رتل كامل من الأشجار

10-06-2006

رتل كامل من الأشجار

<قبل الاختفاء> في اللحظة الاولى عندما نقرأ هذا العنوان يتولد في الداخل بأن هاتين الكلمتين تحملان في طياتهما تهديداً باختفاء شيء.
اختارت <جود كوراني> هذا العنوان لفلمها الوثائقي من تصويرها وإخراجها. نكتشف ذلك بسرعة من خلال اول مشهد عندما تسأل المعلمة التلاميذ في الصف: ما هو النهر الذي يمر وسط دمشق؟ يرفع كل التلاميذ أصابعهم إيذاناً بالإجابة الواضحة الكل يعرف: هو نهر بردى! تتابع وصفاً باذخاً للنهر الذي يعطي المدينة بلا شك قدراً معلوماً من الجمال.
ثم تتابع المشاهد. صوت الحركة داخل المياه، مصب النهر، لقطة يمكن تمييزها كتفرد في المشغل السينمائي السوري على التوازي مع تدريج الصوت كمدخل ورابط، مقارنة مع الصوت الإنساني في هذه المدينة.
ثم تتابع النهر ونسمع صوتاً لطفل يغني موالاً ليس لعمره وينكسر الصوت ويعلو فجأة: طفل يجلس في مؤخر قارب منسجم مع اغنية. النهر يسير رويداً رويداً، يدخل المدينة يجتاز الجسور وتبدأ مشاهد بشر حوله وهم سعداء... ثم يمر وسط بيوت شعبية ناس بسطاء يطلون مع شرفاتهم على النهر مباشرة، امرأة تكنس تلقي أوساخها في النهر. رجل في عمر القلق يغني موالاً: نار يا حبيبي نار. كأنه من علوه يصر على ان اغنيته القديمة نسبياً تعيد شيئاً لذاكرة النهر القديم/الجديد.
في اقترابه من قدره كتلوث كبير يظهر المجتمع الاستهلاكي الفظيع ايام الأعياد. لعب. لغط قمامة. واجترار لجمل وكلمات اعتيادية. ومحاولة الناس المصورين محاكاة الكاميرا والاقتراب لالتقاط صورهم والتكلم مع حاملها.
بعد ذلك نرى النهر بائساً، مخذولاً متعباً بأكياس قمامة. دجاجات تنبش في أطرافه وسخاً متراكماً. أناس يائسون يجلسون بالقرب من شاطئه تحت أشجار في مشهد آخر حي مع حامل الكاميرا يحاولون (الأناس) إقامة حديث اعتباطي الى حد ما يعكس درجة الوعي بالمحيط بالنهر وما بعد النهر. ربما لحركة الأصابع المتجهة بشكل عفوي للأنوف دلالة على وجود جديد لنهر ميزته رائحة الفضلات الانسانية/القذارة. البعض منهم يشرك عيونه بالنظر الى الأسفل، آخرون يكملون مشيهم المنسجم مع تلفون الموبايل، وهكذا المهم ان حركة الناس مستمرة جيئة وذهاباً بينما النهر يستمر في حركته المعهودة مجتازاً المنشأت الصناعية قبل مرحلة اختفائه مشاغل الدباغة (دباغة الجلود) وهي تصرف مياهها الملوثة فيه، ونشاهد مدى تأثيرها السلبي القاسي حتى على الحجارة الموجودة داخل المياه.
في المشهد الأخير ينتهي النهر وينعدم من الجغرافيا، تبقى هناك شجيرات وصوت بديل صحراوي المنحى مجايل وقريب للصوت الأول للنهر في المشهد الأول. فيلم <قبل الاخفتاء> وثيقة تاريخية مهمة مصورة بطريقة حديثة عالية التركيز موظف فيها كافة كوادر المشهد الحركي البصري.
رتل كامل من الأشجار
