سبعون يوماً من الموت ناجون من حارم يروون حكايتهم
تفاصيل الأشهر الثلاثة الأخيرة مازالت عالقة في أذهانهم، " كنا ندافع عن أرضنا وعرضنا، لكن الجوع هزمنا"، قاطعه طفل " تفضل القهوة"، " هذا الطفل مقاتل"، قال ثالث، " للقلعة سر" أشارت سيدة مسنة كانت جالسة في زاوية غرفة مزدحمة، فقالت أخرى " لكننا صمدنا و سنعود إلى منازلنا" ، لتختلط الحكايات والأحاديث والجراح التي عاشتها حارم، وقلعتها..
في منزل صغير، التقينا ببعض أبناء حارم، وهم من القلة الذين تمكنوا من الفرار تباعاً وعلى مجموعات عديدة، رووا تفاصيل خروجهم من مدينتهم، والشهور الدموية التي عاشوها، إلا أنهم رفضوا التقاط الصور لهم، لأسباب بعضها يتعلق بأبنائهم المخطوفين لدى مسلحي المعارضة.
على الرغم من الجراح المتقرحة، في أجسادهم وذاكرتهم، كانت الابتسامة ظاهرة على وجوههم المتعبة، اندفعوا بالحديث " بمتعة المنتصر"، تحدثوا عن شهدائهم، و جوعهم وتشردهم، شيء واحد فقط غيب الابتسامة " عناصر الجيش الذين كانوا في حارم، والذين رفضوا الهروب عبر الأراضي التركية، صعدوا إلى الجبال، واستشهد معظمهم"، " هؤلاء الشهداء هم مأساتنا"، قال أحدهم، ويدعى " أبو حسن"، كان مستلقياً على سرير خشبي، يتلقى العلاج بعد أن اصيب برصاصة قناص.
وتابع "حصار حارم بدأ منذ نحو عام ونصف، إلا أن الأشهر الثلاثة الأخيرة كانت فاصلة، اتفقت مجموعات عديدة من كتائب المعارضة على حصارنا، وكانت حارم هدفهم، قاومنا حصارهم، وقاتلناهم بندية، وصمدنا أمامهم، إلا أن الجوع ونقص الذخيرة دفعنا للرحيل".
وأضاف " يؤلمنا أيضاً أن من بين ممن كان يقاتلنا أخوتنا وأبناء عمومتنا، وبعد خروجنا قاموا بسرقة منازلنا، وأحرقوها".
و حارم مدينة سورية تقع في الشمال الغربي من مدينة إدلب، وهي تطل على لواء اسكندرون السوري المحتل غرباً، وتبعد عن حلب 67كم. وتعد حارم عقدة مواصلات مهمة، كونها تتصل مع ما يجاورها من المدن (حلب، إدلب، جسر الشغور، أنطاكية)، وتتصل مع خارج القطر عبر نقطة الحدود في باب الهوى.
وحاول مسلحو المعارضة منذ بداية الأحداث السيطرة على المدينة بسبب موقعها الاستراتيجي إلا أن أبناء حي " الطارمة" الموالون للدولة قاوموهم، قبل أن تنفد ذخيرتهم وطعامهم، حيث انسحبوا من المدينة.
الحصار الخانق
وقال " ابو حسن": " حاصرونا حصاراً خانقاً، منعوا عنا الدواء ، والطعام، والاتصالات، ووجهوا علينا ( في حي الطارمة والقلعة) فوهة دبابة سرقوها من الجيش، وقاموا بقصفنا، كما أطلقوا علينا مئات القذائف".
وتعرض حي " الطارمة"، والقلعة في حارم لعدد كبير من القذائف، خلال فترة الحصار، وصلت في بعض الأيام إلى أكثر من 100 قذيفة، ألحقت دماراً هائلاً بالحي والقلعة الأثرية، وتسببت باستشهاد عدد من المواطنين، بينهم أطفال، بحسب المصادر الميدانية التي كانت تتابع الأحداث حينها.
وتابعنا تفاصيل الحصار الذي تعرضت له حارم، حينها، ونشر على مدار عدة ايام استغاثات سكان المدينة، الذين عانوا من فقدان جميع المواد الغذائية والطبية.
وأعلنت المعارضة، حينها، انها حشدت أكثر من 13 ألف مسلح في مدينة حارم، بين مسلحين محليين، ووافدين من حلب و مقاتلين أجانب ( جهاديون).
وقامت طائرات عسكرية برمي مساعدات غذائية وذخيرة لأبناء المدينة، إلا أن معظم هذه المساعدات سقطت في مناطق يسيطر عليها مسلحو المعارضة.
وتابع" ابو حسن" : " مع بداية الهجوم علينا قمنا بتقسيم أنفسنا لمجموعات، وتمركزنا في مداخل الحي، وفي القلعة، بمؤازرة عناصر من الجيش، وعناصر المفارز الأمنية ".
واستطرد " كنا نقاومهم بالبندقية، وبرشاش خفيف، وكانوا يقصفوننا بشتى أنواع الصواريخ والقذائف، ومع ذلك صمدنا"، قاطعه طفل " لو كان لدينا رشاش دوشكا واحد لما استطاعوا الاقتراب منا".
وقالت سيدة " كنا نضمد الجراح بأقمشة مبلولة بماء وملح، نتيجة فقدان المواد الطبية ".
واشارت إلى رضيع، ذو شعر أشقر، لا يتجاوز عمره السنة وقالت " كانت والدته تأكل أوراق الشجر، كي تتمكن من إرضاعه".
واستشهد في حارم، نتيجة فقدان المواد الطبية نحو 12 شخصاً بينهم نساء وأطفال، في حين تمكن ابناء المدينة من تهريب عدد من الجرحى، ونقلهم إلى مشاف حكومية، وهم حالياً يتلقون العلاج، ووضع احدهم خطير.
وقال " أبو حسن" : " سقط معظم شهدائنا برصاص قناصة، كانت تحركاتنا محدودة ضمن الحي، وفي يوم واحد استشهدت سيدتين برصاص القناصة الذين كانوا يحاصرون الحي ( حي الطارمة) ".
ولا توجد إحصاءات رسمية، لعدد شهداء حارم، إلا أن الأرقام التقريبية تشير إلى سقوط نحو 400 شهيد، في حين تمكن مسلحو المعارضة من "أسر" نحو 100 شخص من ابناء "حارم".
للقلعة سر ..
وقال أحد ابناء حارم ويدعى " محمود حسن"، عرف الحاضرون عنه بأنه منسق العمليات في القلعة " تمكنوا من اختراقنا عن طريق بعض نسائهم اللواتي بقين في منازلهم، كانوا يبلغوهم عن تحركاتنا عن طريق هواتف تركية، إلا أنهم لم يتمكنوا من اختراق القلعة".
وتابع " في القلعة كنا نحو 35 مقاتل بين عسكري وعنصر أمن و أبناء حارم، حاولوا مراراً الهجوم على القلعة، قصفوها بمختلف انواع القذائف، وفي كل مرة كنا نصمد، ونقاوم".
وقلعة حارم، هي قلعة أثرية حصينة بناها البيزنطيون عام 959م على ذروة تل مساحته 4.5 هكتار وارتفاعه 45م، احتلها الصليبيون عام 1098م، وفي سنة 1260م استولى هولاكو على حارم فقتل أهلها وخرَّبها.
وأضاف "حسن" : " استشهد معظمنا قنصاً، وبقينا في نهاية المطاف ثمانية أشخاص فقط، قاومناهم بضعة أيام، إلا أن فقدان الغذاء والذخيرة أجبرنا على الرحيل، ولولا الحصار الخانق لما تمكنوا أبداً من دخول القلعة".
واستطرد مبتسماً : " حاربناهم بالخدعة، كانوا يظنون أن اعدادنا داخل القلعة تبلغ المئات، كنا نفتح عليهم النار من زوايا ومناطق عدة، وساعدونا هم بقصفهم في زيادة الوهم، حيث ترك قصفهم للقلعة فتحات في الجدار الأثري، كانوا يظنون أن خلف كل فتحة يقف قناص".
واستطرد " كانوا يتحدثون إلينا في كل مرة، ويطالبونا بالاستسلام، وكنا نرد عليهم بأننا ندافع عن أرضنا وشرفنا، كانوا يكبّرون.. وكنا نكبّر".
وقال " عانينا من فقدان الدخان، حتى ان بعضنا قام بلف ورق الملوخية والعنب وتدخينه"، وتابع " للقلعة سر لم يستطيعوا اكتشافه ولن يستطيعون، القلعة الآن فارغة، ومع ذلك يخشون من الصعود إليها أو البقاء فيها".
أم صبري ..
" كثيراً كان يصيبنا الإحباط، وكانت أم صبري مقصدنا، كانت تجمعنا كل صباح تقبلنا وتودعنا مبتسمة، وتنتظر نبا استشهاد أحدنا"، قال " أبو حسن".
وتابع " أم صبري سيدة مسنة فقدت ابناءها الثلاثة، كانت تسهر طوال الليل تملأ مخازن البنادق بالذخيرة، وفي الصباح توزعها علينا".
وأضاف " لأم صبري فضل كبير علينا، وعلى حارم، هي أحد أسباب صمودنا"، وعلمنا أن ام صبري تمكنت من الخروج من حارم، وتقيم الآن في منزل آمن داخل الأراضي السورية.
الانسحاب.. والشتات
بعد 70 يوماً من الحصار الخانق، وفقدان الموارد الغذائية، بدأ العد العكسي لأبناء حارم، " انسحاب، لا بل مقاومة، انه الجوع، علينا أن ننسحب"، قال شاب في العشرين من عمره، رفض التعريف عن نفسه.
وقال " أبو حسن": " عند نفاد الذخيرة والطعام، والدواء، قررنا ان نخرج من حارم تباعاً وعلى شكل مجموعات صغيرة، عبر الأحراش إلى تركيا، ومن تركيا إلى الأراضي السورية عبر ممرات آمنة، إلا أن عناصر الجيش رفضوا الخروج من سوريا".
وتابع بنبرة حزينة " حاولنا إقناعهم إلا أنهم فضلوا الموت على الخروج من سوريا، وبالفعل سلكوا الطريق الجبلي، وانقطعت أخبارهم، وسمعنا فيما بعد أنباء عن استشهاد بعضهم، وخطف بعضهم الآخر".
وأضاف " مازلت أذكر كلمات بعضهم : سنقاتل حتى النهاية، وإن اضطررنا للانسحاب فلن نغادر سوريا، كنا وقتها نأكل آخر ما بقي من برغل طبخناه وتناولناه معاً، وكان الفراق".
وبدأ أبناء حارم، حينها بالخروج من مدينتهم على شكل دفعات، النساء والأطفال سلكن طريقاً مخفياً، والشبان على شكل مجموعات صغيرة، كل في اتجاه، ومن كان في القلعة خرج عبر طرق سرية، لم يتمكن المسلحون حتى الآن من معرفتها".
وقالت السيدة المسنة، وهي والدة " أبو حسن" : " مشيت مع بعض الأطفال عدة كيلومترات دون جهة محددة، إلى أن وصلنا إلى قرية صغيرة مجاورة، ساعدنا أبناؤها على الفرار".
وأشار " ابو حسن" إلى طفل في الثانية عشر من عمره وقال " تاه هذا الطفل في الجبال، وألقى المسلحون القبض عليه، احتجزوه بضعة ساعات، وسلموه إلى مجموعة أخرى، تركته بعد أن حققت معه".
ولايزال مصير الكثيرين من أبناء حارم مجهولاً، بين مخطوف وتائه وعالق في تركيا.
وأثناء زيارتنا لإحدى عائلات حارم، وصلت سيدة وطفلتها، فعم الصمت المكان، تلاه دموع غزيرة، " إنها دموع الفرح .. إنهما على قيد الحياة"، قال أحد الموجودين.
ويتوزع الناجون من حارم بين عدة محافظات، معظمهم في اللاذقية، وبعضهم يتلقى العلاج في المشافي الحكومية.
ولم يحظ الناجون من مدينة حارم ، بأي اهتمام حكومي خاص، حيث لايزال معظمهم يقطن في بيوت استأجروها بأنفسهم، وقال " محمود حسن" : " كنا ندافع عن أرضنا وعرضنا، ولا نريد اي تكريم من أحد".
وقال شاب في عقده الثالث، فضل عدم ذكر اسمه " تركتنا الحكومة في حارم نحارب بمفردنا، لم ترسل لنا أية تعزيزات، كما لم تحاول بجد أن تفك حصارنا، حتى المساعدات التي ارسلتها لنا عبر الطيران لم تصلنا، وصلت للمسلحين، ولا نعرف السبب".
وتابع " ننتظر بفارغ الصبر اللحظة التي يعلن فيها الجيش نيته دخول حارم، لنكون في الصف الأمامي، كل ما نفعله الآن هو الانتظار.. سنعود إلى منازلنا، ونبني ما هدموه من جديد".
ومع انتهاء اللقاء، قاطعت سيدة كلمات الوداع، وقالت " في المرة القادمة، لن تزورونا هنا، سيكون اللقاء في حارم، وسيصطحبكم أبو حسن في رحلة صيد، الصيد ممتع في جبالنا".
تلفزيون الخبر
إضافة تعليق جديد