كيف تم دمج مصر في أجندة المشروع السياسي الأمريكي للمنطقة
الجمل: كانت بلاد وادي النيل منذ فجر التاريخ هدفاً للغزاة الأجانب، وبعد أن جاء الزعيم الراحل جمال عبد الناصر (كأول مصري، يحكم مصر بعد آخر فرعون أطاح به الاسكندر الأكبر)، عمل منذ البداية على توجيه مصر في الاتجاه الصحيح اقتصادياً وسياسياً، الأمر الذي جعل نظامه يصبح هدفاً للمخططات الأجنبية، إلا أنه استطاع أن يجتاز أزمة حرب السويس، وأن يتصدى لبناء السد العالي، وكهرباء الريف، ومحاربة الأمية، والتأميم، والإصلاح الزراعي.
ولكن، ما هو أكبر من المشروع الداخلي، كان يتمثل في المشروع العربي، والذي أدى إلى إكساب مصر عنصر القوة القومية، وذلك بشكل يجعل مصر تمثل الرمز القومي العربي الأول في كل منطقة الشرق الأوسط، وبالذات خلال فترة النصف الثاني من الخمسينيات، وفترة الستينيات.
بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد التي شكلت لحظة خروج مصر من المعركة، إيذاناً بـ(الاستسلام السياسي)، والذي يرى البعض أنه جاء ليكمل (الاستسلام الاقتصادي) الذي بدأ في عام 1974م، عندما ارتبطت مصر ببرامج المعونة الأمريكية، ومشروعات البنك الدولي لإعادة البناء والتعمير.
كان طبيعياً أن يتغير الدور الإقليمي والدولي لمصر، وأصبحت الملامح الأساسية للدولة في مصر تتمثل في الآتي:
- الاعتماد على المعونة الأمريكية في التنمية الاقتصادية، والتقيد بتطبيق برامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
- الاندماج ضمن أجندة المشروع السياسي الأمريكي في الشرق الأوسط.
- التسويق لنموذج كامب ديفيد، وذلك لتعميميه على دول المنطقة، وحركاتها السياسية.
النتائج التي ترتبت على توجهات مصر في الفترة الممتدة من لحظة توقيع كامب ديفيد وحتى الآن، كثيرة، أبرزها:
• نتائج داخلية: (اقتصادياً) توقفت عملية التنمية بشكل تام، وارتفعت المديونية الخارجية بأرقام هائلة لا تتناسب مع قدرة الاقتصاد المصري على السداد، وبالتالي بسبب التخلف عن سداد أقساط الديون، الامر الذي ترتب عليه المزيد من الفوائد، وبالتالي المزيد من المديونية، كذلك انخفض مستوى المعيشة، وارتفعت نسبة التضخم ومعدلات البطالة، وانخفضت قيمة الجنيه المصري إزاء الدولار الأمريكي بنسبة عالية، على نحو ترتب عليه أن أصبح السوق المصري على حافة (مرحلة الدولرة الاقتصادية والتجارية)، وإزاء حالة التردي بدأت الأزمة مفاعليها، وتحولت إلى أزمة سياسية داخلية، كان من أبرز مؤشراتها عملية تمرد قوات الأمن المركزي، على نحو كاد أن يعيد كارثة سيناريو (حريق القاهرة).. وتزايدت المعارضة الداخلية بقيادة حركة الأخوان المسلمين والتنظيمات الإسلامية الأصولية الأخرى مثل تنظيم الجهاد، التكفير والهجرة.. وغيرها.
• نتائج خارجية: من أبرز النتائج الخارجية برزت ظاهرة التبعية الاقتصادية والسياسية، كخاصية وسمة تميز الدولة المصرية، وأيضاً ظاهرة التسويق السياسي لاتفاقية كامب ديفيد، ويمكن القول: إن النظام المصري قد استطاع أن يمارس عملية تسويق ألقت بتداعياتها السالبة على كامل المشروع القومي العربي التحرري والتنويري.. ومن أبرز أمثلة هذه التداعيات: اتفاقية السلام الإسرائيلية الأردنية، اتفاقية السلام الإسرائيلية الفلسطينية (أوسلو)، إضافة إلى الأضرار بتوازنات المعركة العربية في مواجهة إسرائيل، وكان أن عملت إسرائيل على الانفراد بالأطراف العربية المعارضة، فقامت بغزو لبنان، وشن حوالي 6 حروب محدودة ضده، وأيضاً انفردت بالفلسطينيين، وكان قبل ذلك أن أعلنت إسرائيل من طرف واحد (قرار ضم الجولان لإسرائيل).. وما كانت لتجرؤ على إعلان ذلك لولا أنها اطمأنت لخروج مصر من المعركة.
الأزمة الاقتصادية أدت إلى أزمة سياسية، وبرغم أن الانقسام بدا واضحاً في الشارع المصري منذ لحظة توقيع كامب ديفيد، فقد استمرت عملية الاستقطاب تنمو يوماً بعد يوم، بين معسكر السلطة الموالي لأمريكا والغرب، وإسرائيل، وقد أصبح هذا المعسكر أكثر شعبية، بسبب توسيع أجندته، وارتباطها بمشروع إعادة مكانة وشخصية مصر القومية العربية عن طريق إخراجها تماماً من مستنقع كامب ديفيد وتبعية الغرب.
المعارضة السياسية المصرية أصبحت حالياً تضم القوى الآتية:
- التحالف الحاكم: ويضم الحزب الوطني الذي يتزعمه حسني مبارك، ويعمل هذا الحزب حالياً على الاستمرار في صيغة ونهج الحكم، وبسبب إدراك هذا الحزب لاشتداد المعارضة السياسية وخطرها الداهم، جاءت تصريحات جمال مبارك، أقوى المرشحين لزعامة الحزب والدولة حالياً، حول ضرورة الاستمرار في المشروع النووي المصري، وعلى ما يبدو فإن هذا التصريح قصد به الدعاية، فقط لا غير، وذلك لأن بناء المشاريع النووية يتطلب قدراً كبيراً من الإمكانيات المادية، وهو أمر بكل تأكيد لا يتوفر للنظام المصري المدين بما يفوق الـ(100) مليار دولار، إضافة إلى المساعدات الأجنبية، والتي لا يمكن أن تقدمها لمصر لا أمريكا ولا فرنسا، ولا إسرائيل، كذلك بسبب علاقة مصر مع أمريكا وإسرائيل، فإنه لا الصين ولا روسيا، سوف تغامر أي دولة منهما بإعطاء أسرارها النووية لمصر، التي تستطيع وكالة المخابرات الأمريكية والموساد فيها بكل سهولة ويسر القيام بما قد لا تستطيعان القيام به في بلديهما الأصليين.
- المعارضة: توجد في مصر ثلاثة أنواع من المعارضة السياسية، تتمثل في (الحركات اليسارية)، وأصبحت حالياً أكثر ضعفاً.. (الحركات اليمينية) والتي يمثلها حزب الوفد وغيره من أحزاب النخب الرأسمالية والاقطاعية الريفية، وقد أصبح تأثيره ضعيفاً، و(الحركات الإسلامية).. وقد اكتسبت في الشارع المصري حضوراً قوياً، بسبب تركيزها على فضح ونقد العلاقة التي تربط النظام المصري بإسرائيل وأمريكا، والجدير ذكره أن هذه الحركات قام النظام المصري نفسه برعايتها في مطلع السبعينيات، حيث عمل على الاستقواء بها في مواجهة المد القومي العربي.
ألآفاق المستقبلية القادمة على المدى القريب في الشارع المصري تشير إلى تزايد حالة المواجهات الدامية بين النظام المصري والحركات الإسلامية، وأيضاً تشير إلى تخلي أمريكا عن دعم النظام المصري، وقيامها بتقليص المعونات والمساعدات له، وقد ظل النظام المصري يحاول أن يجد لنفسه دوراً في البنية الإقليمية، عن طريق التلاعب بملف الصراع العربي- الإسرائيلي، وملف الأزمات السودانية، وعلى ما يبدو فقد استنفذ النظام المصري قدراته في التعامل مع هذين الملفين، خاصة وأن كل الأطراف قد أدركت تماماً مدى خطورة توجهات السياسة الخارجية المصرية الناتجة عن اندماجها ضمن دائرة المشروع الإسرائيلي- الأمريكي.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد