سعاد جروس تكتب عن «الجدار» وبيت حانون
الجمل- سعاد جروس: بحرارة وعاطفة وإعجاب منقطع النظير, صفق الجمهور للعرض المسرحي «جدار», الذي قدمته فرقة القصبة الفلسطينية ضمن فعاليات مهرجان دمشق المسرحي الثالث عشر. كان مكافأة على عمل مؤثر للغاية, لما حمله من قيم فنية وجمالية وإنسانية مشغولة بحساسية ورهافة وبساطة عالية. تناول العرض موضوع جدار الفصل الذي بنته إسرائيل على أنقاض حياة الفلسطينيين الذين يعيشون في مناطق اخترقها الجدار وقطع أوصالها. يصفه جورج إبراهيم مخرج العرض, بـ«جسم غريب زرعوه في أحشائنا وغذوه بكل أنواع الظلم والعذاب والقهر, وجعلوه ينمو ويكبر ويتلوى في عروقنا كالأفعى الجوعى... يبتلع في كل يوم شيئاً من لحمنا ثم يتسلق إلى رقابنا ويلتف حولها ويكتم أنفاسنا... نحاول الصراخ فتضرب أصواتنا عمق الجدار, فيرتد الصدى مدوياً وترحل أمواجه إلى كل مكان فلا من مجيب».
لم نر في العرض بندقية ولا حزاماً ناسفاً, أو استشهادياً, ولا أياً من الرموز التي تحتمل وجهتي النظر المتناقضتين عن «الإرهاب والمقاومة», أي لا شيء مما هو مختلف عليه, لم نسمع خطاباً مجلجلاً, ولا شعارات مطلقة, من لوازم نضالنا العربي المزمن. وإذا كان العرض قد تخفف منها, فقد نجح في أن يقدم لنا معاناة البشر الفلسطينيين العاديين ذوي الأحلام البسيطة مع جدار يدمر حياتهم يومياً. فالميت لو بعث حياً أسهل بكثير على أهله من دفنه في المقبرة التي باتت خلف الجدار, والخياطة التي تستعيد حلماً قديماً يأتي اليها الجدار ويخنق حلمها. أما مصممة الأزياء التي «تحسبها دائماً صح» فنراها تنقل محل عملها الى حيث الشباب موجودن, إلا أن هؤلاء إن وجدتهم يكون نصفهم بانتظار موت لئيم والنصف الآخر جائع لا قدرة لديه للتمتع بشبابه. فتنته مصممة الأزياء بائعة بسطة عند الجدار, ورجل كل أمله الحصول على مكان يصلي فيه, وحين تسد السبل الموصلة الى الجامع, يعود الى بيته يدخل الحمام للوضوء فيجد نفسه والحمام على كف جرافة تقتلعهما كي يمر الجدار. وعريس يبني بيت الزوجية حجراً حجراً, وينتظر أن تزوره العروس لترتبه كما تشاء فإذا بالبيت يصبح وراء الجدار, وكذلك حال كثر قدمهم العرض كشخوص تنمذج حياة الفلسطينيين إزاء جبروت جدار يمزق العلاقات ويحدد المصائر, بينما يشكل مسلسل التفتيش والتصاريح الطويل معاناة يومية مذلة ومنهكة, قاربها العرض برشاقة وخفة وسخرية مرة, ليضع الجمهور في مواجهة قاسية مع مشاهد لا تعنى بها نشرات الأخبار, مشاهد تُولد ما يليها من عمليات استشهادية ومقاومة مسلحة لا مناص منهما. ويتجلى الفن على أنه الأكثر قدرة على رصد المشترك الإنساني الراهن, فحين يتم توارد الأخبار عن نبأ عملية قام بها استشهادي أو استشهادية, كخبر تفجير الصبية ميرفت مسعود نفسها بالقرب من مجموعة جنود إسرائيليين في بيت حانون, يرد الخبر معزولاً عن خلفياته, لم حدث هذا؟ من هي ميرفت, وأي معاناة عاشتها قبل أن تلتحق بالمقاومة المسلحة؟ بماذا كانت تحلم صبية بعمر الورد الندي قبل أن يتلبسها حلم الاستشهاد؟ أسئلة تهملها نشرات الأخبار, ليتلقفها إبداع فاعل, كلما كان لصيقاً بالخطر كلما كان صادقاً وحقيقياً.
تكشف مسرحية «الجدار» ببساطة وعمق, كيف يمكن أن يتحول إنسان فلسطيني الى مشروع شهيد أو استشهادي؟ وكيف تسحل الأحلام على بوابات العبور؟ دون أن يورط العرض نفسه بإعادة صياغة ما تعتني به وكالات الأنباء, بل يطرح أسئلته بحنكة وشفافية من خلال دمعة تتراءى في عين ممثل, أو موال يعلو من حنجرة مكلومة؛ تطلق تفاعلاً حقيقياً, يتسرب تأثيره إلى وجدان خدرته الفجائع ومسلسل مجازر لا تنتهي, ليصحو على صوت ميرفت تودع أهلها وتسألهم المعذرة, مبررة استشهادها بقول معناه «بما أننا سنموت لا محالة, فمن الأفضل أن نموت استشهاديين». وبعد أيام قليلة تقع مجزرة بيت حانون الرهيبة ويذهب الأطفال والنساء شهداء.
مسرحية جدار ترسم المسافة بين الاستشهادي والشهادة مسافة من القهر, معمرة بقذائف الحقد الأسود, مسافة لم تعد تعني السياسيين ولا الأنظمة المشغولة بقلع أشواكها بيدها وبيد بوش وكونداليزته الساحرة. تلك المسافة قطعتها نساء بيت حانون ليواجهن سلاح الاحتلال وقذائف الحصار, بإقبالهن على موت يهبن فيه أبناءهن الحياة, في حدث أرعب جنرالات إسرائيل ليس من قوة تصديهن, وإنما خشية أن يتحولن الى نموذج يحتذى, مسافة أترعتها جثامين الأمهات وأشلاء الأطفال.
في حين تطوعت فضائياتنا الغناء, لدفن وقائع مسيرة نساء بيت حانون بنبأ الحكم على صدام حسين بالإعدام, بعد أن تبرعت بخوض معركة الانتخابات الأميركية على طريقتها, فأفردت المساحة الأكبر لتحليل النبأ وتفكيكه وتركيبه, ولفلفت في طريقها أنباء الاجتياح الإسرائيلي لغزة, ومجزرة بيت حانون بمتابعتها للانتخابات وردات الفعل على الحكم, والذي إن كان سينفذ, فليس قبل شهر من تاريخ إعلانه, وهي مدة ستكون كافية ليقوم الإعلام بتجييش الشارع العراقي مع وضد, في تشجيع مباشر لا إنساني على استمرار مسلسل القتل المجاني, وكله يهون فدا انتخابات الأمبرطورية الأميركية قائدة العالم المتمدن والمتخلف, وقد يموت من البشر في هذه الفترة الوجيزة عدد يفوق ما قتله صدام حسين طوال مدة حكمه. كما قد يموت المئات من الفلسطينيين بعيداً عن عيون العرب الذي سيشغلون بوقائع محاكمة تتجدد بلا توقف طالما لم تحسم معركة بوش الداخلية.
وحده الإبداع قادر على التعامل مع هموم الإنسان وقضاياه المصيرية, وانتشالها من ركام الأخبار, ليتحول المسرح إلى صرخة حية تهز الضمائر, طالما هناك إنسان يسحق ويتآمر عليه ببشاعة الإعلام والسياسات الدولية.
بالإتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد