك أولاً وعدم التصديق ثانياً، وتضع اليقين في مرتبة العدو رقم واحد لتستطيع أن تكون سجل الإنسان بكل تجلياته وخفاياه، وشاهده الذي ينتقم له من التاريخ المدون والمرئي.
إلى أي حد كانت شخصيات الرواية «مديح الكراهية» واقعية أو متخيلة؟
} ما حدث في ثمانينيات سوريا أغرب من الخيال، وفي الرواية تداخلت حالات الواقع والتخييل إلى درجة أنني كنت أشعر بالخذلان، فكلما اعتقدت بأن هذه الشخصية من مخيلتي يأتي أحد ليشير إلى مرجعها في الواقع، ويقودني من يدي إليها كي أرى ما حلمت ليالي طويلة في تفكيكه وإعادة بنائه مجسداً ببساطة أمامي.
أين وكيف تعلمت أن تصير روائياً؟
} في «الغرف المقبضة»، وأستعير هذا من عنوان رواية عبد الحكيم قاسم الذي أحبه، في الشوارع، وعلاقاتي بكل أطياف الحياة السورية، أحلام يقظتي الدائمة، حماقتي التي لا أتمنى نهايتها، شغفي بالتجريب، وتأملي لما أسمعه وأراه، وطبعاً الكتب والأفلام وحكــايات أمـــي، سهري في البارات ورقصي على الطاولات حــتى الصباح مع نساء آمنت أنني أحبهن حتى الموت، واكتشـــافي في صباح اليوم التالي أنني مصاب بإحباط أن كل شيء تغير، كل هذه وأشياء أخرى لا تنــتهي صنعتني روائياً، والأهم طبعاً هو التصاقي بطـــاولة الكتابة يومياً بما لا يقل عن ست ساعات ولمدة خمسة عشر عاماً، عشر سنوات منها دون إجازة.
أنت متعدد الاهتمامات، من الكتابة إلى الصحافة إلى التلفزيون والسينما والرواية بالطبع، أين أنــت من كل هـــذه الاهتـمامات؟ وهل تشكل عائقاً أمام كتابة الرواية أم سنداً؟
} لا أخفيك أن مشروعي الأساسي هو الرواية، لكن ليس لدي طموح أن أترك ورائي أربعين عملاً، وفي البداية اعتقدت بأن كتابتي للسيناريو التلفزيوني ستعيق كتابتي للرواية، لكن بعد سنوات، ومن فترة قصيرة، اكتشفت أن السيناريو التلفزيوني قدم لي قدرة كبيرة على التفكيك والتركيب، بالإضافة إلى النقود التي كنت أحتاج إليــها كي أجلس آخر ثلاث سنوات من الثلاث عشرة سنة، وقــت كتابة الرواية، دون أي عمل متفرغاً لإنهاء «مديح الكراهية»، وأفاجئك الآن بأن النحت بدأ يستهويني، وطلبت من بعض أصدقائي النحاتين أن يعلموني المبادئ الأساسية للنحت واعترفوا بأنني تلميذ جيد، وأتعلم النحت كي يكون سنداً للرواية وليس بديلاً.
هل ترى أن هناك ما يستحق أن يسمى «رواية جديدة في سوريا»؟
} نعم، هناك رواية جديدة في سوريا، ولكن كتابها لم يؤلفوا بعد تياراً كاملاً، وأعتقد بأننا غير قادرين على تأليف تيار سوري أو عربي، فنحن لا نتبادل الخبرات بشكل كافٍ، كما أن التيار لا يتشكل بعيداً عن التنظير الفلسفي المفقود في ثقافتنا العربية، كما لا تستطيع الرواية الجديدة أن تنشأ في مجتمع يعود إلى ثقافة الطائفة والقبيلة والعائلة، وهذه الثقافة تحيلنا على جزر معزولة لا يمكن لها أن تنتج تيار رواية جديدة قوية، رغم النجاحات الهائلة التي أحرزتها الرواية العربية وكتابها في العشرين سنة الأخيرة.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد