في حركة الصراعات والتسويات؛ سوريا هي البوصلة
الحملة الواسعة لنفي تصريحات وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، والتأكيد على أنها «ملفقة»، لا يغيّر من كونها تعبّر عن أفكار متداولة في الحوار الأميركي ــــ السعودي؛ فقد جاء التعيين الانقلابي للجبير على رأس الدبلوماسية السعودية، بالأساس، كونه أقرب إلى دوائر التفكير والقرار في المؤسسة الحاكمة الأميركية، ومأمولاً منه أن يعيد صياغة السياسات الثنائية، وفق التوجهات المقررة لدى الرئيس باراك أوباما.
ومن بين تصريحات الجبير، التي جرى نفيها بشدة، تصريح بدهيٌ في المنطق السياسي الموضوعي؛ يقول الجبير: «إذا كانت الولايات المتحدة تزمع المصالحة مع إيران، فلا يمكن أن نبقى على خصومة مع الإيرانيين؛ ينبغي أن نتفاهم». وهذا، في الحقيقة، تحصيل حاصل، غير قابل للنفي أو التأكيد. وهو مفتاح رئيسي لفهم المرحلة المقبلة.
وسط النيران المشتعلة في الإقليم، هناك تسويات ممكنة، وربما مغرية: أولا، فدرالية تحفظ المصالح الإيرانية والأميركية والسعودية في العراق، ثانياً، فدرالية يمنية على أساس تسوية تمنح «أنصار الله»، مكاناً ومكانة في نظام جديد، ثالثاً، اعتراف بالحد الأدنى من الحقوق الدستورية للشعب البحريني، في إطار التصوّر الأميركي لضرورة الاصلاحات الداخلية في دول الخليج، رابعاً، أما في لبنان، فعلى رغم كل صراعات المنطقة، فإن حوار التسوية الداخلية قائم ومستمر؛ إنما ثمة قضيتان خارج امكانيات التسوية، القضية الفلسطينية لأنها، بالنسبة لواشنطن، شأن إسرائيلي خاص، ويمثل حلها، وفق المنظور الإسرائيلي، جائزة الترضية التي سيقدمها أوباما للإسرائيليين، لقاء سكوتهم على المصالحة مع إيران. ثم هناك القضية السورية، غير القابلة للتسوية، والتي لا مجال لحلها، إلا بانتصار الدولة الوطنية السورية أو أعدائها. لماذا؟ هذا ما سنناقشه تالياً.
حين افتتحت إحدى الفضائيات السورية، بثها الرسمي، اتخذت شعارا هو «فلسطين هي البوصلة». وحين يرفع منبر اعلامي سوري، في ظل الحرب على سوريا، هذا الشعار بالذات، فإن ذلك ينطوي على القول بأن المتمردين على الدولة السورية، قد أضاعوا بوصلتهم ــــ التي هي، بالأساس، فلسطين! ــــ أو أن شعاراتهم ضد الدولة السورية، صحيحة، ولكنها ثانوية الآن، لأن فلسطين هي البوصلة! ومن الواضح أن هذا الخيار لا ينمّ عن ذكاء.
الشعار نفسه ــــ وفي ما قبل الـ2011 ــــ خاطئ استراتيجياً؛ فالبوصلة هي الصراع مع الصهيونية. وهو صراع لا حل له إلا بتفكيكها وطردها من بلادنا، بينما الصراع على فلسطين، يمكن حلّه بتسوية قد تكون «عادلة»! ثم أنه شعار تلفيقي؛ فمعناه هو تأجيل أو إخماد كل التناقضات والصراعات، في العالم العربي، لصالح التضامن حول القضية المركزية. وهي رؤية سمحت للرجعية العربية، طوال الأربعين عاما الفائتة، أن تهيمن، فكرياً وسياسياً، بما أدى إلى انتشار الوهابية والنفوذ السعودي ــــ الخليجي، وتدجين حركات المقاومة الفلسطينية، العلمانية والدينية، وإخصاء الأحزاب القومية واليسارية، وفتح الباب أمام المفاوضات الماراثونية، والقبول بإسرائيل، وتوطيد القيادة الرجعية للعالم العربي، وتالياً القبول بالهيمنة الأميركية.
مركزية القضية الفلسطينية أدت إلى تقديس كل ما هو فلسطيني من قبل تيار المقاومة والتيارات التقدمية والقومية. لكن الرجعية العربية، في المقابل، تعاملت مع المجاميع الفلسطينية، ماديّاً، بلا قداسة، فاستخدمت عناصر ومثقفين وتنظيمات وجماعات فلسطينية، في خدمة سياساتها المعادية لحركة التحرر العربية، بينما تراكم المقاومة، الاحراج والصمت والحرص النبيل.
منذ ما قبل 2011، كانت «حماس» متورّطة في المؤامرة على سوريا؛ فاستخدمت وضعها «المقدس»، لدى دمشق وحزب الله وطهران، لكي تحفر الأنفاق وتهرّب السلاح وتنسج العلاقات مع القوى التكفيرية الإرهابية. وهي شاركت في الحرب على سوريا، بالتدريب ونقل التقنيات التي تعلمتها من حزب الله إلى الإرهابيين، ومكّنت لهم في المخيمات، واستخدمت نفوذها، بين الفلسطينيين، لشنّ حملة سياسية دعوية ضد الدولة السورية. ولزمن طويل، ظلت دمشق تبتلع الخنجر، وتصمت، بينما حلفاؤها، في حزب الله وإيران، ظلّوا مصرّين على إدامة العلاقات الودية مع «حماس» واسترضائها، والسكوت على جرائمها في سوريا، وخارج سوريا. وحين بدأ العدوان السعودي الآثم على الشعب اليمني، أيّدته السلطة الفتحاوية والسلطة الحمساوية معاً، لكن السيد حسن نصرالله، حياء ونبلا، اكتفى بتوجيه غضبه على حكومة رام الله، رغم أن حكومة غزة، غرقت في المستنقع نفسه.
إلى هذا يقود شعار «فلسطين هي البوصلة»، إلى حشر مفهوم المقاومة في خانة الاشتباك المسلّح مع الإسرائيليين. ولكن المقاومة هي نهج استراتيجي شامل، في الرؤية والسياسة والتحالفات، وليست مجرد اطلاق صلية صواريخ. فتح كانت تشتبك مع إسرائيل، ولكن في أي سياق؟ أليس هو سياق « القرار الوطني المستقل» المفضي إلى أوسلو؟ وطوال السنوات، من 1967 إلى 1970، كانت المملكة الأردنية الهاشمية، تخوض حرباً يومية مع إسرائيل، ولكن في أي سياق؟ أليس هو السياق الذي انتهى في وادي عربة؟ وقبلهما مصر التي خاضت أعظم الحروب في تشرين الأول 1973؛ وقد أصبح واضحاً إلى أين مضت هذه الحرب المجيدة؟ إلى كامب ديفيد، وكارثة الانحطاط المصري. وصدام حسين. ألم يكن خطابه فلسطينوياً متشددا؟ ألم يقاتل جيشه في الـ 73، ألم يقصف تل أبيب بالصواريخ العام 1991؟ ثم ماذا؟
سوريا، وحدها، التي قاتلت في سياق الصراع الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني؛ حروبها، قتالها، دعمها للمقاومات، تحالفاتها، مفاوضاتها ... جرت، دائماً، في سياق صراعي؛ عقلاني وواقعي، ولكن بلا انحراف عن الجوهري، بلا تسليم، بلا إفراط ولا تفريط. سوريا، موضوعياً واستراتيجياً، هي دولة المقاومة العربية. وعلى رغم بطولات مقاومي حزب الله، وتضحياتهم، ونجاحاتهم ... هل كان لحزب الله وجود، بالأساس، من دون سوريا؟
على خلاف حول عشرة أمتار، انهار اتفاق ممكن وندّي ولا يمس السيادة السورية، بين الرئيس حافظ الأسد ونظيره الأميركي بيل كلنتون، العام 2000؛ فهل كانت تلك العشرة أمتار أهم من استعادة الجولان، ووقف العداء نحو الجمهورية السورية، والتمكين لها في لبنان والأردن وفلسطين؟ كلا؛ لكن الأسد، من منطلق تمسكه بالصراع الاستراتيجي مع إسرائيل، لم يكن يريد، أصلا، أن يوقّع صلحاً مع هذا الكيان، يعرف أنه سينتهي، تدريجياً، بتأبيد الوجود الاسرائيلي، وتقليص استقلال سوريا. هل كان الأسد يحتمل رفع العلم الإسرائيلي على سفارة في دمشق؟
من الشائع القول إن الأسد ورّث نجله رئاسة سوريا؛ لكنه، في الحقيقة، ورّثه النهج، وورّثه ــــ باقتراح من الروس ــــ العلاقة العسكرية مع موسكو، وورّثه حكمة المقاومة؛ فخاضها على ثلاث جبهات، في لبنان وفلسطين والعراق، وتحدى ونجح؛ ثم انخرط في مشروع استراتيجي لإقامة معادلة خارجية ــــ داخلية، من خلال علاقات متوازنة مع كل من إيران وتركيا. وقد فشل هذا المشروع لأن حكّام أنقرة حاولوا استغلال الانفتاح السوري لإحياء التوسع العثماني، وما أن أطلت مؤامرة 2011 على سوريا، حتى أبرز أردوغان أنيابه الإرهابية حالماً بمرج دابق جديدة.
يربط الفكر القوموي التقليدي بين العروبة ومصر (الإقليم / القاعدة)؛ لكن العروبة لم تعش في مصر أكثر من عقدين في ظل الرئيس جمال عبدالناصر. ليست العروبة جزءاً تكوينياً في الدولة المصرية، لكنها مكتوبة في التكوين السوري منذ الأمويين. اللغة العربية الشمالية، الفصحى التي نكتب بها اليوم، تشكلت في بادية الشام، وكانت بلاد الشام موئلاً للعروبة الحضارية، قبل الإسلام، وهي التي أعادت صياغة ثقافته الدينية بما يلائم المدنية. وفي العصر الحديث، انطلق التحرر العربي ضد العثمانيين من بلاد الشام، ومنها انتشرت النهضة العربية الحديثة، ولنخبها (السورية ــــ اللبنانية)، يعود الفضل في تأسيس الصحافة والمسرح وثقافة الحداثة، بما في ذلك، في مصر.
كل المآسي العربية من فلسطين إلى لبنان إلى العراق إلى اليمن... كلها يمكن احتمالها، إذا بقيت سوريا هي سوريا؛ انكسار سوريا، وحده، هو الذي يكسر ظهر المشرق والعروبة والحضارة والمقاومة والاستقلال والعلمانية والمدنية.
الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية، تعرف كلّ ما مر ذكره، وتعرفت على المزيد والمزيد بشأن دولة عربية وحيدة لا يمكن استيعابها، ولا يمكن حرفها، ولا يمكن تغيير جوهرها وسياساتها وثقافتها ومساراتها، وأكثر من ذلك، يجد مَن يعارضها ــــ عن يمينها ــــ نفسه في مستنقع، سواء أكان اسلاميا أم «قوميا» أم «يساريا»؛ إنها سوريا التي تقرر، لكل ذلك، تدميرها.
دعونا، إذاً، نضع النقاط على الحروف: (1) هناك ضرورة قصوى لإعادة تعريف المقاومة في نظرية قومية، مادتها الخام موجودة في سوريا، من ميسلون إلى الرئيس حافظ الأسد، (2) لا حلف مقاومة، ولا مقاومة من دون سوريا، (3) سوريا هي، لا سواها، الإقليم / القاعدة لحركة التحرر العربية، (4) من دون سوريا الأسد، سينهار كل ما بنته إيران من حضور ونفوذ في العالم العربي، ولن يُحاصَر حزب الله، فقط، بل سيتعرّض أبناء الطوائف الشيعية والمسيحية والفئات المدنية والعلمانية في بلاد الشام، إلى مذابح كما الإبادة الأرمنية، (5) ومن دون سوريا الأسد، ستتوسع تركيا العثمانية لا على حساب العرب فقط، ولكن على حساب الفرس والأكراد، أيضا، (6) أما روسيا، فستنتكس، وتواجه كتائب الشيشان وسواهم من الإرهابيين المدعومين من تركيا الأطلسية.
مع سوريا الأسد، التسويات ستشكل نجاحات لمحور تعددية الأقطاب والممانعة؛ وبدونها، لن يكون هناك محور كهذا أصلا.
ناهض حتر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد