رياض نجيب الريس يدافع عن إعلان بيروت ـ دمشق: لا يستحق هذا الضجيج
إعلان بيروت ــ دمشق/دمشق ــ بيروت
دفاعاً عن البيان
لا عن الـموقعين!
رياض نجيب الريّس
الجمل :لم أعتدْ طوال السنوات الطويلة التي قضيتها في العمل الصحافي والثقافي والإعلامي في لبنان وخارجه، أن أدعى إلى المشاركة في صوغ بيان سياسي أو ثقافي من أي نوع كان أو التوقيع عليه. وكنت أتساءل، بيني وبين نفسي، كلما صدر بيان من هذا النوع وقرأته، لماذا لم أُدع إلى توقيعه. وكنت أتحسر مرات عديدة لغياب اسمي عن ركب الموقعين.
إلى أن اتصل بي قبل حوالى شهرين مثقف كبير وصديق عزيز أعتز برأيه وحكمته السياسية، سائلاً إذا كنت على استعداد لأن أوقع بياناً، مع مجموعة من المثقفين اللبنانيين والسوريين، يدعو من جملة أشياء أخرى، إلى تصحيح مسار العلاقات اللبنانية ـــ السورية والحفاظ على علاقات متميزة بين البلدين. فرحبت بالفكرة وفرحت بالدعوة، من دون أن أسأل عن أسماء الموقعين ومن هم وراء فكرة البيان ومن صاغه. واطلعت على نسخة من مسودة البيان، وقرأتها بسرعة، على أساس أن النص النهائي سيعرض عليّ عند التوقيع. وشاءت الظروف أن أنشغل لمدة طويلة خارج لبنان. ولما صدر البيان في جريدة «النهار» بتاريخ 12 أيار 2006، كان اسمي من بين الموقعين في خانة السوريين. وفرحت بذلك.
لما عدت إلى بيروت الأسبوع الماضي، كان إعلان بيروت ـــ دمشق قد أثار تلك الضجة الكبرى في العاصمة السورية وأدى إلى اعتقال مجموعة من المثقفين السوريين من موقعي البيان، وإحالتهم إلى القضاء. وكانت قد انهالت عليّ الاستفسارات من العاصمتين، وكانت في معظمها مستغربة، عما إذا كنت فعلاً من موقعي الإعلان. وحتى عودتي إلى بيروت لم أكن قد قرأت البيان بصيغته النهائية كما نشر ولا عرفت أسماء الذين وقّعوه من اللبنانيين والسوريين.
وكانت قد صدرت التعليقات في الصحافة السورية وحلفائها في الإعلام اللبناني تندد بالإعلان ومضمونه وموقعيه، وكان أكثر ما أصابني شخصياً من التنديد، ما قالته إحدى الصحف باستغراب عن كيف يوقع كاتب هذه السطور وهو «العربي القومي الوحدوي» بياناً يدعو إلى انفصال سورية عن لبنان، ووالده (نجيب الريّس) صاحب مقولة «شعب واحد في بلدين» في الأربعينيات، التي تبناها الرئيس الراحل حافظ الأسد كشعار للعلاقات اللبنانية ـــ السورية في مجال التأكيد على وحدة مصير الشعبين والبلدين. وتضيف صحيفة أخرى فتقول: «كيف يوقع «أساتذة تعلمنا على أيديهم حب سورية وأخذنا أحلامنا وطموحاتنا منهم بالإيمان بالعروبة، وفي مقدمتهم (كذا)» كاتب هذا السطور!
دفعني هذا الكلام وغيره مما نشر في الصحف إلى قراءة إعلان بيروت ــ دمشق وبالعكس بعناية. وقرأت أسماء الموقعين للمرة الأولى. واكتشفت أنني لا أعرف شخصياً إلا عدداً قليلاً منهم من الجانبين السوري واللبناني، بقدر ما اكتشفت أن ليس هناك ما يجمعني فكرياً وسياسياً بغالبيتهم إلا النذر اليسير. ومع تقديري واحترامي لكل موقعي البيان، فأنا شديد الثقة أن معظمهم لم يكن لهم رأي في النص النهائي الذي اعتمد. وأن أغلبهم لم يطلع على محتوى الإعلان بدقة.
أنا لا أعرف تحديداً ملابسات هذا الإعلان وكيف تمَّ التشاور حوله وكيف تمت الدعوة إلى توقيعه ومَن كتب النص، ولم يعد يعنيني ذلك الآن. (لكنني أعرف تأكيداً أن النص لم يكتبه سمير قصير قبل اغتياله كما أشاعت بعض الأوساط). الذي يعنيني وقد اتهمت بالردة «القومية» من الجهات السورية وبالتحبيذ المستغرب المبطن من الجهات اللبنانية، أن أقول رأيي في هذا الإعلان الذي أثار هذا الكم الهائل من الصراخ والغبار لدى السلطات السورية.
بادىء ذي بدء إنه لا يستحق كل هذا الضجيج، كما لا يستحق أن تسقط بسببه شعرة واحدة من رأس أي مثقف سوري أو لبناني وقّع هذا الإعلان، إن كان قد قرأه أم لا. أهم ما يجب أن يقال ويؤكّد عليه هو أن لا يؤخذ الإعلان بجريرة الموقعين عليه، فالإعلان بنصه شيء والموقعون عليه شيء آخر. وإذا كان هناك من مآخذ على بعض الموقعين على الإعلان من قبل السلطات السورية، فالإعلان بنصه ليس السبب الحقيقي لتلك المآخذ. ولو كنت في موقع القرار، لطلبت نشره وتعميمه في الصحافة ووسائل الإعلام السوري كافة، ودعوت أكبر مجموعة من المثقفين غير السياسيين من البلدين، بمن فيهم الموقعون عليه، إلى مؤتمر أو ندوة لمناقشته بنداً بنداً في مسعى توافقي للخروج بالعلاقات اللبنانية ــــ السورية من النفق المظلم التي أوقعت نفسها فيه، إلى رحابة طريق واضح منير يمكن أن يشكّل بداية لعلاقات مميزة فعلاً طالما طمحنا إليها منذ عهود الاستقلال إلى الآن، يتساوى فيها الطرفان من دون منّة أو غلبة.
وأنا أدعو الآن ومن منبر هذه الجريدة، الدكتورة نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية العربية السورية للشؤون الثقافية، والتي خدمت الثقافة العربية في سورية كوزيرة لا مثيل لها لمدة تزيد على ربع قرن، ودافعت عن حقوق المثقفين وعززت من مواقعهم، أن تتبنى هذه الدعوة وتمسك بآلياتها وتقوم بتنظيمها واعتبار بعض نقاط الإعلان بمثابة جدول أعمال لتلك الفكرة. وهذا الأمر لو تمَّ بنجاح، فسيكون أهم من أي تحرك يمكن أن يقوم فيه طرف سياسي (لبناني أو سوري)، وسيفتح الأبواب قطعاً أمام تطور غير مسبوق في تاريخ الكيانين اللبناني والسوري منذ زوال الانتداب الفرنسي وإلى اليوم.
لكن تعزيز هذه الفكرة حول تلاقي المثقفين اللبنانيين والسوريين، يجب أن تسبقها الدعوة بإلحاح إلى الإفراج عن جميع المعتقلين السوريين من موقّعي إعلان بيروت ـــ دمشق بطريقة لائقة قانونياً، في خطوة تعطي الأمان والضمان للمثقفين الذين سيتوافدون إلى المشاركة في هكذا ندوة. وفي الوقت نفسه ستعطي المصداقية لدور ومهمة الدكتورة نجاح العطار إذا أرادت أن تقوم بها، وبالتالي ستفتح الباب على مصراعيه لتعاون كل المثقفين من مختلف الاتجاهات، وفي البلدين، معها.
الأمر الآخر الذي يجب الالتفات إليه، نتيجة لصدور هذا الإعلان وردود الفعل عليه، هو أن تكف الصحافة السورية عن استعمال ألفاظ التخوين والعمالة للأجنبي وغيرها من المفردات السياسية النابية، تأكيداً لوجهة نظرها ودعماً لإيمانها بنظرية المؤامرة التي ملَّ قاموسنا السياسي منها. إن الدفاع عن سورية وسياستها ومواقفها ومصالحها لا يتم، كلما صدر بيان أو تعليق أو مقال أو خبر لا يعجبنا أو لا ينسجم مع السياسة الآنية لتلك الفترة، أن ننهال عليه بقذائف العمالة لإسرائيل ولأميركا وإدارة جورج بوش، ومن دون أن يكون أيضاً في توقيت نشر أي رأي مهما كان، «تزامن مريب» بين حدث سياسي ما وبين رأي لا يعجب طرفاً من الأطراف. أما سياسة البيان بالبيان ــــ كالعين بالعين والسن بالسن ــــ فهي سياسة مرحب بها وتجوز في المجتمعات الديموقراطية، شرط أن تخرج من شرنقة نظرية التآمر وتبتعد عن المفردات الآنفة الذكر.
إن الإعلان الذي أدى إلى تشنج السلطات السورية، ودفعها إلى اعتقال عدد من موقّعيه من السوريين، كان يجب أن يغضب السلطات اللبنانية أكثر، لأن فيه إدانة واضحة للنظام اللبناني وتعاطيه في القضية اللبنانية ــــ السورية. كما أن هناك الكثير من المسكوت عنه في تاريخ العلاقات اللبنانية ــــ السورية المشتركة يجب أن يفسح في المجال لسبر أغوارها. أما اللعبة السياسية اللبنانية التي أخذت تتشكل بعد وقف الحرب الأهلية في لبنان في مستهل التسعينيات، فهي لعبة ملتبسة ومشوّشة في أدائها ومضامينها وشعاراتها وقواها. لعبة مرتكزها وثيقة سياسية دستورية، غير منشورة بكامل بنودها، محمية بقوى محلية وإقليمية دولية، هي وثيقة الطائف، ما لبثت القوى المحلية أن انقلبت عليها بعد وقت قصير.
إن الحياة السياسية في لبنان التي قامت على ما يمكن الاصطلاح عليه بــ «التكاذب التاريخي» بين نخب الطوائف وزعمائها، أسست للعبة أقل ما يقال فيها أنها كانت واحدة من الثوابت المؤسسة للعنف المسلح والحروب الأهلية الباردة المستمرة حالياً. ولو كان مفهوم الهوية الوطنية اللبنانية، كما طرحته جماعات ما يسمى بالأكثرية النيابية تجاوزاً بعد خروج القوات السورية من لبنان، مفهوماً وطنياً صحيحاً موضوعاً بشكل عقلاني وواقعي في إطار الاعتراف بعروبة لبنان أساساً، لما استفزَّ برعونته هذه «الوطنية السورية» وأدى إلى ما أدى من ردود أفعال ليست من شيم البلدين، ولا لمصلحتهما.
إن «التكاذب التاريخي» الذي لاحظه المؤرخ الدكتور كمال الصليبي ويقول عنه إنه أحد عناصر اللعبة اللبنانية التقليدية التي «تشمل توالياً من التعاملات المراوغة بين لاعبين يزعم جميعهم التمسك بأفكار ومبادىء قومية أو وطنية، تهدف إلى خدمة الصالح العام، فيما يسعى كل منهم إلى الاحتيال على الآخر والإطاحة به، مدفوعاً إلى ذلك بولاءات وضغائن وأحقاد بدائية خبيثة تعود في أصولها إلى غابر الأزمان»(*).
إن هذا هو أحد الأوجه الكثيرة المسكوت عنها في الثقافة السياسية التاريخية في البلدين. ولا بد أن يعود أي نقاش في العلاقات اللبنانية ــــ السورية إلى التاريخ.
(*) كمال الصليبي: «تاريخ لبنان الحديث» دار النهار للنشر ــــ بيروت 1967 . الجمل
يتشر بالاتفاق مع الكاتب
إضافة تعليق جديد