سؤال الهويّة الثقافيّة: نحن ما ندرك
تطلب المعلّمة من الأطفال أن ينظفوا أسنانهم بالخيط، وتقول لهم بالفرنسية أن يشدّوه جهة الطريق وتقصد نحو اليسار. وفي تاهيتي، يختلف الناس في مكان سكنهم، منهم من يسكن جهة البحر، ومنهم من يقطن ناحية الجبل. وتغني فيروز «هالبنت يلّي بيتها خلف الطريق». من كان ليعتقد أن وصف الجهات هو جزء لا يتجزأ من الثقافة نفسها. بل إنّه يختلف بحسب تلك الثقافة ومصادرها وموقعها أيضاً. هذا «التوجيه في إطار المكان» يفرد له برتران تروادك فصلاً في كتابه «علم النفس الثقافي» (الفارابي ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم ــــ ترجمة حكمت خوري وجوزف بو رزق).
يرى تروادك أنّ نقاط الاستدلال والتوجه ــــ وإن كانت خارجة عن الفرد ومنطوية في إطار العالم الطبيعي المحيط ــــ إلا أنّ ثمة نظاماً ثقافياً ونفسياً يربط الإنسان بالمكان، ليعقد مع اتجاهاته صلةً وثيقةً متعلقة بقيمه الجمعيّة.
وإن كان الباحث يريد الإشارة إلى علاقة الثقافة بالتأثير على النمو المعرفي للطفل، وفي جزء منه علاقته بالاتجاهات، فماذا لو قسنا نحن هذه المقولة على علاقة شعوب بأكملها بالاتجاهات منذ الطفولة البشرية نفسها؟ مثلاً كان العالم كلّه في الحضارة المصرية القديمة يقع عن شمال (بمعنى يسار) أتون إله الشمس، وعن يمينه. فكل ما هو يمينه يمن وكل ما هو شماله شام. أما الجنوب فكان هو الشمال بالمعنى الحديث، حيث كان النيل ينبع من هناك. وأنت إذا راجعت الخرائط القديمة، فلن تجد جنوبها جنوباً ولا شمالها كذلك. في الواقع إن المسألة كانت مقلوبة تماماً. لماذا يشعر المرء أن الجنوب مرتبط بالأسفل والشمال بالأعلى والأرض كروية في الأساس، يعني أنّها بلا جهات محسومة؟ هل هي مجرد قيمة نفسيّة تكتسبها ثقافات الشعوب لسبب أو لآخر؟
هذه المقارنة ــــ وإن بدت بعيدة عن سياق الكتاب ــــ لكنها استندت إلى فكرة المؤلف عن «المقارنات الكبرى»، على اعتبار أنّ المقارنة هي الوسيلة الوحيدة التي قد تعطي الإنسان دلالات ثابتة، ومنها مقارنة الإنسان المعاصر بأسلافه ومقارنة الثقافات.
وما قيل عن المكان ينطبق على الزمان. إذ يرى الباحث أنه «لا وجود لزمن واحد في ذاته»، بل لطرق متنوعة للتعبير عنه حتى في ظل الثقافة الواحدة. ويدلل على ذلك بتجربة قام بها لمجموعة من الشباب المغربيين حين طلب إليهم رسم حياتهم من خلال سهم: الطفولة، الشباب ثم الشيخوخة، فمنهم من رسم السهم من اليسار إلى اليمين وكتب بالفرنسية، ومنهم من رسم بالعكس وكتب بالعربية، ما يدل على وجود علاقة وطيدة بين مفهوم الزمن واتجاه اللغة في هذه الحالة وتقوم هنا مقام الثقافة.
في الواقع، إن قراءة كتاب «علم النفس الثقافي» ستكون مملة حقاً، لولا بضعة تأويلات جانبية للنص وللتجارب العلميّة التي يزخر بها، ولا سيما أنّ الكتاب يزخر بالجداول والأرقام الجافة والمتخصصة بطلاب هذا النوع من الأبحاث. لكن التفكير في أنّ الثقافة وعلاقتها بالتطور المعرفي قلّما شغلت علماء النفس، يجعل من استطلاع الكتاب وما يأتي به غاية في حد ذاتها.
فحسبما يقول تروادك المحاضر في «جامعة تولوز»، إنّه «حتّى لو أعيرت هذه القضية الاهتمام الذي تستحق لوجد العلماء أنفسهم في مواجهة أسئلة مرعبة يفضلون تجنب الإجابة عنها، نظراً لما تجرّه من نتائج مربكة في علم النفس». وهذا ما حدث فعلاً للعالم
النفساني جيروم برونير الذي تتلمذ على أن المعرفة ليست من اختصاص علم النفس، لتقوده أبحاثه إلى أن المعرفة لا توجد فقط في رأس الإنسان بل في أدوات الثقافة أيضاً، ما قاده إلى التأكد من استحالة وجود تفسير سيكولوجي كافٍ لماهية العقل، ومن أن «أي تفسير يجب أن يأخذ بالاعتبار القوى والضرورات التي تستغلها الثقافة لخلق العقل». مثل هذه المقاطع من وثيقة طويلة غير منشورة لبرونير تغني طيات هذا الكتاب، وتبعد الجمود أحياناً عنه.
يصل بنا هذا الكتاب ـــ وهو حصيلة أبحاث ومراجعات نفسية وثقافية تدخل في صميم اهتمام تروادك المتعلق بأبحاث المعرفة والتواصل والنمو ـــ إلى خلاصة لافتة: «نحن ما ندركه»، ما نصنعه من التصوّرات ونضعها في منظومة نسميها هويّة. ما يقودنا إلى الاستنتاج الأهم؛ لم تعد العنصرية المعاصرة تستند بعد الآن إلى اللامساواة بين الأعراق البيولوجية، بل إلى التمييز بين الثقافات. فهل سيستغل علم النفس الثقافي ليكرس التمييز والعنصرية بين الثقافات؟ يخوض تروادك في سؤاله عن ماهية السحر الموجود في ثقافة الغرب، وجعلت الكاتب الإيراني شايكان يذهب إلى تأليف كتابه «النور يأتي من الغرب».
من جهته، يرى الفرنسي براكنر في «طغيان الندم» أن حضارة مثل أوروبا، مذنبة بأعمالها الفظيعة، استطاعت استبدال الصراع بين الخير والشر بالصراع بين المكروه والمفضل، فتضمن هذه الثقافة وتستبعد تلك. هذا الصراع الأيديولوجي تجسد أيضاً في أبحاث علم النفس الثقافي الاجتماعي، وقطبيها في فرنسا روجيه كايوا الداعي إلى عمومية العقلية الغربية وكلود ليفي شتراوس الذي تبنى النسبوية الثقافية. وبينهما درب ضيق ومهجّن يراهن باحثنا على سلوكه لتجنب خطر الانحراف العنصري، وخطر تحيّز البحث عبر الثقافي. ونضيف: إن لم يكن الانحراف والتحيز قد وقعا فعلاً.
نوال العلي
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد