أكثر من خيبة.. أقل من استجداء
أُبيّ حسن: ليس العنوان من قبيل المبالغة, ولا التهويل, ولا حتى المواساة أو التعاطف, ولا التشفي كذلك؛ فلتجربة تلفزيون المشرق(التي نتمنى لها النجاح والاستمرار) ايجابياتها وسلبياتها. والأهم من ذلك أنها قدمت لوناً مغايراً(على صعيدي الشكل والمضمون) عن المألوف في الإعلام السوري, بشقيه الرسمي والخاص. بيد أن ما كتبه غسان عبود تحت عنوان: "المشرق... حكاية الإعلام الخاص", بخصوص محطته التلفزيونية, يندرج تحت بند الخيبة (كي لانقول: الفجيعة) الشخصيّة, بشكل من الأشكال (على نقيض بعض من وصفه بالبيان, والبيان رقم واحد.. الخ). وهي خيبة من مستويين بحسب اعتقادنا, سنتحدث عنهما لاحقاً. وهو في الوقت نفسه ينطوي (مقاله الأول, تحديداً) على استجداء مبطن, قد يكون سببه اليأس والإحباط ممن كان يأمل أن يكونوا له سنداً وعوناً في بلد نخشى أن يكون صار أشبه بحارة "كل من ايدو ايلو" التي تبقى أقل سوءاً من "باب الحارة" ؛ نعني تحديداً, النخب الإعلامية السياسية الرسمية, تلك النخب التي استعصى عليها, من وجهة نظر عبود, أن تفهم وتتقبل مشروعه "التجاري", فأرادت أن تقولبه وفقاً لنظرياتها الجاهزة!.
من خلال قراءتي, لما أورده غسان في ثنايا مقالين(حتى تاريخ كتابة هذه الأسطر) نابعين من قلب مترف بالألم والخيبة, تبيّن لي أن الرجل لا يطرح مادة للنقاش, قدر ما هو يبثُّ همومه الشخصية كمستثمر لديه مشروعاً تجارياً هدفه الربح: «.. إنني مستثمر وأن الهدف هو هدف تجاري», انطلاقاً من ذلك الهدف كان من الطبيعي أن لا يرى غسان عبود في سوريا سوى «سوق فيه أكثر من عشرين مليون مستهلك»؛ ونخشى أن يكون الشعب السوري, تلقائياً, عبارة عن مجموعة أرقام لا أكثر, في عرف فضيلة المستثمر!.
وحديثه عن امتلاك سوريا لمقومات «تساعد الحامل الإعلامي على ترويج مادته الإعلانية, كجمال الطبيعة وتنوعها, وتنوع المخزون الحضاري, وتنوع التركيبة السكانية...», أتى بطريقة عرضية, ومبتسرة, تهدف إلى إبراز وشخصنة الخيبة(خيبة رجل الاستثمار لا رجل الإعلام), أكثر ما ترمي لإحياء سجال في بركة الإعلام السوري الراكد باعتراف آل بيته, وهذا الركود ليس سرّاً, قدر ما هو فضيحة.
ربما تلك اللغة المتعالية, إلى حد ما، على الشعب السوري (ونخبه), من قبل غسان, والتي تنطوي على شيء من الانتقاص لمتلقيها, من خلال نظرتها إليه بطريقة تجارية/رقمية(من حيث يريد أو لا يريد المستثمر), كان من شأنها أن قللت من نسبة المتعاطفين مع خيبة صاحب المقالين. وربما هذا ما يفسّر لنا, أيضاً, ضحالة التعاطف معه من قبل المواقع الالكترونية, التي تناقلت "البيان رقم واحد", بحسب وصف بعضها له. وتكاد تكون نادرة هي الأقلام التي أعربت عن تضامنها مع صاحب الخيبة؛ وذلك, كله, على نقيض الصورة الايجابية شبه الجمعية, التي حققتها القناة(المشرق), في وعي ومخيال نسبة معتبرة من المشاهدين السوريين, ضمن حدود معرفتنا.
في ما يخصّ مستويي الخيبة, يمكننا الحديث أولاً, عن خيبة أمله في كسب شريحة معتبرة من السوق الإعلاني, بما من شأنه, أن ينهض بمحطته على الصعيد المادي بغية استمراريتها(وإلا فلا)؛ وبما يحقق لصاحبها هدفه "الأسمى", ألا وهو الربح, باعتبار أن هدفه تجاري بحت, من دون أي هدف آخر كما يتبين من مقاليه. فليس من الصعب لمن يتابع "المشرق" أن يجد افتقارها للإعلانات, اللهم عدا إعلانها لبضاعة وكالات (وربما شركات) تعود ملكيتها لصاحب المحطة. ومن المعروف أن مركز الثقل في الإعلانات, داخل سوريا, كائن في مؤسسة الإعلان التابعة لنخبة إعلامية رسمية خيّبت ظنون المستثمر, كما ظهر.
من نافلة القول, إن من حق المستثمر الربح, ونستطيع أن نقدّر حجم المرارة التي تكتنفه. فمن البدهي أن الرجل أغدق الكثير من المال على محطته, بمكاتبها والموظفين القائمين عليها, ومن حقه الطبيعي أن يشعر أن مشروعه سيحقق له عائداً مادياً يرضيه, إن عاجلاً أم آجلاً. فهو اختار سوريا كونه وجد فيها «سوقاً واعدة شبه خاوية من الاستثمار في مجال الإعلام الفضائي»؛ يمكننا أن نلاحظ هنا, أن اختياره لسوريا, ليس لافتقارها لإعلام ينتمي إلى العصر ولغته, بل كونها سوقا خاوية, وهذا ليس عيباً.
