سيرة الحزب الشيوعي الأردني في مذكرات يعقوب زيادين
بعد كتابه "البدايات.. أربعون عاما من مسيرة الحركة الوطنية الأردنية" الذي أصدره أواخر السبعينات، ثم كتاب "يعقوب زيادين.. شاهد على العصر" الذي يتضمن الحوار الذي أجراه مع أحمد منصور في برنامجه بقناة الجزيرة "شاهد على العصر"، يواصل الدكتور يعقوب زيادين عرض وتقييم العمل الوطني وتجربة الحركة الشيوعية الأردنية على مدى 60 عاما.
انتظم زيادين في صفوف الحزب الشيوعي عام 1943 عندما كان طالبا في الجامعة، وانتخب نائبا عن القدس عام 1956. وهو ابن الكرك، وكان عضوا في المكتب السياسي ثم أمينا عاما للحزب الشيوعي الأردني.
يصف زيادين نفسه بأنه طبيب أولا، وسياسي إلى حد ما، ويترك للناس أن يعتبروه إن شاؤوا مناضلا وإنسانا بذل جهده في إطار قناعاته الفكرية التي حافظ عليها عقودا دونما أهداف شخصية.
ويعرض تجربة العمل الشيوعي بقدر كبير من الصراحة والنقد الذاتي والانسجام مع النفس بلا حسابات سياسية أو تنظيمية.
ففي عام 1990 اتخذ موقفا مخالفا للسياق العام من الغزو العراقي للكويت، ولعله كان رأيا وحيدا ومخالفا في السياق السياسي تعرض بسببه للنقد والأذى من قيادات سياسية وجماهير غاضبة وهائجة لم تكن تتحمل مثل هذا الرأي.
وربما تكون الفترة بين عامي 1951 و1957 تمثل الفترة الذهبية في تاريخ الحزب الشيوعي الأردني، وهي فترة حظيت باهتمام إعلامي وبحثي كبير، ولكن العقود التالية لم تتعرض للدراسة والتذكر، وهي فترة من الملاحقة والعمل السري يسميها زيادين سنوات الصمود وانقباض القلب.
ويعرض زيادين هنا قصصا ومعلومات بجرأة فائقة لا أعتقد أن حركة سياسية أردنية أخرى امتلكت جرأة شبيهة أو قريبة منها لتروي للأجيال والمجتمعات تجربتها الحقيقية والأحداث والروايات كما هي بالفعل.
فقد تعرض الحزب الشيوعي لصراعات واستقطابات داخلية يتحدث عنها الأمين العام للحزب وليس أحد الكتاب أو النشطاء من داخل الحزب أو قريبا منه.
وبالطبع فإن الحركات السياسية جميعها تعرضت للصراعات والاختراقات بسبب طبيعة المرحلة السابقة وما صاحبها من تفاعلات معقدة وساخنة.
وربما يكون مناسبا اليوم بعد انتهاء هذه المرحلة ودخول المجتمعات والدول مرحلة من الهدوء والاسترخاء وانتشار تداول المعلومات أن تقدم الشخصيات السياسية في الحكم والمعارضة والعمل المجتمعي والنقابي تجربتها وشهادتها، فذلك يشكل المدخل الأول والأساس لتطوير العمل العام والعمل المهني أيضا.
يبدو يعقوب زيادين في مذكراته متدينا ومتمسكا بالعادات والتقاليد العربية والأردنية ومنتميا إلى بنية المجتمع التقليدية والقبلية ويعتبرها تصلح لقيام مجتمع صالح منتج ومتماسك.
وهو لم يتخل عن تدينه وهو شاب يدرس الحقوق ثم الطب ولم يتخل عنها وهو منخرط في العمل الشيوعي والفكر الماركسي في مرحلة كان الشباب حتى غير المسيسين والحزبيين وبخاصة المتعلمين يعزفون عن الدين ويعتبرونه تخلفا ولا يتفق مع العلم والتقدم.
ويدافع زيادين عن رؤية إصلاحية وتنموية قائمة على المحافظة على بنية المجتمع القبلية والدينية وأساليبه في الحياة والعمل والإنتاج والإدارة.
ويرى أن التحول الذي جرى في الطابع السكاني والاجتماعي في الأردن حوّل البلد إلى نظام برجوازي كبير وكمبرادوري صغير وبيرقراطية قوامها الموظفون، وجعل المجتمع استهلاكيا غير منتج وقضى على الموارد التقليدية للإنتاج القائمة على الزراعة والصناعة.
وظل زيادين قادرا على الجمع بين الشيوعية الأممية وبين الوطنية والانتماء العميق والرومانسي إلى الأرض والأهل والناس البسطاء.
وقد أكسبه النضال مزيدا من الاقتراب من أسرته وأهله واستطاع أن ينأى بنفسه عما يحدث للكثير من العاملين في المجال الحزبي والسياسي والعام من جميع الاتجاهات والانتماءات من استعلاء وعزلة وتطلعات قيادية تبالغ في الغرور والادعاء، وكأن ذلك ظاهرة حزبية تقترب من الحتمية.
وكان يرى اقتناء الثلاجة والأجهزة الكهربائية والسلع المستوردة ترفا استهلاكيا لا تحتمله الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للبلد والناس ودعما للاستعمار ونفوذه الاقتصادي والثقافي، ويرى التقدم الحقيقي مرتبطا بالزراعة والصناعة لا بالتقنيات والكماليات بل والضرورات المستوردة.
ولد يعقوب زيادين في محافظة الكرك في مجتمع رعوي زراعي أقرب إلى البداوة، ويعتمد على نفسه في تأمين احتياجاته الأساسية.
ودرس في مدرسة تنصيرية في القرية، ثم انتقل إلى المدرسة الأميرية في الكرك عام 1933، وكان من أساتذته في تلك المدرسة سليمان النابلسي الشاب المتخرج حديثا من الجامعة الأميركية في بيروت والذي شغل فيما بعد عام 1956 منصب رئيس الوزراء.
وانتقل عام 1939 إلى مدرسة السلط الثانوية الوحيدة في الأردن، وهو يتذكر كيف تبدلت حياته وصار ينام على سرير حديدي لأول مرة، ويشتري بنفسه ملابس جديدة ويتصرف مستقلا بنقوده وحياته.
وكاد بعد الثانوية أن يبدأ حياته العملية، خاصة أن أخاه الأكبر المتصرف تقريبا في شؤون العائلة كان يفضل له أن يعمل ويتزوج ويشارك العائلة أعباءها وإدارة مواردها.
ولكنه انتقل إلى دمشق بتأثير والدته وهمتها، ودرس الحقوق استجابة لرغبة أخيه الأكبر، ولكنه بعد سنتين تحول إلى دراسة الطب في بيروت، وتعرف في دمشق على الحزب الشيوعي.
وبعد تخرجه طبيبا جراحا بدأ العمل في القدس وأقام حياة اجتماعية وعلاقات تطورت حتى انتخب عام 1956 نائبا عن محافظة القدس وهو ابن الكرك، وصار عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وكان قبل ذلك عضوا عاديا في الحزب وإن كان قد تعرف منذ إقامته في القدس على فؤاد نصار رئيس الحزب الشيوعي.
يتحدث زيادين باختصار -على غير المألوف- عن فترة منتصف الخمسينات وتجربة العمل السياسي والحزبي العلني وحكومة سليمان النابلسي الحزبية التي كان الشيوعيون يشاركون فيها، وعن تجربته النيابية، ولكنه يسجل شهادة نادرة وجريئة.
فهو يرى أن الجبهة الوطنية التي كانت تضم مجموعة من الأحزاب السياسية مثل الشيوعي والبعث والوطني الاشتراكي كانت متفسخة، إذ إن حزب البعث الذي خسر في الانتخابات أخذ يكثف اتصالاته ببعض عناصر الجيش الطموحة، وبقيت القوى الوطنية متفرقة تزداد بينها الخصومات المفتعلة.
واعتقل زيادين بعد أحداث عام 1957 لمدة ثماني سنوات حتى صدر عفو عام 1965 فخرج من السجن ثم سافر إلى ألمانيا الشرقية لمدة ثلاث سنوات واصل في أثنائها دراسته التخصصية في مجال الطب.
وكان غيابه الطويل عن أسرته سبب غربة له في الأسرة، فقد كبر أولاده بعيدا عن أبيهم ووطنهم ولم يتعلموا اللغة العربية.
وقد وجد ألمانيا بلدا غريبا عليه في طعامها ونظامها وصخبها ولغتها، وشعر بصدمة قاسية ولكنه كافح لتجاوزها وحاول أن يعلم أولاده العربية ويتعلم هو الألمانية.
لقد تحدث عن ذلك بصراحة وألم، ولكنها تجربة غنية حول الانتقال من بلد إلى بلد والشعور بعدم الأهمية في الأسرة، وحول تعلم لغة جديدة في منتصف الأربعينات.
وهي تجربة حول التخصص في المهنة على يد زملاء يصغرونه بسنوات، وحول مذلة الحاجة إلى المساعدة من الصغار والعودة إلى التعلم والفجوة مع الأبناء والأصدقاء والمجتمع والبيئة المحيطة.
دخل تلك التجربة وهو المتعود دائما على مساعدة الناس والتفوق عليهم، فعايش الأولاد المختلفين في لباسهم ولغتهم، ثم نظام الحياة القاسي الممل الذي لا يكاد يختلف في وحشته وقسوته وربما وحشيته عن السجن، والطعام المختلف، والانتقال الكبير من هدوء الصحراء وسكونها إلى سرعة إيقاع المدينة وصخبها، والطقس السيئ.
ولكنه استطاع بعد سنة من الكفاح أن يعيد صياغة نفسه ويرتب أوضاع أسرته ويحقق الانسجام والألفة ويتقدم في تعلم اللغة والمهنة، وتقدم لامتحان التخصص بعد ثلاث سنوات ونجح ليعود مرة أخرى إلى الأردن عام 1968.
وكانت مشاركته الأولى في المؤتمرات الشيوعية عام 1967 في فرنسا، وقد أعجب بتجربة الشيوعيين الفرنسيين وتفكيرهم وطريقتهم في العمل، وكان يقيم في أثناء المؤتمر في بيت رئيس بلدية شيوعي منتخب، يعيش في بيت بسيط ويقدم راتبه الضخم إلى الحزب ويأخذ فقط ما يكفيه لمعيشة الكفاف بمساعدة زوجته التي تعمل هي الأخرى.
افتتح يعقوب زيادين عيادة في عمان، وكان الأردن يضج بالعمل الفدائي، ولكن الحزب الشيوعي الذي كان يقوده فهمي السلفيتي في غياب فؤاد نصار في ألمانيا لم يشارك في العمل الفدائي.
ودخل زيادين في مواجهة مع السلفيتي الذي يصفه بالمرتد، ويسجل هنا أن السنوات الصعبة التي مرت بالحزب جردته من قيادة فاعلة لتحل مكانها قيادة انتهازية يمينية منحرفة تجر الحزب إلى مواقف معادية لحركة المقاومة.
ولكن أجواء الحرية التي بدأت تعود عام 1967، وخروج الرفاق من السجن وعودتهم من المنفى وعلى رأسهم فؤاد نصار، أعادت تشكيل الحزب وتنظيمه وتهميش السلفيتي ثم إعلانه الانفصال عام 1971.
لم تكن الشيوعية نقيضا للدين والتقاليد كما يعتقد زيادين، وكان يمكن أن تكون من أهم مصادر الإغناء الفكري والعملي لبرامج وحركات النهضة والإصلاح في العالم الإسلامي والعالم كله، لولا أنها ارتبطت سياسيا بدولة عظمى هي الاتحاد السوفياتي.
وكان الفكر الشيوعي والاشتراكي ضحية الصراع السياسي والعسكري بين قوتين عظميين، واستخدم الفكر وقودا للصراع والتعبئة، ولو لم يكن الاتحاد السوفياتي شيوعيا لما كان الصراع بالطبع، ولتجنبت الشيوعية حملة فكرية هائلة من التشويه والتحريف والاستدراج.
يعتقد زيادين أن الإسلام يقدم تجربة اشتراكية ونضالية غنية مثل قرار عمر جعل أرض العراق والشام بيد فلاحيها بدلا من تحويلها إلى إقطاعيات وملكيات كبيرة لفئة صغيرة من الفاتحين.
ويعرض أمثلة من الآيات والتوجيهات الإسلامية من القرآن والسنة، مثل قوله تعالى "ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين"، "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين"، فالمستضعفون هم بالتأكيد العمال الكادحون أو البروليتاريا. ومن مثل قوله تعالى "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم"، "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم".
وما يعطي مصداقية لرؤى وأفكار زيادين هو أنها ليست جديدة فهي قديمة وأصيلة لديه، وفي المجال التطبيقي لعمل مشترك مع الحركة الإسلامية ثمة تجارب قديمة أواخر الأربعينات إلى ما بعد منتصف الخمسينات تدل عليها محاضر مجلس النواب.
فقد كان ثمة تنسيق وعمل مشترك بين يعقوب زيادين ومحمد عبد الرحمن خليفة المراقب العام السابق والتاريخي للإخوان المسلمين وعضو مجلس النواب الأردني عام 1956.
وثمة عمل مشترك فيما سمي "شباب الأردن" كان يشارك فيه نبيه رشيدات من الرعيل الأول للشيوعيين الأردنيين، ومحمد عبد الرحمن خليفة، وقد اعتقل الاثنان معا في معتقل باير الصحراوي عام 1948.
ويتذكر زيادين أن اليساريين والقوميين أقاموا حفل استقبال لمحمد عبد الرحمن خليفة في سجن الجفر الصحراوي أواخر الخمسينات.
والاشتراكية وتجاربها إذا عزلت عما لصق بها اعتسافا تصلح للمواجهة الفكرية والثقافية مع العولمة الطاغية، وموجة إغراق العالم بأنماط من الثقافات والاستهلاك تذهب بموارده وحياته وتعدديته وخصوصياته.
وقد يكون التلاقي الاشتراكي الإسلامي إحياء لمشروع ثقافي مبدع بدأ قبل 60 عاما بالعدالة الاجتماعية في الإسلام لسيد قطب قبل أن تجهضه تطورات السياسة والحرب الباردة.
- الكتاب: ليست النهايات.. الشيوعيون في الأردن
- المؤلف: يعقوب زيادين
- عدد الصفحات: 237
- الناشر: دار الكرمل
- الطبعة: الأولى 2006
إبراهيم غرايبة
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد