غازي أبو عقل: وقُـلِ اسْـخَروا
الجمل - غازي أبو عقل: بعد أن تَعرضَّت السخرية كفلسفة – للاضمحلال بتأثير عوامل شتَّى، ظَنَّت بعض جرائدنا أن هناك من يدعوها، من قرائها، إلى إفراد مساحةً ما من صفحاتها، ومَهْرها أو دَمْغها بعنوان صفحة ساخرة.
يبدو أن القائيمن على الصفحات الساخرة في جرائدنا يعانون أزمةً تتجلى في ما يُقَدّمون بصورة – أنيميا – سخرية، يعالجونها بدواء عتيق أثبتَ لا جدواه منذ حين من الدهر. فتراهم يلوذون إما بكتب التراث ويستعيدون لإسعادنا – حكاية قد رمى المَهْديُ ظبياً ومثيلاتها، أو يسطون علناً على المجلات المصرية التي كانت تصدر قبل تفاقم الوقار المُصطنع في الإعلام العربي، فيقتَطعون منها ما تيَسَّر لهم، ويتحفون قراءهم بها.
منذ أيام، كنت أقلّب صفحات جريدتي التي لا أبحث فيها إلا عن أسماء المتوفين الجدد، بخاصة إذا كان بينهم أصدقاء ينبغي القيام بواجب التعزية بهم.
أعترف بأني أبحث أيضاً عن زاوية الكلمات المتقاطعة، التي أعاني من واضعها الأمَرّين، مما سوف يأتي الحديث عنه ذات يوم... وقعتُ وأنا في طريقي إلى الهدفَين المنَوَّه بهما على عنوان بخط جميل "صفحة ساخرة" فقررت إلقاء نظرة لعلّي أغيّر قناعتي بالسخرية المحلية. فماذا وجدت؟
قرأتُ تحت عنوان: الساخر ساشا غيتري – وهو شخص فرنسي كما سأكتشف – هذا الكلام... الساخر طبعاً: "في الصفحة السالفة وقع خطأ مطبعي في اسم الكاتب الفرنسي مارسيل بانيول..." وقبل أن أتابع قراءة النبأ الساخر وجدت من الحكمة اكتشاف سبب ذكر مارسيل بانيول في الصفحة السالفة، وهي غير ساخرة بالطبع، وما هو الخطأ المطبعي الذي شوّه اسمه. ولما كانت "الساخرة" تحمل الرقم 9، عدت إلى الثامنة، فوقعتُ على حديث مسؤول سياحي عن الوردة الشامية، وعلى تعليق مستفيض عن التهريب والاتجار بالتبغ... ازدادت دهشتي هنا، فلا أثر لاسم مارسيل بانيول في الثامنة رغم تأكيد التاسعة على وجوده، ولو أنني وجدتُه لكانت دهشتي أكبر، فما هي علاقته بمعرض الزهور وبالإتجار بالتبغ؟ مما زاد في رغبتي بكشف "خلفية الموضوع".
استعنتُ بصديق ممن يُلمّون بلغة موليير وﭭولتير وسيلين، وسألته عن مرسيل بانيول، فطلب مني تهجئة الاسم، فنقلتُه إليه كما جاء في الساخرة.
بانيول بحرف الباء. فصرخ مستنكراً، هذا لا أعرفه، لأن الذي اعرفه هو الكاتب والسينمائي الفرنسي الذي يُكتب اسمه PAGNOL بحرف P. شتان بين الحرفين. قلت له: غير مهم لأن لفظهما واحد بالعربية... أجابني صحيح ولكن الفارق في المعنى كبير. لأن بانيول – بالباء – في الفرنسية هي كلمة من اللغة الدارجة غير الفصحى، وتعني "عربية" [سيارة] أو ربما طرطيرة... قلت له أحسنت، هذه هي السخرية المقصودة، غير المباشرة، فالكاتب الساخر أراد – لسبب ما – إضحاكنا فكتبَ مرسيل طرطيرة.. قال لي لا تُحسن الظن بالساخرين العاكفين على نسخ حكايات الشنفرى والواثق والمهدي والسعدني وساشا غيتري من المصدّرْين الذين اشرنا إليهما منذ البدء، وهي رغم مرور الزمن على "صلاحياتها" أرحم بألف مرة من النوادر والحكايات و "الزوايا" المكتوبة بأقلام محلية الصنع... ثم ألم تنتبه كيف كتب اسم الفرنسي بودريار مضيفاً إليه تاءً مفتوحة فجعله بودريارت، ظناً منه أنه ينسخ بأمانة إملاء الاسم بافرنسية...
أجبته ألم أقل لك إنه ناسوخ، لكنه ساخر...
قال لي: ألا تريد أن أحدثك بنوادر التراجمة "المُحَلَّفين" أجبتُه كيف لا؟ فقال لي اقلب الصفحة من فضلك كي لا يتهمنا أحد بأننا نسخر.
الجمل
إضافة تعليق جديد