"خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر" لجان جاك روسو
يبدي الفيلسوف والمفكر الفرنسي جان جاك روسو في كتابه "خطاب في اصل التفاوت وفي اسسه بين البشر" الصادر حديثاً بالعربية عن "المنظمة العربية للترجمة" امتعاضه من هذا ومعارضته له، معلناً رفضه التام له ومعلياً من شأن الانسان في طبيعته الاولى، اي المرحلة التي كان فيها متوحشاً. ففي رأيه أن العدالة والمساواة كانتا سائدتين بين افراد البشر بحكم المساواة الموضوعية في وسائل العيش وغياب التراتبية، مقللاً من اهمية الانسان المتمدن، لما في هذه المرحلة من ظلم وعسف وفساد وتفاوت اجتماعي واخلاقي.
لا ينفي الفيلسوف انه كان ثمة تفاوت طبيعي او فيزيقي في المرحلة المتوحشة، ناجم عن فارق السن او الصحة وقوى الجسد وصفات الروح او النفس. الا انه تفاوت لا يؤدي في المجمل الى الاستغلال واستعباد الانسان لأخيه الانسان، شارحاً في فصل كامل اساليب العيش التي كان يتبعها الانسان المتوحش في مرحلته البدائية تلك، معدداً الوسائل التي كان يستعملها كي يبقى على قيد الحياة، والقائمة على الصيد بمفرده من دون حاجته الى مساعدة الغير. ويلقي الضوء على كيفية تطوير تقنيات هذا العيش وسط الخطر في الغابات مع الحيوانات المفترسة والمتوحشة والتي كانت تستوجب كراً وفراً وبنية جسدية متينة مكّنت الإنسان من السرعة في الجري وتسلق الاشجار، مستعرضاً حياته التي لا تعرف من الامراض سوى الجروح والكسور جرّاء الصيد والعراك والتنقل، والتي تندمل من تلقاء ذاتها مع الوقت، كاشفاً عن اسباب الامراض وولادتها، ناصحاً لاجل ذلك بتتبع تاريخ ولادة المجتمعات المدنية.
يقول روسو ان الانسان المتوحش او البدائي غالباَ ما عاش وحيداً ولم تكن ثمة تعقيدات في حياته وترحاله الدائمين تستوجب اي اتصال بين ابناء جنسه. لذلك لم يكن في حاجة الى اي وسيلة للتفاهم، وان غياب اللغة كان مؤشرا واضحا وقاطعا الى غياب هذه المصلحة. وما ان ظهرت حاجته الى هذا الاتصال حتى برزت الى السطح ضرورة نشوء لغة تيسّر التواصل، وكان هذا في مرحلة متقدمة وفي طور اكثر تقدماً بلغه الانسان. الا انه تطور تمثل في ضرورات الجماعة والمصلحة الشخصية المتبادلة التي ما ان تنتهي حتى تزول اسباب الاجتماع واللغة والتي لا تعدو ان تكون اكثر من صوتية للتعبير او للانذار من خطر يدنو ولا بد من تفاديه.
يعتقد روسو ان الميزة الاولى التي شكلت علامة فارقة بين الانسان المتوحش والحيوان، معرفته بالموت. لذلك يلقي روسو باللوم في شقاء الانسان على المجتمع المدني القائم على العقل. ذلك ان هناء الانسان في عيشه الطبيعي في المرحلة المتوحشة، ناجم عن الغريزة التي كانت تقوده وتسيّره في مراحل عمره في تلك العصور، وهو يتساءل إن كانت فضائل البشر المتحضرين اكثر من رذائلهم، وهل في تقدم معارفهم استعاضة كافية عن الشرور التي تصيب بعضهم من بعض، مقارناً بينهم وبين البشر في الحالة الطبيعية التي لا تجمعهم اي فضائل او رذائل الا بالمعنى الطبيعي والتي تساعد في المحافظة على بقائهم وتمنع اي مكروه عنهم. ويطرح خيارات تفاضلية على البشر، في اي وضع اصلح لهم ان يكونوا، لا يخشون شراً ولا يرجون خيرا من احد، ام ان يكونوا مذعنين لتبعية وملزمين انفسهم انتظار كل شيء ممن لا يلزمون انفسهم اعطاء اي شيء.
من الطبيعي ان تكون الحالة الطبيعية هي خيار روسو في هذه المفاضلة. ذلك انها في رأيه اقل اضرارا بحفظ بقائنا المهدد بالحروب القاتلة التي ما عرفها مجتمع مثلما عرفها المجتمع المدني. فكم من الحروب والقتل والجرائم كان لهذا الانسان ان يكفي الجنس البشري شرّها لو هبّ فاقتلع الاوتاد وردم الحفرة وصاح بأشباهه من البشر قائلاً: حذار ان تصغوا الى هذا الدجال فلا تنسوا ان الثمار للجميع وان الارض ليست ملكاً لاحد.
من هذه النقطة شرع المجتمع المدني في التحقق وشرعت النزاعات في الحصول والحروب في النشوء، الامر الذي استوجب استقرارا نسبيا، بإقامة انظمة حكم توفق بين افرقاء النزاع، اي بين الاقوياء والضعفاء، بين الذين يملكون والذين لا يملكون، فنشأت بداية انظمة حكم تزيد من قوة القوي وتضعف الفقراء، مما اشعل الثورات والاضطرابات. ذلك ان الحكم يقوم على تعاقد قسمة حقة بين افرقاء النزاع بحيث يعطي كل ذي حق حقه.
في الختام، يعتقد روسو ان التفاوت بين البشر ليست مسؤولة عنه امور فيزيقية انما الانسان في حد ذاته، الذي بتحوله من الحالة المتوحشة الى الحالة المدنية، دخل مساراً مليئاً بالفساد، عماده حكم الاقوياء والمستغلين والمفسدين.
عادل نصار
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد