رسالة في اللاهوت والسياسة العربية المعاصرة
1
قديما كانت الشعوب على دين ملوكها، أما اليوم فالشُّعوبُ هي من تُفرِزُ قادتَها الذين يحملون بنيتَها، والسلطاتُ باتت مضطرةٌ لممالأة قاعدتها، فإذا تثلثت القاعدة فإن السلطة سوف تقيم معابد مثلثة وكذلك إذا ربعت أو تدورت. بمعنى أن السلطة سوف تنتهج الدين الذي يدين به الشعب لتسهيل قيادته. فزعماء البلدان الإسلامية على دين شعوبهم، وعندما وصل نابليون مصرَ المحروسةَ أعلن دخولَه في الإسلام.. إذاً فالتغيير يجب أن يبدأ أولاً داخل رأس الفرد الذي يشكل الوحدة الأولى في المجتمع؛ وبما أن الفرد يحمل سمة المصنع الأول الذي هو أمّه، فإن التحرير والتطوير يبدأ باحترام حقوق المرأة وترقيتها ثقافياً ووجدانياً لأنها هي من سيشكل طفولة الفرد الذي ستمتلكه الدولة فيما بعد ليكون بدوره مديراً وموجهاً لمؤسسة الأسرة التي تشكل نواة الدولة.
وطالما أن الشعب لازال يستخدم نسخة دينية سلفية فإن ما يشكل سلوكه يشبه برنامج ويندوز قديم يحتاج إلى ترقية تناسب الزمان والمكان الذي يعيش فيه، وبالتالي فإن التحدي الأول لمجتمع ودولة المسلمين هو ترقية النسخة الدينية المستخدمة، والتي ستفرض على السلطات ممالأتَها والارتقاءَ معها، ولدينا تجاربُ عربية كثيرة من الثورات والانقلابات الفاشلة التي وقعت في حفرة التسلط والاستبداد البطركي الأبوي، حيث بقي المجتمع منقسماً على نفسه بعدد قومياته وطوائفه، ولم نتمكن من تحقيق المواطنة التي ندعيها منذ الاستقلال إلى اليوم.
2
مازالت معرفةُ الله افتراضيةٌ، لعدم تأكيد وجوده المحسوس، ومازال البحث عن وجود الله أو نفيه رياضة الفلاسفة والمتصوفين للبرهنة على وجوده أو عدم وجوده، حيث تطورت المعرفة الإلهية خلال آلاف السنين من الجدل، كما حرق العقلُ الكثيرَ من المراحل كي يرتقي في معرفته الإلهية ولكن العقل البشري لم ينضج بعد إلى مستوى الكشف عن لغز الله، كما أن معرفته ما زالت ضعيفة ومكبلة بثقافة الأديان القديمة التي أمَّمَتْ معرفة الله لصالح المؤسسة الرسمية ومنعت الأفراد من الاجتهاد فيها. حيث نلاحظ تأكيد الأزهر الشريف، أكبر مؤسسة دينية إسلامية، في مؤتمره العام الماضي: "أن التجديدَ صناعة دقيقة، لا يحسنُها إلَّا الراسخون في العلم، وعلى غير المؤهَّلينَ تجنُّبُ الخوض فيه". فلم يقبل الأزهر بتجديد المفكرين من خارج المؤسسة كما لم يقم هو بالأمر، منذ العصر الأيوبي عندما تبنى المذهبَ السُّنّي بعدما كان على المذهب الشيعي أيام الفاطميين الذين أسسوه!؟
وفي التاريخ الروحي المشرقي مازال هناك خلط بين التدين والإيمان، فالدين ثابت في الزمان وجامد في المكان بينما الإيمان حيوي ونابض ومتجدد، حيث يلتقي المؤمنون عند الله بينما يختلف المتدينون على الله. ونلاحظ في الواقع أن لدى غالبية الناس معتقداتٍ دينيةً راسخة لكن إيمانهم محدود، بحيث يمكننا القول إن التدين طاغٍ على الإيمان، وأن محبة المتدينين لله أقل من حجم كراهيتهم للطوائف الأخرى، وأن الجحيم وعذاب القبر أكثر حضوراً من رحمة الله تعالى في وعيهم، وأن الطوائف تتوجس من بعضها شراً ولا تعاون بعضها إلا في حالة تلاقي كراهية طائفتين لطائفة ثالثة، حتى ليمكن القول إن مشاكل الملحدين مع بعضهم ومع أنفسهم أقل من مشاكل المتدينين، وهذا أمر يزيد من حجم القلق الوجودي وينعكس سلباً على الحياة العامة؛ مما يعني أن فكرة الله ما زالت غائمة ومتباينة لدى المتدينين.
ولو أجرينا استطلاعا فقد نكتشف أن 99% من المسلمين يقولون أنهم يؤمنون بالله، ولكن بأي إله يقرون؟ فلازال إيمان شعوبنا الإسلامية متخبطا برمال الدين حتى الغرق، حيث تموت وهي لا تعرف الله خارج الخوف منه والطمع فيه، أما المحبة فما زالت تشكل حالةَ ما فوق إنسانية يتصف بها قلة من المجتهدين المؤمنين بوحدة الوجود حيث الآخر هو بعض من أنا.
خلال ثلاثة عقود من مراجعاتي للنصوص الدينية على المنهج الألسني، أرى أن الله ما زال بعيداً عن إدراكنا، وهو لا يشبه تصوراتنا وتخيلاتنا القديمة عنه حين كانت المعرفة الإنسانية قاصرة عن الاكتشافات والاختراعات التي وسعت مداركنا اليوم، وأنه رغم تقدمنا العلمي لم يصل عقلنا البشري المحدود بعد إلى المعرفة الكلية للعلي القدير، وظلت المعرفة الدينية رهينة تطور الجدل بين المتدينين والملحدين، الذين أضاف العرب المسلمون إليهم تصنيف الربوبيين وأطلقوه على المشككين بحكايات الأديان رغم إيمانهم بالله تعالى، وكان أبو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعري والجاحظ وابن الراوندي وابن سبعين من بينهم، حيث طرحوا في زمنهم أفكاراً جيدة حول المعرفة الإلهية لم يؤخذ بها وإنما صنفوا كزنادقة ومارقين!
وقبل أعوام ثلاثة اشتغلتُ على موضوع تدريس تاريخ الأديان وكيف تطورت معرفة الله في سورية منذ أن كان الإنسان السوري يعيش على الصيد على ضفاف الأنهار ويبحث عن العلي القدير، وصولا ًإلى نشوء الأديان الإبراهيمية التي توجت بالإسلام الحنيف، أي استخدام منهج المعرفة العقلية على طريقة حي بن يقظان في جزيرته المنعزلة وتوصله إلى معرفة الله خلال ثلاثين سنة من التفكير. وكانت لنا جلسات مطولة مع مختصي مديرية تطوير المناهج في وزارة التربية، وقدمنا بالتعاون مع مجموعة من الباحثين في مركز دمشق للدراسات "مداد" دراسةً من 400 صفحة حول نقاط القوة والضعف في مناهج التربية الدينية المسيحية والإسلامية. واستمرت اجتماعاتنا لعامين، ولكن كهنة الأوقاف عرقلوا المشروع رغم موافقة رئيس مجلس الوزراء عليه في حينه. فقد كان المقصد ترقية الثقافة الدينية وقطع الطريق على استغلال بسطاء المتدينين من قبل المؤسسات الدينية الرسمية والجماعات الإرهابية المعارضة، حيث ما زال كلاهما يعتمد النقل ويرفض إعمال العقل في فهم النصوص التي باتت تفاسيرها القديمة عائقاً أمام البشر بينما يفترض أن تكون مساعدة على رقيهم وتقدمهم؛ وهذي هي مهمة التنوير التي بدأها الرواد العرب مع الشيخ محمد عبده قبل مئة عام.
تقول الراهبة والباحثة في علم الدين المقارن كارين آرمسترونغ في كتابها "الله والإنسان": كشفت دراستي لتاريخ الدين أن الكائنات البشرية هي حيوانات روحانية، وأن الرجال والنساء بدؤوا عبادة الآلهة منذ أن أصبحوا بشراً عاقلين. وأن الدين مثل أي نشاط إنساني آخر قد يساء استخدامه.
3
يفترض أن الصلاة نوع من التأمل الروحي الكوني للاتصال مع العلي القدير، ونحن لا نعلم مدى قوة اتصال المصلي من ضعفها، أو ما هي نسبة استقبال المصدر لها، ولكنها قد تكون مؤثرة على الصعيد الفردي من حيث تخفيف القلق الوجودي والخوف من المجهول ومن الموت.. ذلك أن الخوف من الله والطمع فيه ينظمان نشاط المجتمع الديني على تنوعه، وهذا أمر إيجابي ومساعد للسلطات المحلية على ضبط الناس وتخفيف الفوضى. غير أن المشكلة كانت وما زالت في تغول المتدينين على بعضهم وعلى غيرهم والفوضى التي يحدثونها جراء ذلك حسبما رأينا في صراع الربيع السلفي، فبدلا من أن يلتقي المتدينون في الله تصارعوا على امتلاكه وبات لهم أربابٌ تشبههم؟!
ذلك أن تصور المصلين لله يختلف بين بعضهم البعض، حيث إله الشيخ مختلف عن إله الفيلسوف وعن إله الفلاح المختلف عن إله التاجر وعن إله الصوفي، وكلها أفكار تخمينية عن الإله الحقيقي الذي نراه بحسب لون نظارات طوائفنا ومدارسنا الفقهية. تقول كارين آرمسترونغ: إن نلقِ نظرة إلى أدياننا الثلاثة يصبح واضحاً لنا أن ليس هناك نظرة موضوعية لله، ينبغي على كل جيل أن يخلق النظرة المناسبة له. وينطبق الشيء ذاته على الإلحاد.
ويقول الأب فيلهلم شميدت في نظريته التي أطلقها سنة 1912عن أصل فكرة الله، أن الناس قبل أن يعبدوا آلهة متعددة كانوا يؤمنون بإله واحد خلق العالم وسيّر شؤون البشر من بعيد، وأنه إله متعالٍ يقيم في السماء، وكان يوجد الكثير من القبائل الأفريقية يؤمنون بإله واحد ويعتقدون أنه يراقبهم وسيعاقب الخطاة منهم، وهم لا يضعون وصفًا حسياً له لذلك لم يقيموا تماثيل له، ولكن الله قد أصبح بعيداً عن شؤون حياتهم، فتمت الاستعاضة عن الإله المتعالي عبر العصور الغابرة بآلهة أكثر جاذبية والتصاقاً بتفاصيل حياتهم اليومية حيث تم تجسيدها في تماثيل وأقيمت معابد لها.
