"ضيعة" هاواي.. إنها تشبه سوريا
الجمل- أُبيّ حسن: هي ليست ضيعة بالمعنى التقليدي لكلمة ضيعة, إنها أقرب ما تكون إلى القرية السياحية التي نبتت, بفعل الطبيعة, على وجه الأرض؛ سمتها العفوية والبساطة في خدماتها شبه المنظمة.. مساحة "ضيعة" هاواي ربما لاتتجاوز الخمس دونمات, مرمية على شاطئ البحر بين رأس البسيط والحدود التركية.. ومن الطبيعي أنك تستطيع, وأنت جالس فيها أن تمتع ناظريك بالجبال التركية(التي كانت ذات يوم سوريّة).
الضيعة عبارة عن مجموعة خيم تشبه الشقق الصغيرة, عددها بالعشرات, آهلوها موظفون وضباط ومهندسون واقتصاديون ومتقاعدون.. الخ, ينصبون هذه الخيم طوال أشهر الصيف, بعضهم يقيم طوال تلك الأشهر, وغيرهم يأتي نهاية الأسبوع كي يغسل نفسه وروحه من هموم العمل ومتاعب الحياة بماء البحر.. إنها, بالنسبة لآهليها, خير متنفس في زمن الضيق.
أول ما خطر في بالي, عندما زرت هاوي, إنها ليست قرية أو ضيعة, أكثر ما هي حارة, يقوم عمادها على النسيج السوري المتباين والمتآلف في آن واحد, مع لفت الانتباه إلى أنها الضد الطبيعي لـ"باب الحارة". وأفترض أن سكّان قرية كهذه تشمئز آذانهم من سماع تفاصيل قانون الأحوال الشخصية(المسودة) سيء الذكر, فنقاء البحر وزرقة السماء وجمال الطبيعة وتعدد ألوانها المماثل لتعدد خلفيّات أولئك السكّان, هذا كله من شأنه أن يفرض عليهم ذائقة أدبية وجمالية وحتى أخلاقية تتنافى كلياً وذلك المشروع الطالباني الظلامي.
سماء الضيعة غابة من الأشجار, وسكّانها عائلات سوريّة من مختلف مناطق اللاذقية وغير اللاذقية, القاسم المشترك بينهم, هو أنهم يحبون الحياة ويقبلون عليها بنهم العشّاق, ويعبّرون عن حبهم هذا من خلال علاقات الودّ التي تربط بينهم طوال فصل الصيف, ويمكن للمراقب أن يلمس علاقات تكاد ترتقي إلى درجة الإخاء, ناهيك عن حسن الجوار الذي يخيّم على أناس تلك القرية.
هناك, عندما تغادر منزلك(خيمتك) لاداعي لأن تتأكد من إغلاق بابها بإحكام, ولا ضرورة مطلقاً كي تنتابك "لوثة" قلق إذا ما كنت في عرض البحر, وقد تركت جوالك وبعض حاجياتك الشخصيّة على إحدى الطاولات خارجاً, بما فيها طاولات الجيران, إذ لا شيء يُفقد أو يضيع هنا, فالأمانة من خصائص هذه القرية وسمات آهليها, التي نرجو صادقين أن لا تطولها يد وزارة السياحة وجشع رجال الاستثمار.
الكثير من الأطفال هنا, خاصة من وُلد وترعرع في المدينة, سيقول لك إن سألته عن اسم ضيعته: إنها "هاواي", فهم لا يعرفون سواها ضيعة, ففيها تنمو طفولتهم, وعلى أرض هذه القرية يقضون فتوتهم وصباهم, وفي ملح بحرها ينسجون علاقاتهم المعشرية الحقيقية, وحفيف ورق أشجارها يشهدُ على حكاياتهم وأفراحهم وعذاباتهم.. بكلمة أخرى: هنا, في هاوي, يجدون ذواتهم بعد أن ضاقت بها "فضاءات" المدينة.
كأي قرية أخرى, تنتمي إلى العصر, في سوريا, شهدت هاواي قصصاً للحب تكلل بالزواج؛ وبعض أعراس أولئك العشّاق, تمت على أرضها تعبيراً عن الوفاء لأهلها. وتقول لي, إحدى الزميلات, التي استضافتني وزوجها(مع بالغ الشكر والامتنان لهما): "هون, مافي شي مخبا.. اللي بدّو يخانق زوجته, بخانقها هون وكلنا منسمع, واللي بدّو يعبّر عن حبو إلها بعبّر لها عن هاد الحب هون وكلنا شهود, ولايوجد استثناء أو تفضيل, في شيء, لأحد على أحد".
وحقيقة لا يستطيع أحدنا إلا أن يلمس أحد أوجه العدالة الاجتماعية في تلك الضيعة, ففيها لا وجود لأبناء ست وأبناء جارية, إذ يتساوى هنا ابن الأمير مع ابن الفقير؛ ويمكنك أن تشاهد منظر رجل متديّن لا يعرف التزمت طريقاً إلى قلبه وعقله, يجالس أصدقائه من خلفيّات لا علاقة لها بالدين وأسواره. والمشترك الأهم بين تلك الفوارق –إن وُجدت- هو البساطة, وعدم الادعاء, والإقبال بشراهة على الحياة.
مايسترو القرية, السيد والصديق حسن قبلان, يُشرف على إقامة حفل فني أسبوعياً(كما فهمتُ منه), تتخلله موالات الميجانا والعتابا(إن لم تخني أقداح العرق), وبعض السكابا, والكثير من الموسيقا الصاخبة الضاجة بالحياة, ذلك الصخب الذي يعيد حيوية الشباب إلى من بلغ من العمر عتيا؛ هذا على الأقل ما لاحظناه عندما رأينا كهلاً (ربما كان في عقده السابع) يراقص, بحيوية لافتة للانتباه, فتاة ماتزال في عقدها الثالث. كان من الممتع أن تشهد بنفسك كي تنبتُ الحياة هنا, وكيف تزهر وتثمر!.
جيران "الضيعة", إضافة إلى النجوم والقمر ليلاً, قرية البدروسية وشاطئ الأحلام(لم نقم بزيارته), حيث يمضي الدكتور والمترجم المعروف ثائر ديب معظم أيام صيفه.. تُرى هل لخصوصية تلك "الضيع" المنسيّة, كـ"هاوي" و"شاطئ الأحلام" أثره في غزارة إنتاج الصديق ثائر الذي (كما نفترض) كان يجب أن يكون شاعراً(على غرار طفله الواعد) لا مترجماً؟.
من بعد عودتي, من تلك القرية, انتابتني مشاعر عدة, إذ كنت أعتقد(واهماً) أن آهليها ممن يجيدون الهروب من مواجهة الحياة بكل رعونتها وقساوتها, لكن لم يلبث الأمر طويلاً حتى ارتأيت أنها ليست من أجمل القرى التي زرتها في سوريا فحسب؛ بل(ولا أكون قد بالغت) إنها قرية تشبه سوريا إلى حد كبير وبعيد, بسحر طبيعتها, وتعددها, وتنوعها, وإقبال أهلها على عشق الحرية والجمال وتقديس الحياة.. نعم إنها تشبه سوريا كما نريدها أن تكون.
أخيراً: شكراً حسن.. شكراً رندة, لأنكما أتحتما لي فرصة رؤية وجه جميل من بلادي.
إضافة تعليق جديد