المستوى الثاني من الخيبة, هو "صدمته" من تلك النخب التي عناها في حديثه, والتي كررت على مسمعه أسئلة ممجوجة ومملّة, فعلاً, من قبيل: "من أنت, ومن تمثل, وما هو توجهك, ... إلخ" بحسب قوله, في حين كان ينتظر منها, وهو محق في هذا –اللهم, كما نفترض- أن تشجّعه في خطوته الاستثمارية تلك, باعتباره ابن البلد, والمفترض أنه يعرف "مفاتيح" العمل فيه جيداً, وهي(أي النخب الإعلامية والسياسية) تملك من «الذكاء التعامل معها (مع المحطة ورسالتها الإعلامية) واستيعابها وليس اتهامها وقولبتها في قوالب تنتمي إلى ستينات وسبعينات القرن الماضي»؛ وهنا ستكون الخيبة مضاعفة؛ إذ من الصعب على أي مستثمر يعرف واقع سوريا وتفاصيل إجراء معاملة أي مشروع فيها, أن يصدم بتلك البلادة(إن صح القول) من الطرف الآخر المفترض أنه سيلعب معه بذكاء, فكيف الحال إذا ما كان «ليس صعباً اكتشاف مضمون الرسالة الإعلامية التي تحملها أي وسيلة إعلامية»؟, هل ما ذُكر بين قوسين يحتاج إلى منجّم كي يدرك مابين السطور؟.
ربما البلادة سابقة الذكر, وخيبة الأمل ممن لم يكن يُعتقد أنهم سيكونون كذلك, هي ما جعل استجداءه المُبطن, يبدأ بلغة تنطوي على تحد في مطلعها: «أعود وأقول في هذا القرن الذي نعيشه اليوم والذي اصطلح على تسميته بقرن ثورات الاتصالات المتجددة, أصبح من الصعب قولبة الإعلام ضمن قوالب النخب الإعلامية والسياسية السورية الاتهامية الجاهزة, كونه أصبح حالة مرفوضة» (مرفوضة؟!, هل كانت مقبولة سابقاً من غسان عبود؟), إلى أن يصل الاستجداء إلى ذروته من خلال سؤاله: «هو كيف أن الجمهور السوري المقيم والمغترب, على اختلافه وتنوعه, وفي زمن قياسي, وبفطرته السليمة, قد اهتم بتجربة تلفزيون المشرق وفهمها وتقبلها واحتضنها وتفاعل معها, في حين أن النخب الإعلامية السورية تلك, لا تزال تلهث في البحث عن تصنيفات وقوالب جاهزة تعلب هذه التجربة, دون عناء البحث في مضمون الرسالة الإعلامية لتغنيها وتثريها..». يمكننا أن نسأل هنا, ببراءة: متى كان بمقدور النخب التي يعنيها غسان, وهي النخب ذاتها التي تشرف على إعلامنا المتكلّس المنقود منّا ومنه(وربما منهم أيضاً), أن تثري وتغني تجربة مثل تجربة "المشرق"؟ هل يؤمن حقاً السيد غسان عبود, أن من بيدهم الحلّ والربط في إعلامنا(من دون ذكر أسماء), بمقدورهم إغناء أو إثراء أي تجربة إعلامية؟!.
الحديث عن تجربة "المشرق" يطول, وهي تجربة تستحق النقاش بغية تشجيعها واستمرارها, وليس هدمها؛ والمفترض أن يكون نقاشنا حولها باعتبارها محطة تحمل رسالة, وليس بمنطق مالكها الاستثماري. نسوق ما سقناه بمعزل عن موقفنا من صاحبها ورأينا فيه(سلباً كان أم إيجاباً). فمثل هذه التجربة, إذا ما قدّر لها النجاح, هي نصر لنا كإعلاميين سوريين, قبل أن تكون نصراً (أو ربحاً مادياً, وهو الأصح) لصاحبها الذي نأمل أن ينهض من خيبته التي تجلت مجدداً عبر مقاله الثاني: «فهؤلاء يمارسون على تجربة المشرق مقولة "يافيها يابخفيها", وفهمكم كفاية؟!». ولا يعيب غسان عبود, مطلقاً, أن يكون ما كتبه في مقاله الأول نداء استغاثة, قبل أن يعتبره «بعض الإعلاميين» كذلك, وليس بحاجة إلى تبرير ذلك: «هؤلاء "الإعلاميون" اعتبروا كتابي نداء استغاثة مظلوم لم يعط ترخيصاً سورياً لمزاولة التلفزيون مهامه في سورية». من وجهة نظرنا, هو ليس نداء استغاثة فحسب, بل هو أقل من استجداء, وهذا حقه, تماماً كما أن ما انطوى عليه مقالاه هما أكثر من خيبة(نخشى أن تكون فجيعة), وإن حاول "جاهداً" التقليل من(كي لا نقول تحقير) زملاء له لم يقم بتسميتهم. ولا بأس أن تنطوي مقالته الثالثة(لا ندري إن كانت قد نشرت بعد), على شيء من النظر إلى الشعب السوري ونخبه الإعلامية(وإن كانت لا تعجبنا وتروق لنا) والإعلاميين السوريين باعتبارهم بشراً لهم كراماتهم, لا أرقاماً في دفتر حسابات المستثمر.
إضافة تعليق جديد