فعلى الرغم من وجود الكثير من النظريات حول أصل الدين يبدو أن خلق الآلهة أمر فعله البشر على الدوام، وعندما كان ينتهي مفعول فكرة دينية عندهم كان يتم استبدالها، فتتوارى الآلهة القديمة وتظهر آلهة جديدة تواكب تفاصيل حياتهم المتغيرة، إلى أن جاءت الأديان التوحيدية التي عاقبت المجتهدين فيها بالعزل أو القتل بتهمة الهرطقة أو الردة، فصارت العبادة بالخوف والطاعة، وباتت الصلاة واجبا وعادة تفتقر إلى التواصل والتأمل والتمرين الروحي .
وعلى الرغم من ادعاء اليهود والمسيحيين والمسلمين الإيمان بإله واحد فإنهم فعليا يصلون لأربابهم الطائفية من دونه، حيث يبدو الفقهاء الذين شكلوها أكثر جاذبية وتمثيلاً لعصبياتهم من الله البعيد المتعالي الذي لا يشبههم. لهذا لا نستغرب حين يقصف طرفان مسلمان بعضهما البعض وكلٌّ منهم يصيح: (الله أكبر)، فإنما يكبِّرُون لرب المذهب الذي يكللهم بعنايته دون أعدائهم، حيث يعبد غالبية المسلمين اليوم ربان: رب سني في مواجهة الرب الشيعي، وكلاهما يبتغيان المغانم الدنيوية!؟
4
مازالت البلدان العربية أشبهَ بمحمياتٍ دينية سلفية رغم ادعاء بعضها للحداثة والعلمانية، والمشكلة أن نشاط هذه المحميات ملوث بالسياسة التي صنّعت إسلاماً رسمياً محافظاً، وآخرَ معارضاً متطرفاً، وعلى هامشهما نشأ تيار صوفي انتبذ كلا النسختين وجعل من الإيمان بالله وتهذيب النفس غايته، ولكن الصوفية انتهت مع العثمانيين إلى التسطيح والاتكالية والشعوذة التي يتم استثمارها اليوم في التسويق السياحي، ولم يظهر في عصرنا شيوخ طرق صوفية مهمة ترتقي بالمعرفة الإلهية والسلام الروحي..
فبعد الصدمة الحضارية مع الغرب بدأت معركة التجديد الإسلامي من مصر، وكانت نقلتها الفعلية مع الشيخ علي عبد الرازق الذي قال بأن الإسلام دين لا دولة وأن تسييس الدين جاء بعد وفاة النبي.. وإذا رغبنا بتأكيد مقولته يجب أن نعود إلى العقدة الأولى: (انعقاد اجتماع سقيفة بني ساعدة) الذي دعا إليه الأوسُ والخزرجُ، وهما قبيلتان يمانيتان عرفتا النظام السياسي الملكي قبل انهيار سد مأرب وهجرة القبيلتين نحو الشمال حيث استقر مقامهما في يثرب التي صار اسمها (المدينة) نظراً للسياق المدني الذي نقلوه معهم وشكلوا به الحياة في يثرب، يشاركهم اليهود الذين عرفوا بدورهم النظام الملكي السياسي في مملكتهم المنهارة. ثم غدا اسمها المدينة المنورة بعد دخول الرسول إليها.. فعندما وجد المهاجرون القرشيون أن الزعامة سوف تفلت منهم دخلوا في المعمعة وأفتوا بتراتبية السلطة بقولهم: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. ونظرا لخلاف الأوس والخزرج مع بعضهما وخلافهما مع اليهود تفوَّقَ طرحُ أبي بكر وعمر على الجميع، غير أنهما بفتواهما (التي تجاهلت منزلة وأهمية آل البيت الرسولي وتاريخهم الروحي وشعبيتهم الدينية، قبل وبعد الرسالة) نقلوا الصراع من بُعده الروحي إلى بعده القبلي والعشائري، فاحتدم التنافس بين عائلات قريش حول أحقية الخلافة، ليوقظوا الصراع القرشي القديم بين بني هاشم (سدنة الكعبة ووزراء الأوقاف) وبني أمية (وزراء التجارة والاقتصاد)، حيث غلب الاقتصادُ السياسيُّ على الدين ليقوم مُلْكُ بني أمية ومن بعده بني العباس وصولاً إلى خلافة بني عثمان فخلافة أبي بكر البغدادي، حيث نشأت الكثير من نسخ إسلام الاقتصاد السياسي الأموي، وكل نسخة كانت تتبنَّى فقيهاً وتصنعُ من تأويله مذهباً للدولة، فنشأت دولٌ سنيَّةٌ على مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل، ودولٌ شيعية متفرقة على مذهب جعفر الصادق وأولاده الأئمة: إسماعيلية وعلوية وزيدية وشيعة إثني عشرية.
ومنذ أن بدأت دعوات تجديد الفكر الديني بما يتناسب مع حياة المسلمين المعاصرين، وَصَمَ التَّيَّارً الأصوليُّ روَّادَ التجديد بالخروج والمروق والابتداع والعلمنة، فعزلوا بعضهم وقتلوا بعضهم الآخر كما في حالة: (محمود طه وحسين مروة وفرج فودة وحامد أبوزيد ومحمد شحرور وأدونيس نموذجاً)، حيث عالج دعاةُ التجديد التباسَ علاقة المسلمين بالزمن وسيطرة التجربة التأسيسية على إدراك رجال الدين المعاصرين، وقالوا بضرورة تجديد مناهج الدراسة وموادها في التعليم الديني والمدني من خلال إنماء العقل النقدي والتحليلي والتاريخي عبر إدخال الفلسفات الحديثة والعلوم الاجتماعية والألسنيات في هذه المناهج منذ المرحلة الإعدادية حتى التعليم الجامعي.
كما قالوا بضرورة إدماج المدارس الشرعية في دارسة الفكر والتاريخ الإسلامي ضمن مناهج التعليم المدني والديني معاً، وذلك من منظور نقدي وتاريخي لبيان أوجه النجاح أو الفشل في مقارباتهما لموضوع التجديد والإصلاح الديني.
واقترحوا دراسة الأديان المقارَنة وفق مناهج علم الاجتماع الديني والأنثروبولوجيا، بغية كسر جمود الفكر التقليدي لتوسيع أفق التفكير النقدي وممارساته البحثية وتأصيل المشترك بين القيم الدينية والإنسانية وإبراز التمايزات بين الأديان والمذاهب. ولازالت الأفكار تتوالد والمؤسسات الدينية تتمنع عليها وتبددها حتى سطورنا هذه.
5
منذ سبعينيات القرن العشرين، بدأت المشاريع الفكرية تتصدر حقل البحث الفلسفي العربي، فلم يعد أقطاب الفكر الفلسفي العربي المعاصر يهتمون بمذاهب فلسفية بعينها، أو تيارات تابعة للفكر الغربي، وإنما أصبحوا يقدّمون أنفسهم على أنهم أصحاب مشاريع فكرية فلسفية وسياسية وحضارية. ولعل من أهم هذه المشاريع الفكرية والفلسفية، مشاريع العقلانية النقدية، أو مشاريع نقد العقل الإسلامي ونقد العقل العربي. وتتفق هذه المشاريع جميعها في كونها ترتكز على نقد أسس العقل المنتج للفكر والثقافة والحداثة، هدفها الكشف عن الشروط والإمكانات التاريخية والمنطقية واللغوية التي تحكم المعرفة.
في عام 2016 نشرت مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" كتاب "أعلام تجديد الفكر الديني" استعرض فيه الباحثون حياة وأفكار نخبة منهم مثل: محمد طه الذي أعدمه الرئيس جعفر النميري عام 1985 بتهمة الردة، وكان من بين أفضل من التقط مؤشرات عن استعداد المجتمع لتبني مقتضيات الحداثة ومن ضمنها المطالبة بتشريعات تقدمية مستمدة من القيم القرآنية، ومحققة للمزيد من الحرية والعدل، مركِّزاً على تاريخية الأحكام الشرعية والقرآنية وفهم آيات الأحكام ضمن سياقها التاريخي والاجتماعي. كما نادى بتطوير شريعة الأحكام الشرعية وتعزيز مكانة المرأة التي تغيرت اليوم عما كانت عليه في القرن السابع للميلاد لأنها تمثل مرحلة تاريخية انقضت، فالأصل في الأشياء هو الرشد، لذلك فإن للقرن السابع أحكامه وهي أحكام مؤقتة وجب تغييرها بما يناسب تطور الحياة. ودعا إلى المساواة بين المرأة والرجل وإعادة النظر بقوانين تعدد الزوجات والزواج والطلاق، فاجتمعت ضده السلطتان الدينية والسياسية وتم حذفه والتعتيم على محتواه كما لو أنه برنامج مهدد لسلطاتهم.
أما المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد، فقد جمع بين الدرس المعرفي التقليدي والدرس الفلسفي الغربي وطبقه على المرجعية الإسلامية قرآناً وسنة، وخرج بنتائج مميزة أعطته شعبية بين المسلمين، وخلقت له عداوة السلفيين، حيث زعزع كيانَهم وقلبَ الكثيرَ من المفاهيم الكلاسيكية، فتم التضييقُ عليه حتى اضطرَّ للهرب إلى لبنان فقبرص حيث أنشأ (دار الدينونة) للدراسات الإستراتيجية، ومن بين إصداراته العديدة كان كتاب "القرآن والمتغيرات التاريخية والاجتماعية" منتقداً فيه هيمنة العقل الأصولي، وفقهاء الدم، وظاهر الشريعة..
أيضا يتعرض الكتاب لسيرة وفكر المغربي الشهير محمد عابد الجابري الذي اشتغل على تفكيك ونقد العقل العربي الإسلامي الأصولي، منتقداً إعادة إنتاجه للماضي الذي يعتمد على الحفظ والنقل، ومطالباً برفع القدسية عن التراث وفصله عن الدين باعتباره منتجاً بشرياً وسلفياً قابلاً للنقد، ولم يأتِ نقدُ الجابري من الفراغ وإنما بنى على ما انقطع من فكر ابن رشد وابن خلدون وابن الهيثم والشاطبي.
كما ترد سيرة وفكر الشيخ نصر حامد أبو زيد الذي قدم بحثه "نقد الخطاب الديني" لنيل درجة الأستاذية فقام رئيس اللجنة العلمية باتهامه بالكفر والإلحاد والردة، لتبدأ محنة الرجل منذ عام 1993 حيث قام القضاء المصري بإصدار حكم التفريق بينه وبين زوجته باعتباره غير مسلم ولا يجوز زواج المسلمة من غير المسلم، ولم يشفع له إيمانه وعلمه وجوائزه وأوسمته العلمية، واستمرت محنته حيث لجأ إلى هولندا قبل أن يعود إلى مصر ليموت فيها عام 2010
ينظر أبو زيد إلى التفاسير الدينية كمنتج بشري، وكان يقول إن التراثَ الإسلاميَّ اسمٌ جامعٌ لمجالاتٍ معرفية متعددة تأخذ منه المؤسسات الدينية ما يناسب تحالفاتها السياسية، حيث تحول الفكرُ الدينيُّ مع الزمن من فكر حر إلى فكر مغلق يرفض الانفتاح على الواقع ويكبح جماح العقل البشري. وأضاء على تجارب ومحاولات مفكرين مسلمين منذ ابن عربي وصولاً إلى أدونيس وحسن حنفي والتيارات الإسلامية اليسارية. وهو في الواقع لم يكن متطرفاً في دعوة التجديد وإنما اكتفى بإعادة تفسير التراث طبقاً لحاجات العصر باستخدام العلوم الألسنية وتحليل الخطاب في التفسير والتأويل، باعتبار أن النصوص المقدسة موصولة بسياقاتها الاجتماعية غير المقدسة التي تشكلت فيها، لذلك كان لابد من تفكيك بنى النصوص المقدسة وإعادة النظر في المسلمات التي أعطاها الزمن قدسية متعالية على تفكير البشر. فما قام به المفسرون القدامى لا يعدو عن كونه اجتهاداتٍ لابدَّ من تجاوزها، غير أن المؤسسة الدينية ترفض ذلك وتستمر في انغلاقها الديني، في الوقت الذي تستمر فيه بالتلاعب بالنص الديني خدمة للسياسي. غير أن أجرأ طروحاته كانت في التفريق بين مصدر النص القرآني وطبيعة النص، فأن يكون القرآن وحياً إلهياً لا ينفي عنه أنه نص بشري، بالنظر إلى أن الوحي قد تأنسن عندما تجسد في اللغة والتاريخ، ما يجعل النص القرآني محكوماً بجدلية الثبات والتغيير، فالنصوص ثابتة في المنطوق متحركة ومتغيرة في الدلالات، والقول بألوهية النص لا ينفي انتماءه للبشر وعلاقته بواقعهم. لهذا يرى أن النَّصَّ صنوُ الواقع الذي نشأ فيه والدلالات اللغوية وقتذاك. وبذلك يعود نصر حامد بنا إلى الأمر الإلهي (إقرأ) وتعدد مستويات القراءة الألسنية للنص القرآني.
لكن حتى الآن، ورغم ظهور مفكرين عرب مهمين كالجزائري محمد أركون وتلميذه السوري هاشم صالح، لم يأتِ أحدٌ بعدُ بنظرية متكاملة وجاذبة للمسلمين لتحريرهم من سلفيتهم الدينية والارتقاء نحو تشكيل المسلم المعاصر، وما زالت الأمية الدينية متفشية بين المسلمين وخصوصاً رجال الدين النقليين الذين يستثمرون تبرعات الأميين وتمويل السياسيين لإبقاء المجتمع المسلم على حاله من الضعف والتخلف والتفكك.
6
منذ أطلقنا جريدة الجمل الإلكترونية عام 2006 إلى اليوم ونحن ننشر على صفحة "عقائد" دراسات المجددين في الفكر الإسلامي. وعندما عرَّفنا موقعنا بأنه "ضد الجميع بالتساوي" لم نكن نقصد العداء للناس بالطبع طالما أننا نعمل من أجل تنويرهم، وإنما كنا نقصد أننا ضد الفكر السلفي في الممارسة السياسية والدينية والاجتماعية السائدة.. ومنذ ذاك الوقت تجمع لدينا محتوىً هائلٌ من مواضيع تجديد الفكر الإسلامي، وكان الأبرز بينها والأكثر موضوعية، حسب ملاحظتي، طروحات المفكر الجزائري محمد أركون في سؤال التأويل وكيفية إنجاز قراءة معاصرة للنص القرآني اعتمادا على الأدوات والمناهج الحديثة، وذلك ضمن إطار تاريخية النص الديني والفكر الإسلامي وعلاقته بالراهن الاجتماعي والسياسي في توليده المستمر للمعنى.
ويسلّط أركون نقده على استمرار اعتماد المفسّرين المعاصرين في تفسير القرآن على المفسرين القدامى، في وقت يحتاج هذا النص إلى قراءة عصرية تستجيب للتطورات والتغيرات التي عرفها التاريخ العربي والإسلامي؛ وهذا يستدعي علمنة الإسلام للوصول إلى إسلام جديد، مع حرصه أن لا تشكل العلمنة بدورها سلطة عليا جديدة تحدد لنا ما ينبغي وما لا ينبغي التفكير فيه. فالعلمانية كما يراها أركون، هي إحدى تجليات الحداثة في مرحلتها المتقدمة، حيث يتميز النظام العلماني باحترام الفرد وحرية الضمير، وضمان الحرية الدينية لجميع المواطنين دون استثناء، إضافة إلى الاعتراف بالتعددية الدينية وحرية الاعتقاد.
ويعيد أركون طرح سؤال: لماذا تأخر المسلمون وتقدم الكفار؟ فيلوم المسلمين على البحث عن الإجابات لأسئلتهم في التراث، بينما يرى الحلَّ خارج دائرة المقدس، بل على حساب المقدس وأصوله ونصوصه وتطبيقاته، لأنّ محور الحياة هو الإنسان وليس الله تعالى. ذلك أن عملية نزع القدسية عما هو غير مقدس يشكل أكبر عملية تجريد للعقل المسلم في زماننا المعاصر، وذلك من أجل أن يتمكن الإنسان من التصالح مع نفسه أولاً، وثانيًا مع الزمن الذي يحيا ضمنه.
ويرى الباحث المصري د. عماد الدين إبراهيم في قراءته النقدية لفكر محمد أركون أن الأنسنة تحتل مكانا محورياً في مشروعه العام والمشتمل على قراءة النصوص الدينية قراءة حداثية بالمعيار الغربي المعاصر، لتخليص المسلمين وكل الناس من أسر المعتقدات الغيبية، والمقاربات الدوغمائية، ليستوي الجميع في حياة لا سلطان عليها إلا العقل.
ويرى د. إبراهيم أن أركون لا يقصد بالعقل الإسلامي استخدامه السائد عند الفلاسفة المسلمين، بل يقصد به القوة الفكرية المتطورة المتغيرة بتغير البيئات الثقافية والأيديولوجية، وهى خاضعة للتاريخية. كما تعني العقلانية في الفكر الحداثي عدم الخضوع لأية سلطة غير سلطة العقل.
وقد توصل أركون عبر دراساته إلى تعيين الحلقة المركزية لمشكلة المجتمعات العربية والإسلامية، فرآها مجسمة في ضرورة نقد العقل الإسلامي، لأن العقل العربي نفسه لا يزال عقلاً دينيًا، كما أن العقل اللاهوتي الموروث منذ مئات السنين لا يزال يهيمن على الثقافة الإسلامية والعربية على السواء. ويرى أن المهمة جسيمة، لأن تطبيق المنهج التاريخي على التراث الإسلامي، اعترضته في السابق عوامل موضوعية، كانت تؤجل البحث فيه لصالح تغليب الصراع من أجل التحرر الوطني، لكن بعد تحقيق الاستقلال اتبعت الأنظمة سياسة تقوم على محاربة الفكر النقدي العقلاني، بل شجعت الفكر الأصولي المحافظ بحجة الدفاع عن الهوية والتراث!؟
7
لن يتحقق الإصلاحُ الديني من دون تبني المؤسسات الدينية الإسلامية له، وأولها مؤسسة الأزهر الشريف، كون غالبية مشايخ البلدان العربية والإسلامية تخرجوا منه، دون أن نسمع منهم خطابا يعنى بالتجديد، ذلك أن الأزهر مازال متحفظاً ومقيداً لحيوية التجديد، فهو رغم اعترافه نظريا أن التجديد لازمٌ من لوازم الشريعة الإسلاميّة لمواكبة مستجدات العصور وتحقيق مصالح الناس، فإنه فعليا لازال يحصر الاجتهادَ في النصوص الظنية فقط وبشرط أن يجيءَ التجديدُ فيها على ضوء مقاصد الشريعة وقواعدها العامة. أما النصوصُ القطعيةُ في ثبوتها ودلالتها فلا تجديدَ فيها بحالٍ من الأحوال.
ورغم اعتبار الأزهر أن التكفيرُ حكم على الضمائر يختص به الله سبحانه، وأن رمي الغير بالكفر قد يرتدُّ على قائله فيبوء بإثمه، فإنه لا زال يدرِّسُ في مناهجه فتاوى أئمة التكفير كابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وأبي الأعلى المودودي!
ويصحح الأزهر بعض المفاهيم المغلوطة في الثقافة الدينية كوجوب هجرة الأوطان وأنه لا أصلَ له، لقول النبي (لا هجرة بعد الفتح)، وأن دعوة الجماعات الإرهابية للشباب لترك أوطانهم والهجرة إلى الصحارِي والقِفَار واللحاق بالجماعات المسلحة فراراً من مجتمعاتهم التي يصمونها بالكُفر، هي دعوة مبعثُها الضَّلال في الدِّين والجهل بمقاصد شريعة المسلمين.
ويقول الأزهر إن الجهاد في الإسلام ليس مرادفًا للقتال، وإنَّما القتال الذي مارسه الرسول وأصحابه هو نوعٌ من أنواعه، وهو لدفع عدوان المعتدين على المسلمين، وليس لقتل المخالفين في الدين، كما يزعم المتطرفون، والحكم الشرعي الثابت في الإسلام هو حُرمة التعرُّض للمخالفين في الدين، وحرمة قتالهم ما لم يُقاتلوا المسلمين. وأنَّ المنوط بأمر الجهاد هو السلطة المختصة في البلاد وفق الدستور والقانون، وليس الجماعات والأفراد.
وقد طور الأزهر في مفهومه للدولة وقال إن الدولة في الإسلام هي: الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية الحديثة، وأن الإسلام لا يعرف ما يسمى بالدولةِ الدينية، حيث لا دليل عليها في تراثنا، وأن الخلافة نظام حكم ارتضاه صحابة رسول الله بما يناسب زمانهم، ويصلح عليه أمر الدِّين والدُّنيا، ولا يوجد في نصوص الكتاب والسنة ما يلزم بنظام حكم معين، بل كل نظام من أنظمة الحكم المعاصرة تقبله الشريعة مادام يوفَّر العدلَ والمساواة والحرية، وحماية الوطن، وحقوق المواطنين على اختلاف عقائدهم ومِلَلِهم. وأن المواطنة الكاملة حق أصيل لجميع مواطني الدولة الواحدة، فلا فرقَ بينهم على أساس الدِّين أو المذهب أو العرق أو اللون، وهو الأساس الذي قامت عليه أول دولة إسلامية، وتضمنته صحيفة المدينة المنورة، وعلى المسلمين أن يعملوا على إحياء هذا المبدأ.
وبخصوص المرأة فقد أجاز الأزهر لهاُ أن تُسافر من دون محرم (متى كان سفرها آمِنًا بصحبةٍ تُرافقها أو وسيلة من وسائل السفر تمنع تعرُّضَها لما تكره). وقال إنه يجوز للمرأة أن تتقلَّد الوظائف (التي تصلح لها) بما فيها الوظائف العليا بالدولة.
ورغم ذلك مازال الأزهر يدرس في بعض كتبه شرعية سبي النساء في الحروب ونكاحهن، بما يوحي أن بعض ما فعله "داعش" هو تطبيق حرفي للإسلام.
وما يؤخذ على مؤسسة الأزهر أنها عجزت، منذ العهد الأيوبي إلى الآن، عن وضع تفسير للقرآن وإنما بقيت تعتمد على تفاسير أخرى مثل تفسير ابن كثير والقرطبي وغيرهما من خارج المنظومة الأزهرية!
كما يدرس الأزهر في كتبه أموراً غير مقبولة في ثقافة الناس اليوم كإرضاع الكبير، وشرب بول البعير، ومضاجعة الموتى، وضرب المرأة، وإباحة الرق.
كما لم يساند الأزهر في تاريخه الحديث أيا من مفكري التجديد الإسلامي، أو يتبنى بعض طروحاتهم، أو يعمل على حمايتهم، منذ محنة علي عبد الرزاق، وصولاً إلى فرج فودة ونصر حامد أبو زيد وسيد القمني والمستشار أحمد عبده ماهر. كما رأى الأزهر أن مجتمع داعش مسلمين غير خارجين عن الملة ورفض اعتبار الدواعش غير مسلمين. فمؤسسة الأزهر مازالت رهينة تيارات تغذيها مرجعيات وهابية وإخونجية سلفية، كما هو حال باقي المؤسسات الإسلامية في البلدان العربية، وهي بذلك ستبقى مؤسسة دينية مكبلة غير قادرة على توليد أو رعاية أي حركة تجديد في الفكر الإسلامي. وليس الأزهر اليوم أكثر من متحف إسلامي يعرض ويسوّق عبادة أصنام الفقهاء والمفسرين القدماء، رغم أمثولة النبي ابراهيم ومحمد بن عبدالله حول تحطيم الأصنام !؟
8
ينتقد محمد أركون التيار الأصولي الذي ينزعُ النَّصَّ القرآنيَّ والحديثَ الشَّريفَ من سياقهما التاريخي ليسقطهما على الواقع الراهن بما يخدم توجهاته وأفكاره. كما يرى أركون أنّ الحداثة الاقتصادية والتكنولوجية الغربية شكلت ضغطاً مستمراً على المجتمعات العربية والإسلامية التي لم يتح لها أن تساهم في تشكيل هذه الحداثة، لتكتمل هذه الأسباب بانهيار مشروع التحديث العربي. مما سهّل للأصولية الإسلامية أن تملأ الفراغ الذي تسبب فيه فشل سياسات الأنظمة، حيث قدم الإسلام السياسي نفسه بوصفه الحل المنقذ للأمة العربية والإسلامية، وطرح أفكاراً اختلط فيها الدين بالسياسة. ذلك أنّ أخطر ما في الممارسة الأصولية يكمن في استخدام النص الديني لتبرير عنفها المسلح والأعمال المتطرفة ذات الطابع الإرهابي في عملها حيث شكلت سورة "التوبة" وغيرها من الآيات المحرضة على القتل والعنف ملهماً لهذه الحركات في سلوكها، إذ يعتمد الخطاب الأصولي على القراءة الحرفية الظاهرية لهذه الآيات الدالة على العنف وعلى وجوب إخضاع الأمم جميعاً إلى الإسلام.
ويرفض الأصوليون استخدام المنهج التاريخي، الذي دعا إليه مفكرو الحداثة، في قراءة مثل هذه الآيات، ويصرون على قراءة النص ككتلة واحدة وأن (لا اجتهاد في النص الذي يصلح لكل زمان ومكان ولكل الأمم على السواء). وهي قضية مفصلية ومحورية في العقل الإسلامي وإحدى العقبات الأساسية أمام قراءة منفتحة للنص تميّز فيه ما هو صالح حقاً لكل زمان ومكان من قيم روحانية وإنسانية.
ولطالما تحدثنا عن ضرورة تفكيك الألغام التاريخية التي تنفجر بنا كل حين، حيث ما زال ابن تيمية من قبره يُوَلِّدُ العنف الإسلامي، إذ اشتغل تلامذته منذ منتصف القرن الثامن عشر على تطوير قنبلة التكفير، بدءاً بمحمد بن عبد الوهاب فأبي الأعلى المودودي فسيد قطب وصولاً إلى بن لادن وأيمن الظواهري والزرقاوي وأبي بكر البغدادي.. والواقع أن أسوأ ما حصل للمسلمين هو تبني واشنطن لمشروع مواجهة التطرف الإسلامي، فهي بدلا من تفكيك بناه الأولية، عملت على إشعاله وإعادة توجيهه واستخدامه، كما حصل في تعاونها مع الوهابية لمواجهة الشيوعية ومع الإخونجية ضد الأنظمة القومية، فقويت شوكتهم بحيث أنهم خطفوا بلدانا من حاضرها ليأخذوها إلى الماضي السلفي! وبالطبع لو كانت واشنطن صادقة في مسعاها لتبنت دراسات المفكرين المجددين في الفكر الإسلامي، ولكانت اشترطت على الأنظمةَ الخاضعة لها ضمن برامج (الإصلاح الديمقراطي) تبني أفكار التجديد الديني مقابل مساعداتها المالية وتيسير قروض البنك الدولي لهم. ذلك أن الاستبداد السياسي شريكُ الاستبداد الديني، ولا يمكنُ تحقيق التنمية السياسية من دون تحديث للنسخ الإسلامية السلفية، بينما مجموعات (دعاة الإسلام المدني والديمقراطي) التي تمولها واشطن ما زالت تحمل أفكاراً سلفية، وما ممارستُهُم الشكلية للديمقراطية سوى تقيّة سياسية يخفون بها عنصريتهم وتعصبهم لجماعاتهم بغرض استغلال مقدرات (العدو البعيد) ضد (العدو القريب). ذلك أن الخديعة مباحة في الثقافة السلفية بما فيه استخدام الكذب والتدليس والتظاهر من باب أن "الحرب خدعة"!
لهذا يجب على المؤسسات السياسية والأمنية والتعليمية العربية أن تسارع إلى وضع برامجها الدينية المحدثة التي تتوافق مع مقتضيات العصر ومصالح المواطنين، لأن الأصل في الدين الاستقامة وتيسير حياة الناس. وعلى أصحاب دين الإسلام وأهل بيته الذين خرج الإسلام من بينهم تحسين سمعة دينهم بين الأمم بعد ربع قرن من الاستثمار الأمريكي في الإرهاب الإسلامي الذي حل محل مناهضة الشيوعية في القاموس السياسي، حتى بات المسلم موضع شك وريبة في كل مطارات العالم.
ولقد طرح المفكرون الإسلاميون المعاصرون الكثير من الأفكار والدراسات المفيدة والبناءة لعلاج ثقافة التطرف، غير أن كلامهم بقي صرخة في وادٍ بسبب جبن قادة المؤسسات السياسية الذين لم يحمِهِمْ نفاقُهُم من مخالب الإسلاميين وابتزازهم، فلم يطوروا في مجتمعاتهم، ولم يرتقوا بدينهم، كما لم تحمهم سلطات الغرب العلمانية الذين دمر أسلافهم من قبل أساطيل صديقهم النهضوي محمد علي باشا لصالح أعدائهم العثمانيين، خوفا من قيامة المجتمعات الإسلامية وخروجها من سباتها الشتوي الطويل.
كما يتحمل العلمانيون العرب المتطرفون بعضاً من المسؤولية لرفضهم مرور التجربة العلمانية بالمرحلة الإسلامية كشرط واقعي لتقبل المجتمعات الإسلامية لها، بل أنهم سهلوا على المتشددين وصم العلمانية بالكفر، فأساؤوا بدورهم للتجارب العلمانية في المنطقة، وخسرنا بذلك هذا العدد الهائل من الشباب الباحث عن كيان وهوية تعزز وجودهم، حيث استقبلتهم الجماعات الإسلامية بوعود الجنة والحور العين مقابل قتال العلمانيين الكفار، وهناك العديد من الشواهد التاريخية على ذلك..
وسيبقى العقل الأصولي يدمر محاولات الحداثة دون أن تقدم السلطات شيئاً سوى الحماية الأمنية وتقنية العصا لمن عصى لتخسر مزيداً من الطاقات البشرية من كلا الطرفين، لأن أرحام النساء جهدت في تصنيع هياكل الجميع، وهي هياكل مهمة لأي دولة ترفض هدر طاقاتها البشرية وتعمل على ترقيتها واستثمارها بالشكل الأمثل.
نبيل صالح
إضافة تعليق جديد