فيلم <رتل كامل من الأشجار> هو عنوان فيلم قصير ل<طلال ديركي> إخراج وسيناريو، وهو الثالث له بعد <عالم وحشي وحشي، وداعاً دمشق مرحباً دمشق> وديركي متخرج من معهد ستفراكو للسينما/ أثينا اليونان .2003 الى جانب كونه يكتب الشعر ويشتغل في الترجمة، له مجموعة شعرية بعنوان <مقبرة عائلية> يبدأ الفيلم بجملة على لسان نور <نزلني هون> حيث سيارة تسير على طريق عام، فجأة نسمع صوت مكابح الدواليب، تجري <ندين سلامة> (نور) باتجاه حي طرفي شعبي، يجري خلفها <محمد الأحمد> (عامر) ويناديها بصوت عال فيه توسل. ينتهي المشهد تحت شجرة يابسة عندما تقول نور: انا راجعة لبيت اهلي. وذلك بعد تأزم الموقف بينهما والاختلاف حول سفر عامر للخارج. في المشاهد التالية نرى مباراة كرة قدم، في ساحة ترابية مفتوحة من جانب على طرف (حي) ومن جانب آخر على عراء مقفر باستثناء نفس الشجرة التي جرى تحتها الحوار في المشهد الأول، نكتشف ان الفيلم بدأ من الوسط ويعود في مشهد المباراة الى البداية، ملعب بائس، تشاهد الأقدام فيها من مستوى افقي تختلط مع الكرة والتراب المتطاير، تنتهي المباراة بفوز عامر. يحاول <ديركي> التأكيد كلاماً على ان الأحداث تجري في حي شعبي (مخالفات) من أحياء دمشق من خلال الحوار بين نور وعامر عندما تسأله بعد إعجابها بعامر وبلياقته: لعبك حلو قليل ما شوف حدا بيلعب هيك، وتجيب عامر انها تسكن بالإشارة الى البيوت خلف الملعب. تبدأ علاقة رومانسية بينهما تحت الشجرة الآنفة الذكر لكنها خضراء متعبة. بدوره عامر يؤكد انه يعيش في: حارة متل هالحارة بس بالطرف الثاني من دمشق ويبدي تعلقه بالمكان الذي يعيش فيه: روحي معلقة هونيك.
في المشهد الأخير يظهر نور وعامر، هذه المرة المشهد بعيد، يظهر رتل من الأشجار في إشارة على لسان عامر بعد تساؤل نور: ليش جينا لهون، يرد عامر: لنكون لوحدنا نحن وهالشجرات، ويطلب منها ان ترجع للبيت ويقول لها بنبرة فيها تعب: انا مشتاقلك، ما فيني عيش من دونك، كرد فعل على سفره الملغى. تتم المصالحة، بعد ان يجهش عامر بالبكاء، ثم ان نور حامل، حمل ضد السفر، مع المكان مع عامر.
يظهر السيناريو والمشاهد ميلا افقيا: لغة مباشرة مستقيمة، شعبية نظرات وإيماءات متواجهة. ملعب جمهوره في مستوى لاعبين...
حب مختصر واضح... المعالم. تبقى الأشجار كرمز للوحدة الجمعية، او لضرب من البقاء في بيئة مفتوحة مقفرة.
يبدو ان الإتيان بمشاهد فيلم <طلال ديركي> وترتيبها هو كترتيب تلك الاشجار في المشهد الأخير باستثناء أي شجرة هي الأولى او الثانية الخ...
او كتلك السيارة التي تتوقف فجأة ليخرج منها كائن (نور) تنظمه الحيوي/النفسي يميل للمقاطعة في محاولة روتينية تصدم الكائن الآخر (عامر) لترتيب حياتهما كشجرتين حيويتين يتبادلان مكانيهما في مواجهة السفر/عزلة الترتيب إذا جاز القول.
(دمشق)
(?) الفيلمان تم عرضهما في شهر أيار مع مجموعة من الأفلام القصيرة ضمن نشاطات المعهد الفرنسي للدراسات في دمشق.

 

دلدار فلمز

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...