عن الحـروب التـي شـنتها أميـركا بالديـن: انحـراف تاريخـي قاتـل يضاهـي تكلفـة 11 أيلـول
بعد ثلاث سنوات على هجمات 11 أيلول، قال زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن، في شريط فيديو تمّ بثّه، إنه يتّبع مع الولايات المتحدة الوسائل نفسها التي طبّقها «المجاهدون»، الذين كانت واشنطن تموّلهم آنذاك، ضد السوفيات خلال الحرب في أفغانستان. وأبرز تلك الوسائل «مواصلة استراتيجية استنزاف أميركا حتى إفلاسها».
قد يكون بن لادن قُتل قبل تحقيق «هدفه» بالكامل، إلا أن خبراء أميركا الاقتصاديين يقرّون في حصيلة تقييمهم لعشر سنوات من «الحرب على الإرهاب»، أن سحر «صاحبة السيادة الاقتصادية» قد انقلب عليها وأن الحلم «اللادني» قد يتحقق، فـ«الحرب ونتائجها، خصوصاً ارتفاع اسعار النفط، كلها عوامل استنزفت من الولايات المتحدة مبالغ هائلة.. قد تفقدها سيادتها الاقتصادية على العالم»، بحسب الخبير الاقتصادي جوزف ستيغليتز.
بداية، وعلى الأمد القصير، بلغت كلفة الاعتداءات على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك وحدها نحو مئة مليار دولار، بحسب معهد التحليلات للأمن الشامل، تشمل الوظائف المفقودة والعائدات الضريبية التي تبخرت والدمار وأعمال التنظيف وغيرها. في وقت، أضاف المركز أن كلفة إعادة الإعمار في موقع البرجين تقدر بين ثلاثة مليارات و4.5 مليار دولار، بينما كلف إصلاح الأضرار في مبنى البنتاغون مليار دولار.
صحيح أن التكلفة المباشرة للاعتداء كانت باهظة، إلا أنها لم تكن ما قصم ظهر الاقتصاد الأميركي، بل «الكلفة المالية للردّ على الاعتداءات، والتي كانت اكبر بكثير من كلفة الاعتداءات بحد ذاتها، وتحديداً الرد في أفغانستان والعراق»، بحسب ما رأى الاقتصادي راين ادواردز الذي قال في دراسة نشرها أواخر الشهر الماضي «لولا الحرب، لكانت نسبة الدين العام لإجمالي الناتج الداخلي اقل بتسع أو عشر نقاط مما هي عليه اليوم، حيث ارتفعت إلى حوالى مئة في المئة».
قد توافق الباحثة الاقتصادية ليندا بيلمس على ما قاله زميلها بشكل بديهي، إلا أنها تذهب في هذا الاتجاه بعيداً، حيث تقول إنه «لم تكن حربا العراق وأفغانستان هما ما كبّد الولايات المتحدة التكاليف الاقتصادية الباهظة التي جرّت عليها الأزمة المالية الراهنة، بل تغطية تكاليف الصراعات التي أعقبت تينك الحربين وما ترافق معها من تكاليف متزايدة تتعلق بتعزيز سبل الدفاع وحماية الأمن القومي. فتكاليف الحرب تظل في تزايد دائم حتى بعد وقف إطلاق النار أو تهدئة ساحة المعركة.. الأمر الذي ينطبق بشكل أساسي على الصراعين العراقي والأفغاني».
المشكلة، بحسب بيلمس التي تشاركت مع ستيغلتز في كتاب «حرب الـ3 تريليون دولار: التكلفة الحقيقية لغزو العراق»، كانت في أن « 1.6 تريليون دولار التي صرفت تمّ تمويلها عبر الاقتراض، أضف إلى ذلك 800 مليار دولار صرفت في عمليات الدفاع لم تكن مرتبطة بشكل مباشر بالحرب، إضافة إلى مئات المليارات من الدولارات التي خصصت من أجل تدابير متعلقة بالأمن الداخلي».
يُذكر أن تمويل الحروب وسياسات الدفاع عبر هذه الطريقة (الاقتراض) كان بمثابة انحراف أميركي تاريخي. فالأميركيون اعتادوا أن يموّلوا حروبهم عبر فرض زيادة على الضرائب. والرئيس الأسبق رونالد ريغان خير مثال، حيث رفع الضرائب ثلاث مرات كي يدفع تكاليف الحرب الباردة. وهو مثال جاء مناقضاً في حرب إدارة بوش حيث أطلق حربين بلا تمويل، رافقتهما تخفيضات ضريبية من جهة، والإبقاء على برامج أمنية موروثة عن الحرب الباردة وبرامج أخرى عديدة (نتيجة تعزز الخطر الإرهابي)، من جهة أخرى.
والخسائر لم تتوقف عند هذا الحدّ، وستظل أميركا تدفع ثمن حروبها باهظاً. فبرأي بيلمس «ستظل أميركا تتكبد تكلفة هذه الحروب حتى بعد أن تسحب جنودها من ساحات المعارك». أما السبب فهو «ارتفاع معدلات الإصابة وسط هؤلاء ممن بقوا على قيد الحياة، وكذلك الفوائد السخية لقدامى المحاربين الذين تدين لهم الأمة بحوالى 600 إلى 900 مليار دولار على المدى الطويل، بما تتضمن من رعاية صحية وتعويضات عجز.. وهذا الرقم لا ينفك يرتفع يومياً». وكانت بيلمس أشارت في ورقة أعدتها مؤخراً تحت عنوان «التكاليف الحالية والمستقبليّة المتوقعة لقدامى المحاربين في أفغانستان والعراق» إلى أن «أكثر من نصف العائدين خضعوا للفحص في جميع المرافق الصحيّة، واستحق أكثر من 600 ألف من العائدين الجدد الحصول على فوائد الإعاقة مدى الحياة».
يضاف إلى التكاليف السابقة، تلك المتعلقة باستبدال المعدات العسكريّة والحربية التي تمّ استخدامها بمعدل ست إلى عشر مرات إضافية عما تستخدم في حالات السلم، وعلى رأس التكاليف الهائلة المذكورة، يتربع مشروع قانون الفائدة المكرّرة على الأموال التي اقترضتها الإدارة الأميركية.
ترى بيلمس، في تقريرها الذي نشرته «كريستيان ساينس مونيتور» الأميركية أن «الحرب على الإرهاب، والسبل التي اعتمدتها أميركا لتمويلها، أسهمت إلى حدّ بعيد في تفاقم مشكلة الدين الأميركي التي تحتل ساحة النقاش السياسي في واشنطن حالياً. كما أضرت بالاقتصاد على نطاق واسع. صحيح أن الحروب لم تكن السبب في الأزمة المالية، إلا أنها كانت عاملاً حاسماً في تهيئة الظروف التي قادتنا إلى ما نحن عليه اليوم».
بداية، تسببت حرب العراق وما نتج عنها من انعدام للاستقرار في منطقة الخليج بزيادة الضغوط التصاعدية على أسعار النفط، حيث قفز سعر البرميل الواحد من 25 دولاراً في العام 2003 إلى 140 دولاراً بعد أربع سنوات. ثانياً، عرقلت الزيادة الحاصلة في أسعار النفط نشاط الاقتصاد الأميركي، ما دفع المجلس الاحتياطي الاتحادي إلى التراخي في سياسته النقدية. وأخيراً، أدت السيولة الإضافية إلى خلق فقاعة العقارات، ثم إلى الانهيار المالي الذي تبعها.
وربما، في نهاية المطاف، وفقاً لما يجمع عليه عدد كبير من الباحثين الأميركيين، قد تبدو التكاليف الاقتصادية الباهظة ضئيلة إزاء التكاليف الاجتماعية للحرب، التي تظهر جليّة في ارتفاع حصيلة حالات الانتحار والإصابة بالأوبئة في أوساط المحاربين القدامى العائدين من ساحات المعركة. ولا ينسى هؤلاء الباحثون أن يشيروا إلى أن عشرات الآلاف من أفراد القوات الأميركية المسلّحة والمقاولين سيبقون في أفغانستان حتى العام 2014 وفقاً لما هو مقرّر، على الرغم من انسحاب القوات الأميركية في نهاية العام. وهذه الخطة ستكلّف واشنطن، على أقل تقدير، 300 مليار دولار، وفقاً لما تشيعه الأوساط الرسمية.
«هل يمكننا تحقيق الغاية نفسها بتكلفة أقل؟ أو سنضيف الولايات المتحدة إلى اللائحة الطويلة من القوى العظمى التي حاولت، أو فشلت، في تهدئة أفغانستان؟»، أسئلة أميركية تترك أصداء بالغة، لا سيما مع اقتراب الذكرى التي يحل موعدها غداً، في وقت تحذر بيلمس من مغبة الدخول في «متاهات النقاش الحاصل حول ضرورة تخفيض عدد المدرسين أو رجال الشرطة بسبب العجز في ميزانية الخزينة»، لتوجه نصيحتها «بالحاجة إلى الانخراط في نقاش جدي ومفتوح حول ما إذا كانت الأموال التي ندفعها تؤمن لنا الاستقرار والأمان اللذين ننشدهما؟».
هيفاء زعيتر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد