عبدالفتاح كيليطو : أيها الأجنبي «لن تتكلّم لغتي»
هل في إمكاننا إتقان لغتين بتفوّق؟ وما هي الوسيلة للعبور من لغة الى أخرى وكيف التصرف بينهما؟ وما هي سُبل النجاح في الترجمة التي لا بد من ممارستها؟ ولماذا نفرح حين يتكلم أجنبي لغتنا، ونكره، على رغم نفينا، أن يتكلم هذا الأجنبي لغتنا مثلنا؟ أسئلة مهمة يحاول الجامعي المغربي عبدالفتاح كيليطو الإجابة عنها في كتابه الصادر حديثاً لدى دار «أكت سود» (سلسلة «سندباد») بعنوان «لن تتكلم لغتي»، مرتكزاً على ثقافته العربية والغربية الواسعة وعلى أسلوب قاطع وطريف يجمع بين الجد والفكاهة.
اللافت في هذا البحث الذي يقع في نحو مئة صفحة هو عدم اعتماد كيليطو فيه على مقاربة نظرية تقليدية لمعالجة موضوعه الفسيح، بل على سبعة فصول نقدية قصيرة لا رابط ظاهراً بينها، لكنها تشكّل مجموعة طريقاً مختصرة وفريدة لبلوغ مقصده. ففي فاتحته، يتوقف عند مسألة الكاتب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي ليشير الى عدم إتقانه أي لغة أوروبية، وعدم رغبته في ذلك، كما يشهد على ذلك أسلوبه الغارق في التقليد. ومع ذلك، يعتبر كيليطو أن كل صفحة كتبها هذا الكاتب الكبير تهمس سؤالاً ثابتاً: كيف يمكنني أن أكون أوروبياً؟ وبالتالي، يستنتج جانبين ظاهرين في كتاباته: الأول ينمّ عن رفض واعتراض: مَن منكم يقدر على اتهامي بميلٍ أوروبي، أنا الذي لا أعرف سوى اللغة العربية وأكتبها مثل أسلافي خلال العصور الذهبية للنثر العربي؟ والجانب الآخر تبريري واسترضائي: مَن منكم يقدر أن ينكر أنني أبذل كل جهدي لاستيعاب أوروبا والوفاء لها؟ ولكن على كل أغلفة كتبه نعثر على اسمه فقط، من دون أي إشارة الى الأدباء الفرنسيين الذين اقتبس رواياته من أعمالهم. وكأن المنفلوطي تغذى من هؤلاء الأدباء حتى أصبح ذكرهم أمراً فائضاً وغير ضروري، وكأن الثقافة الأوروبية تحوّلت الى ملابسه الداخلية (هو الذي ولع بالملابس الداخلية الأوروبية) تحت عباءته التقليدية التي لم ينزعها حتى وفاته.
في الفصل الأول، يتناول كيليطو مسألة خضوع الأدب العربي لتقويمين زمنيين، الهجري في البداية، ثم الغريغوري منذ القرن التاسع عشر، فيُقسّم الذاكرة العربية الى ثلاث حقب: حقبة أولى ذات ملامح مميزة، وحقبة ثانية تتسم بسبات عميق، وحقبة ثالثة فقدت الذاكرة العربية فيها معالمها المألوفة وانخرطت داخل ذاكرة أخرى ومقياس آخر للزمن. ثم ينتقل الى قول للمستعرب الفرنسي ومترجم الجاحظ، شارل بيلا، مفاده أن الكتب العربية مملة مهما كان موضوعها، ما عدا كاتباً واحداً هو الجاحظ، فينتقد عدم موضوعية هذا القول ويُظهر أن استثناء بيلا للجاحظ ليس قائماً على قيمة كتبه بقدر ما يقوم على تشابه إنتاجه الفكري والأدبي مع إنتاج كتّاب أوروبيين مثل إيراسم ورابلي ومونتاني. وفي هذا السياق، ينتقد الباحث نزعة تقويم الأعمال الأدبية العربية فقط على أساس تشابهها مع الأدب الأوروبي، الأمر الذي ينكر أصالتها وأهميتها ويحوّل وجودها مجرد وجود عارض وثانوي. نزعة رائجة بين المستعربين والباحثين الغربيين تشرح هاجس الترجمة الى إحدى اللغات الأوروبية الذي يتملّك الكاتب العربي الحديث، منذ أحمد فارس الشدياق، والذي لا أثر له لدى الأدباء والفلاسفة العرب القدماء، وهذه النزعة تفضح خصوصاً المعيار الذي يقف غالباً خلف خيار النصوص العربية التي تُترجم. في الفصل الثاني، يتوقف كيليطو عند مسألة الترجمة انطلاقاً من موقف الجاحظ الشهير منها، وهو موقف سلبي في ظاهره، يعزو فيه الجاحظ استحالة ترجمة الفلسفة اليونانية لعدم اختصاص المترجمين بمادة الفلسفة ولعدم تمكن أي كان من لغتين معاً، واستحالة ترجمة الشعر الى مقاومة هذا الأخير أيَّ محاولة في هذا الاتجاه.
ولكن، بعد قراءة دقيقة لكتابات الجاحظ عن هذا الموضوع، يبيّن الباحث أنها تقع في سياق حوار بين طرفين متنازعين يصعب فيه استشفاف موقف محدد للجاحظ منه. إذ نجده يتوارى خلف شخصيات يدفعها الى التحاور من منطلَق تنافسي وعدائي، فيبدو حاضراً – غائباً، يوزع الكلام على ممثلي مختلف الآراء من دون أن يلعب دور الحكم أو يجزم في اتجاه أو آخر. في الفصل الثالث، يقلل كيليطو من حجم فضيحة «التفسير» الخاطئ الذي وضعه ابن رشد لـ «شعرية» أرسطو، فيعزو أسبابه الى جهل فيلسوف قرطبة الكبير بالمسرح الإغريقي ومصطلحاته، جهل سببه تجاهل العرب آنذاك أي شكل من أشكال الشعر الأجنبي لاعتقادهم بأن الشعر، على خلاف الفلسفة، يفقد ماهيته ما إن يُنقل الى لغة أخرى. في الفصل الرابع، يستعرض الباحث مسلسل رحلات ابن بطوطة لإظهار طبيعته المغامرة وضعف قدراته الكتابية التي لم تسمح له بأكثر من تدوين ملاحظات لا قيمة أدبية لها، وبالتالي لكشف الدور المركزي الذي لعبه ابن الجوزي في «ترجمة» رحلاته أدبياً.
في الفصل الخامس، نتعرّف الى كاتب مغربي من القرن التاسع عشر يدعى محمد الصفّار، كان في عداد البعثة التي أرسلها السلطان عبدالرحمن لزيارة باريس ولقاء الملك لوي فيليب، وقام بتدوين انطباعاته أثناء هذه الرحلة داخل كتاب مثير يتجلى فيه تأثّّره بكتاب الطهطاوي ونظرته الثاقبة الى ملامح الحداثة التي استنتجها في فرنسا، وإن لم يتجرّأ كالطهطاوي على دعوة مواطنيه مباشرة الى الإصلاح وإلى الالتحاق بالمدرسة الأوروبية لسد عجزهم في ميادين العلوم والتقنيات.
في الفصل السادس، يُبيّن لنا كيليطو كيف أن إخفاق الشدياق في لفت أنظار الملكة فيكتوريا ثم الملك نابوليون بقصائد المدح التي كتبها لهما، إخفاق يعزوه الكاتب اللبناني الى فقدان هذه القصائد قيمتها الشعرية لدى ترجمتها، ولكن أيضاً الى احتقار ملوك أوروبا الشعراء الذين يمدحونهم لغايات نفعية، وهذا ما دفعه الى تحرير كتابه الشهير «الساق على الساق». وبالتالي، فإن سرّ عبوره من الشعر الى النثر، ومن قصيدة المدح الى كتاب يتراوح بين أدب الرحلة والرواية والسيرة الذاتية، هو ملاحظته الفارق الكبير بين أوروبا وعالمه المألوف، وعدم توافق الأدب الذي تغذى منه ونشأ داخله مع الذوق الأوروبي، وانتماء ثقافته الى الماضي وثقافة الفرنسيين الى الحاضر. ومع أنه لن يضيّع فرصة داخل كتابه من دون إعلان وفائه لثقافته، فهو لن يتمكن من عدم رؤية مستقبل العرب في حاضر الأوروبيين. وهذا بالتحديد ما يبرر اضطلاعه بمقارنة طويلة ودقيقة بين عالميهما.
وفي الفصل السابع، يقارب كيليطو تناقض موقفنا من الأجنبي الذي يتكلم لغتنا، مبيّناً بالأمثلة أن فرحنا بالجهد الذي يبذله هذا الأجنبي للتكلّم بلغتنا مصدره الفرصة التي يمنحنا إياها لتشجيعه وتصحيح أخطائه، وبالتالي لشعورنا بالتفوّق عليه. ولكن حين يتقن الأجنبي لغتنا تماماً مثلنا يختلف الأمر كلياً وتحلّ الريبة مكان اللطف والعطف، ليس فقط لأنه يضايق عقدة تفوّقنا، ولكن أيضاً لشعورنا بأنه سلب منا لغتنا، أي مكوّنات وجودنا وهويتنا، وبالتالي سلخنا عن ذاتنا وعن ملجأنا.
ويختتم الباحث كتابه بالإشارة الى أن لا أحد اليوم يغفر للمترجم متّى بن يونس ترجمته السيئة لـ «شعرية» أرسطو، وفي شكل خاص الفيلسوف المصري عبدالرحمن بدوي الذي يعتبر أنه لو فهم العرب هذا النص منذ البداية لاستوعب الأدب العربي الفنون الشعرية العليا (التراجيديا والكوميديا) منذ القرن الثالث هجري، ولتحوّل وجه هذا الأدب كلياً.
لكن كيليطو، ومع تذكيرنا بأن ابن يونس نقل هذا النص الشهير من السريانية، وبالتالي فإن الأخطاء التي وقع فيها قد يكون مصدرها الترجمة السريانية، يرى أننا كعرب ندين بالكثير الى هذا المترجم. فلولا سوء ترجمته لتخلّى أسلافنا عن الأنواع الأدبية التي ابتكروها ومارسوها ولسَعوا الى دراسة الأدب اليوناني وتقليده، تماماً كما فعلوا في ميدان الفلسفة.
أنطوان جوكي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد