لقاء غير منشور بين الفنان فاتح المدرس والشاعر أدونيس
نظمت السيدة منى الأتاسي، صاحبة غاليري أتاسي، في دارتها أيار 1998 لقاء بين الفنان الراحل فاتح المدرس والشاعر أدونيس. لقاء استثنائي بين شاعر مشغول بالتصوير وفنان شاعر. أما الفرادة فهي ان أدونيس لعب في اللقاء الحوار دور المحاور والسائل وهو دور الصحافي بامتياز، فيما ظل المدرس غالباًً في دور المحاور والمجيب. هنا مقتطف من اليوم الأول في الحوار الذي دام أربعة أيام.
^ أدونيس: كيف تستخلص معنى طفولتك في هذا العالم الذي تعيش فيه الآن؟
÷ فاتح: الظاهر يا أدونيس ان الطفولة على مطلق مدى حساسيتها ذات حصانة غير عادية. هذه الحصانة تطلب نفسياً، يكفيها قليل من الحب لكي تضخم في مخيلتها وأحاسيسها. فمن الجائز أن تبكي مثلاً طوال النهار، لكن ابتسامة صغيرة تمحو كل شيء. أنا عانيت هذا حقاً. فعندما أرى الحزن من حولي، لأن أمي رحمها الله كانت في صباها مضطهدة من قبل أهل زوجها بسبب اختلاف الطبقة الاجتماعية. كانت تأخذنا إلى الريف الشمالي البعيد جداً، ريف جبلي قاس. أخوالي أكراد، كلهم مغامرون، فالقتل حادث طبيعي، والغرق في النهر حادث طبيعي جداً. كنت أهرب إلى الفلاة، إلى الصخور السمراء المبقعة بالأصفر، وكنت أرى الحشرات كالبشر تتحرك بلطف وتسمح لي أن ألتقطها، وكنت ابحث عن بنات آوى والثعالب في الأيكات الشائكة على شاطئ النهر. وكانوا يبحثون عني. يعني طفل في الرابعة في الشول (الفلاة) لوحده ـ وكانوا يعيدونني الى البيت ويعنفونني طبعاً. لكنه كان عالما سحريا، لم أشعر بثقل كارثة الحياة التي كان يعيشها كل من حولي، أخوالي وخالاتي وأمي. تنقّلنا الدائم بين حلب والقرية كان على الدواب او في سيارات فورد أبو دعسة، كما يدعونها، ونبقى ثلاثة أيام على الطريق، وحولنا ثلوج وأمطار، أي كنت أتعذب، لكن ذلك اندثر كله ولم يبق إلا هذا الصديق الكبير الذي هو الأرض والطبيعة.
^ أدونيس: جميل. الآن، الطفولة مثل نبع، مركز، وهو مركز وراءنا، وراء كل إنسان، والحياة هي سفر في المستقبل، سفر متواصل، كيف توفق بين السفر الذي يخرج دوماً من الطفولة ويتجاوزها، وبين هذه الدهشة المرتبطة بالطفولة، والتي ما تنفك تشدك إلى ما قبل. كيف تتحول الطفولة إلى مستقبل بالنسبة لك؟
÷ فاتح: أي استخدام هذه العناصر التصويرية. لأنه ليست هنالك كلمات. هنالك أصوات ذات صور، وهنالك صور. قلت لك ان الطفل لا يمكن له ان ينسى أي شيء، وما تبقى من أعمق الصور ظلت حتى الآن تلازمني. يعني لم تستطع المراهقة أن تمحوها.
^ أدونيس: جيد. لكن مع الكبر، أي مع التقدم في العمر، ولكون الإنسان مشروعاً يبنيه في المستقبل، هل تعتقد بأن الشيخوخة هي نوع من العودة إلى النبع، الى الطفولة، باعتبار أن المشاريع تتضاءل وتخف، وكأن الشيخوخة هي طفولة ثانية مثلاً؟
÷ فاتح: ليست هنالك شيخوخة في حياة الإنسان إطلاقاً. الناس يقولون انه شيخ، لكن الشيخ لا يعترف بذلك، لأنه لا يشعر بها. لأن وراءك يوجد عالم ضخم حي، أنت صاحبه. فليست هنالك شيخوخة. هنالك موت، ولكن لا شيخوخة. ربما تتأثر لأنك لم تعد تعطي الأولوية للجنس مثلاً، او تعطي الأولوية للتخلص من المآزق والفخ الاجتماعي. فأنت تمر بآلاف الأفخاخ في حياتك وتشعر أنك قد تجاوزتها، لكنها تعطيك شيئاً من الأسى، فتسأل: هل العالم حقاً في منتهى القذارة؟ هل العالم هو عبارة عن مجارير قذارة؟ هل الإنسان ليس بأجمل من أي حشرة او صرصار؟ أليست هنالك كذبة كبيرة يجب أن نعيشها؟ كل هذه أسئلة يطرحها الإنسان على نفسه.
^ أدونيس: حسناً. إذاً فأنت تعتقد ان الطفولة بريئة براءة مطلقة. هي الأصل وهي بريئة كاملة لا خبث فيها؟
÷ فاتح: لم أفهم قصدك.
^ أدونيس: ألا تحتوي الطفولة على أي شيء على المرء أن يتخلص منه؟ هل هي بأكملها صافية وبريئة بشكل كامل، أم أنها تحتوي على شيء؟...
÷ فاتح: قلت لك ان هنالك ما يسمى عنصر الدهشة، وهو هام جداً، واذا ما فقده الانسان قبل ان يموت يكون قد مات منذ زمن بعيد. عنصر الدهشة عندما يستمر ويستمر وجوده في التماس الاجتماعي أو تماس الانسان مع الطبيعة او في تماس الانسان حتى مع أفكاره، عندما يُحرم من عنصر الدهشة يكون قد مات منذ زمن بعيد...
^ أدونيس: جيد جداً. إذاً نستطيع أن نقول إن الطفولة على الصعيد الفني هي الحس الذي يستمر في ربطنا بغموض الأشياء وبسديميتها، والذي يبعدنا قليلاً عن العقلانية والتصنيف الواضح لكل شيء من أجل ان يدعنا وكأننا شريان في الوجود او في الطبيعة. هل هذا ما تعتقده؟
÷ فاتح: رائع، إن سؤالك جميل ويشعر به كل إنسان، صحيح، ولكن ما تسميه أنت بالسديمية وبالضبابية هي كل المسافات الفلكية التي يغطيها العقل، هي الضبابية، هي الدرب اللامتناهي والمستمر بعد الموت، الدرب مستمر، وأنت فيه إن كنت حياً... والانسان يشعر بهذا، يشعر بأن هنالك طريقاً الى أعلى، إلى أسفل، يمين، شمال، وغالبا ما يكون موازياً للعين، غالباً ما يكون كذلك، لأن العقل يفكر بما هو مواز للعينين اولاً، ثم يفكر بالدرب الذي هو في الذاكرة. هنالك دربان في الحياة، الدرب الأول انه لديك عدد من السنين التي تعيشها ثم تموت، ولديك في ذاكرتك درب من نوع آخر. هو ذاته لكن يختلف، الدرب نفسه، ولكنه شيء آخر...
^ أدونيس: جيد. أقصد، من أجل أن أوضح أكثر. مثلاً، جميع الأعمال الكبرى في حياة الإنسان، اندفاعاته وعواطفه الكبرى، مثلا الحب، الجنس، البطولة، جميعها عندما يحللها المرء عقلياً، او يستخدم عقله لا يستطيع أن يقوم بأي شيء. أي يقف. يحده العقل ويحجزه عن القيام بأعمق ما فيه. هل تعتقد ان هذا يعود الى الطفولة التي تجعلنا دائماً كفنانين بعيدين عن العقل وقريبين جداً من الحياة والحب والدهشة والبطولة والجنس، أي الشيء الأعمق في الإنسان؟
÷ فاتح: أنا لم أحترم العقل في حياتي. أنا أعتبره مجمع قاذورات وتحكمه أشياء في منتهى السوء. لكن هنالك شيء أبعد بسنتمتر واحد من العقل، وهو الحدس. أنا أعتمد على الحدس وأرحم المخطئ. أصبح لدي نوع من الشعور بالنبالة، لأنني لم أستخدم عقلي بل أستخدم الحدس. فكل الأحكام التي كانت تطلق، كانت تطلق وأنا طفل. أن خالي ضرب خالتي، وأن خالي علي رفس خالتي في بطنها، وأنه يحق له هذا، لأنه أخوها. فكنت عندما أسمع هذه القصص وأرى خالتي تموت، مات الجنين في بطنها، لم تكن هنالك محاكمة عقلية، بل كان هنالك شيء فوق العقل عن ماهية جمال الأشياء. هل من الممكن للأشياء الجميلة أن تتحطم بهذه البساطة؟ هل هي هشة إلى هذا الحد؟ يعني، أليس للجمال حصانة في عقل الإنسان؟ يبدو أن لا حصانة له!
^ أدونيس: إذا نستطيع أن نستخلص أنه بالنسبة لك الطفولة هي نسغ حيّ باستمرار، وهو الذي يعطي للحياة دهشتها وحيويتها وجمالها، وأن هذه الطفولة تتجلى كوعي في الشيء الذي نسميه حدساً. هل نستطيع أن نقول هذا؟
÷ فاتح: صحيح.
^ أدونيس: حسناً. هل تحب أن تضيف شيئاً إلى هذا الموضوع؟
÷ فاتح: فيما بعد.
الصداقة والحب
^ أدونيس: حسناً. الآن، إذا بالإضافة الى مسألة الطفولة، يوجد شيء قبل ان نصل إلى الحب، الصداقة مثلاً في هذا العالم والعداوة. ما معنى الصداقة بالنسبة لك؟ هل أنت بحاجة لها ولماذا؟ وماذا تعني لك؟
÷ فاتح: ليس هنالك شيء اسمه صداقة، وليس هنالك شيء اسمه حب...
^ أدونيس: لنبق الآن في الصداقة.
÷ فاتح: إنهما مرتبطان ببعضهما، ويشبهان بعضهما بعضاً...
^ أدونيس: ألا توجد صداقة؟
÷ فاتح: لا توجد صداقة بالمعنى الذي تعطيه أنت كأديب كبير إلى الكلمة في أقصى معانيها، أنا لا أعطيها غير الصورة. أنا رسّام. والصداقة عندي صورة، أما الصداقة عندك فهي مجردة وطويلة المدى وذات استطالات عظيمة جداً. كالكلمة عندك...
^ أدونيس: حسناً، لكن الصداقة مع الآخر. مثلا زوجتك او المرأة التي تحبها، إذا لم تكن صديقاً لها فكيف تحبها؟ إنني أسألك بهذا المعنى.
÷ فاتح: أي بالمعنى المتداول...
^ أدونيس: حتى الحب لا بد له من صداقة.
÷ فاتح: ليس هنالك حب. هنالك شيء آخر. فإذا فسرّنا كلمة الحب في هذا المجتمع او في المجتمع الجاهلي، فلن نجد لها معنى. إذهب إلى الشارع واسأل عن الحب، من سيجيبك؟ اذهب إلى العصور الأولى عندما كان الإنسان في الكهف وقل هل صداقة، وقل له حب، فيقول الصداقة هذا الذي يصطاد معي، ولكن لا يوجد مانع من ان أطعنه بالحربة إذا أخذ السيف مني. كانت الأمور فيما مضى في منتهى البساطة والتحكيم السريع. هذه الكلمات مع الأسف لم يعد لها معنى عندي. أنا غلطان، أم لست غلطاناً؟ لست أدري!
^ أدونيس: جيد.
÷ فاتح: لكن للعدل، ما أشعر به أن هنالك شيئاً أعظم من الحب، لكن لا اسم له، ليس كلمة لغوية، ولا صوتاً، ولا تحكيماً عقلياً، ولا جنساً، ولا عاطفة. شيء آخر. وكذلك الحب والصداقة. وإذا كنت ستسألني ما هو هذا الشيء الذي يشبه الصداقة، ولكنه شيء آخر، فلن أجيبك. أشعر به ولكن لا أجيبك عليه.
^ أدونيس: أي لا تعرف أن تصوغه...
÷ فاتح: لا. أنا أرفض صياغته.
^ أدونيس: نعم...
÷ فاتح: لأنني عندما أصيغه يصبح حباً، يصبح صداقة. وأنا لا أريده على هذه الشاكلة.
^ أدونيس: لا تريد صوغه، لا تريد وضعه في كلام. هل تعيشه؟
÷ فاتح: هذه لغة أخرى موجودة لدى الإنسان.
^ أدونيس: حسناً...
÷ فاتح: ألا تستخدمها أنت في شعرك و...
^ أدونيس: جيد، أنا أفهمك. لكن...
÷ فاتح: أوقعت بك، أليس كذلك؟
العداوة
^ أدونيس: حسناً، إذا لم تكن هنالك صداقة كما تقول، هذا يعني أن هنالك عداء. أي العالم عدو. ماذا يعني عداء العالم لك او عداؤك للعالم؟
÷ فاتح: فلنرجع إلى القصة القديمة، ما يُسمى عداء، أنا أسميه قتلاً. العداوة هي القتل، والقتل موجود عند الحيوان. والإنسان حيوان ذكي جدا، ولكنه ليس أذكى من الصرصور. الإنسان ليس أذكى من الصرصور. وأنا أظن أن الإله إذا نظر إلينا من السموات يحترم الصرصور أكثر من الإنسان.
^ أدونيس: حسنا. لماذا تكن هذه النظرة للإنسان؟ لماذا نظرتك عنيفة هكذا ضد الإنسان؟ أتمنى ان تحكي لي قليلاً، فأنا أفهمك...
÷ فاتح: أنا لا أظلم الإنسان، فأنا إنسان أيضاً وأنت إنسان، وهذه السيدة التي بجانبنا إنسانة رائعة...
^ أدونيس: أي أن هذا هو شعورك العميق...
÷ فاتح: نعم، عندما تفرش الأشياء على المائدة وتشم النتن وترى الفوضى، الفوضى القذرة. أنا أحب الفوضى النظيفة، لكن القذارة لا أحتملها، والإنسان ثبت أنه أقذر حيوان في الكون.
الدين
^ أدونيس: هل هذا الكلام يسوغ أن يسألك احد ما ان كنت تؤمن بعالم آخر جميل خارج هذا العالم؟
÷ فاتح: لا أؤمن. لانه أنا ايضاً إنسان، فأنا قاتل. ولذا على العالم ان يكون كما هو. لاحظ المفارقة في منطقي، أنا ادين العالم في تبلّد حسه وشرّه، واريده ان يبقى كما هو. انها مسرحية لا تصدق، جميلة بقدر ما هي مؤذية. يعني... حتى إطلاق الأحكام غلط. أنا اقول أنت شاعر وأنا رسام. شاعر ورسام نحاول ان نبحث عما يسمى بالسمو. الأبعاد لا وجود لها في الطبيعة. لا تعرف الطبيعة عالياً ومنخفضاً، شمالاً، غرباً، نحن من وضع هذا. السمو والحقارة... هذه كلها نتاج فيزيولوجي سيكولوجي لكائن يستطيع أن يؤمن بمجموعة من المتناقضات: عبارة عن مسرحية في غاية الروعة والألم والحزن. فأنا ضد إصلاح العالم. هل أناقض نفسي؟ ربما.
^ أدونيس: إذاً ما هو موقفك من الدين؟ ما وضع الدين بالنسبة لك في هذه الحالة؟ الدين وقيمه وفاعليته في المجتمع الذي تعيش فيه، والذي تقول إنه يجب أن يبقى هكذا؟
÷ فاتح: الدين هو محاولات فلسفية جيدة جداً لتخفيف...
^ أدونيس: وأحياناً تكون مخرّبة!
÷ فاتح: الدين في كثير من الأحيان مخرب، لانه كان قصير النظر. فالدين لم يستطع ان يقف امام مفهوم السيد والعبد. ولم يستطع أن يصور الجنة والجحيم بالشكل الطبيعي. عبارة عن أمنيات والإنسان يعرف بأنها أمنيات. وعندي هو عبارة عن نظريات يطلق عليها جدلاً نظريات فلسفية. ففي الرسم مثلاً، يتم رسم طبيعة جميلة، ولكن لا يمكن بأي شكل من الاشكال ان تصل الى حدود جمال الطبيعة كما هي، لا في الضوء ولا في اللون ولا في الأساس ولا في مفهوم المكان ولا في مفهوم الزمان. الرسم هو عبارة عن لعبة حيوانية جداً. يعني كما يقولون عنها، ليست بريئة ولا بلهاء ولا غبية ولا لعب، شيء هو كل هذه الاشياء. والأدب نفسه ايضاً هو عبارة عن رياضة عقلية ربما تكون سامة وقد تكون جميلة جداً وقد تكون جنسية. الأدب عبارة عن حوار إنسان واحد مع مجموعة من البشر.
^ أدونيس: إذاً فالدين لا يلعب أي دور لا في حياتك ولا في فكرك.
فاتح: نعم.
^ أدونيس: اذاً في هذه الحالة ماذا تقول للناس الذين يوجه الدين حياتهم وأفكارهم في آن واحد؟ ماذا تقول لهم، خاصة انك تعيش معهم؟ ولماذا لا يلعب دوراً في حياتك؟
÷ فاتح: لن اقول لهم شيئاً. إن ما يقومون به هو جانب من مسرحية لا معقولة. وأنا لا أريد الصفح عنها. يجب أن يدفع الإنسان ثمنها.
^ أدونيس: حسناً. في هذا العالم الذي لا توجد فيه لا الصداقة ولا الحب ولا يلعب الدين دوراً فيه، ما هو دور المرأة بالنسبة لك؟
÷ فاتح: عندما تكونت الخلية البشرية بحسب نظرية داروين او بحسب نظريات رجال الدين، الرجل هو أنثى. أليس كذلك؟ من البديهي أن يكون وجود المرأة هو الأساس في التكاثر وليس الرجل...
^ أدونيس: طبعاً.
÷ فاتح: لأنه مع حمل هذه المسؤولية الاجبارية الطاغية التي وظفت هذا المخلوق اللطيف بالنسبة للرجل، وظفته في عملية تكاثر وخطر الموت ثم خطر التعذيب من الرجل ومن الاولاد. فالمرأة تنتهي حياتها كمخلوق يشعر بأدق الأحاسيس. المرأة هي الأسمى والرجل هو الحشرة الذي يلقي بالبذور. أنا لا أؤمن بأن للطبيعة أي عقل. فالاميب حين تكاثر في اعماق البحر انقسم ثم تحول الى فيل ثم اصبح زعيم حارة او بلطجياً او ملكاً. فاستعمال القوة وجد ليضيف الى شقاء الإنسان شقاء آخر. المرأة بالنسبة للجنس البشري هي السيدة، وهي من أنصفها السوريون وجعلوها إلهة الخصب، أي الديانات السومرية وغيرها احترمتها قليلاً. خمنوا بأن المرأة هي أنفس ما في الجنس البشري، ولكن لمن تقول هذا الكلام؟ لرجال الدين؟ للمشرعين؟ للقتلة؟ للمبتزين؟ لمن؟
^ أدونيس: ألا تعتقد بأن هذا الكائن الجميل الأنفس لا يجوز ان تنحصر وظيفته او دوره بالبيولوجيا او بالتكاثر؟ وكأنها هي دوماً مثل صاعقة مستمرة تنزل على هذا الرجل الذي هو كالصخر وتشقه وتزلزله. ألا تعتقد أن للمرأة هذا الدور، ان تجعله يتنفس هواء عالم آخر؟
÷ فاتح: المرأة تحترم الجنس بشكل منطقي وعقلي أكثر من الرجل. الرجل هو المجنون الجنسي. لم اجد أنا امرأة مجنونة جنسياً الا اذا كانت مجنونة عقلياً. المرأة لديها نوع من الحصانة الفطرية. فدفاعها عن طفلها ليس كدفاع الأب عن طفله لا. الرجل لا يهمه إن مات ابنه أم لم يمت، يحزن خمس دقائق. لكن المرأة لديها هذه القوة الهائلة الممنوحة للحيوان للدفاع عن الطفل، وتكون قبل ذلك قد حملته لأشهر. إذا الثقل الملعون، البذرة الشيطانية هذه التي تلد إنساناً. المرأة ماذا أقول لك؟ هي شرف وجود الإنسان في الحياة، شرف كبير جداً. والطبيعة أخطأت، او اقصد انها ظلمت، ظلمت الإنسان، ان كان حشرة او كان إنساناً. اذا التكوين الطبيعي أساسه غلط.
^ أدونيس: حسناً. اذاً هل استطيع ان افهم بأنك انسان وحيد جداً، يا فاتح؟
÷ فاتح: لست وحيداً. لانه في ذهني يوجد عالم مواز للعالم الذي نعيش فيه. لديّ عالمان. قد ارفض احدهما، اما الثاني فأنا ملزم به. لست وحيداً، ولكني احتقر الحقارة. احتقر حقارة الإنسان.
الوحدة
^ أدونيس: ليس لديك أي شعور بالوحدة على الإطلاق؟
÷فاتح: لا، أنا أبحث عنها. وليس شعوراً. أنا ابحث عن الوحدة كثيرا ولا أجدها. أنا استطيع أن أعيش سنين وحدي. استطيع.
^ أدونيس: ماذا؟ من أين يأتيك هذا الشعور؟
÷ فاتح: ربما له أسس وراثية. جذور. عندما يسير الإنسان على سطح هذا الكوكب يمتلك الكون كله، هذا هو الشعور. فهو ليس وحده، شرط ان تحترم حريته في الحركة، والأخيلة، وتعامله مع الموجودات. فالوحدة بمعناها اللغوي لا وجود داخلياً لها. هذا العالم الذي بني ذرة فذرة، ملايين من الأكداس والدهاليز التي في الذاكرة. وقد تحدثنا ذات مرة عن دهاليز الذاكرة. مع أن كلمة الدهليز ليست حسنة. هذا العالم الفسيح الموازي للعالم. فالإنسان لديه عالمان داخلي وخارجي، والعالم الداخلي كالخارجي تماماً ولكن ربما يشبه النيجاتيف قليلاً. يشبه الصورة السالبة وهي ليست كذلك، يعيشها. ربما لا يتوافق معها. ربما أنا استعمل الأحمر في لوحاتي، ولكن الأحمر الذي في ذهني غيره، وهو لا يرمز للدم، ربما يرمز سيكولوجياً إلى الحركة الجنسية، وقد يرمز لنوع من الإثارة البصرية، او هو عبارة عن ترجمة للدهشة التي ما تزال موجودة عندي حتى الآن.
^ أدونيس: حسناً. أنت كررت الذاكرة اكثر من مرة. الذاكرة هي قوة تعود بك الى الوراء. الذاكرة خلفنا، وهي مخزن، مستودع لأشياء مرت، وحين يتذكر الانسان، فكأنه يعود الى الوراء، وأنت كفنان بمثابة حركة باتجاه المستقبل. أي ان عملك كفنان ضد الذاكرة، فكيف توفق بين الذاكرة، العودة، وهذا الشطح نحو المستقبل؟
÷ فاتح: الذاكرة هي الآن، وكل الماضي هو الآن، والمستقبل هو جزء من الآن. قلت لك لا يوجد هنالك امام، وراء، عمق، طول. فالذاكرة انت تعيشها. الآن هو الذاكرة. كأن تتذكر مثلا وجه فلان او فلان. هو موجود وقريب جداً، اقرب من رأس انفك. هذه هي الذاكرة. والمستقبل، ما هو المستقبل؟ هو نقل هذا العفش سنتيمتراً واحداً الى امامنا. ولذلك أنا لا يوجد عندي ذاكرة محددة لاجلبها من الرفوف القديمة. ولكن هنالك اولويات. هنالك ذاكرة. مثلاً الأم، إن كانت على قيد الحياة فهي ذاكرة حية، واذا كانت ميتة هي ايضاً ذاكرة حية. الأم عندي هي معين عاطفة. إنسانة لا أبيعها بكل الكون. الذاكرة لها قيم، لها ثمن.
الذاكرة والزمن
^ أدونيس: لكنك، يا فاتح، لا تتكلم عن الذاكرة بمفهوم للزمن وليس بمفهوم للحضارة او للثقافة. كمفهوم للزمن أنا معك. هنالك الآن، والمستقبل جزء منه، والماضي ايضاً زائد في هذا الآن. لكن هنالك مرجعية على مستوى الذاكرة التاريخية ومرجعية على مستوى الذاكرة الثقافية. شعب بأكمله يسير بمرجعية قديمة. الدين مثلاً له مرجعية، واللغة لها مرجعية، والقوم والقومية لها مرجعية في الماضي. كيف تحل مشكلة المرجعية اذا ما دام مفهومك للذاكرة على هذا الشكل؟ مفهوم الذاكرة لديك مفهوم زمني، مفهوم للزمن. لكن عندما يقول لك شعب بأكمله ان معاييري في الماضي، وليس في الحاضر او في المستقبل...
÷ فاتح: يكون كاذباً...
^ أدونيس: قل ليس إذاً شيئاً عن هذا الموضوع.
÷ فاتح: ما تسميه يا أدونيس بالزمن، طول وعرض، أخالفك فيه. وتستطيع ان تناقشني في هذا. الزمن مضغوط، ولكن مهما اقتربت ذرات الزمن في الذاكرة فهي جداً بعيدة. فقد ثبت في العلم الحديث أن هنالك الكترونات في منتهى الصغر تسمى كسيزيرو، لا متناهية في الصغر، وهنالك مجرات وأبعاد فلكية لا متناهية في كبرها. نستطيع أن نشعرها بخيالنا، ولكنها تظل لا منطقية بالنسبة لصغرنا او انحسار خيالنا، لأننا لا نستند الى بعض المعلومات الهامة، يوجد كثير من المعلومات علينا ان نعرفها حتى نتعرف على الكون بأكمله. اذا الزمن في الذاكرة مضغوط، وبإمكانك ان تتناول منه أي نقطة تريدها وأنت في مكانك. هنالك تماوت في الذاكرة، هذا صحيح، لكن هذا مرض، مرض بيولوجي محض، الخرف مثلاً، او غيره من أمراض الشيخوخة. العقل يكنس، يرمي كل شيء، لا يحتفظ بشيء، لأنه يعذبه الاحتفاظ بلعب هذه الذرات ودورانها بشكل مجنون في الذاكرة. وقد أصررت أنت على الذاكرة الأدبية والذاكرة الاجتماعية.
^ أدونيس: الثقافية والتاريخية.
÷ فاتح: إذا كانت هذه العوامل حية في الانسان الحي، فهي ليست ذاكرة، انها وجود.
^ أدونيس: حسناً، اذا في هذه الحالة كيف تفسر أن هنالك شيئاً اسمه قديم أليس كذلك؟ في الفن يوجد شيء اسمه قديم، في الشعر يوجد شيء اسمه قديم، وفي العادات والأخلاق يوجد شيء نسميه قديماً. كيف تنظر اذا من هذه الزاوية التي تتكلم عنها الى ما نسميه قديماً؟
÷ فاتح: الظاهر أننا سنختلف على طول الخط. ليس هنالك شيء اسمه قديم يا استاذ. العمل الفني ان كان مرسوماً بـ«الشحار» على جدران الكهوف، وقد رأيتها انت في فرنسا حتماً، شيء ممتع. العمل الفني ليس له عمر زمني. احيانا تقف امام لوحة لرافائييل ترى فيها صنعة لا تحترمها. واحياناً ترى لمسة من فنان حديث فيها من الصدق بما لا يحلم به رافائييل. إن منتهى الصدق هو غاية الفن. لكن ليس الصدق فقط، بل منتهى الصدق. وهذا مستحيل، وهذا من جمال اللعبة. العقل البشري يرفض التكامل، لأنه مغامر، لان تسليته في العصر الحديث كانت القتل، وسابقاً كان قتلا، وقبله كان قتلا، ولكن الى جانب القتل كان يوجد ضحايا ومتفرجون، هم الفلاسفة للأسف. بعض الفلاسفة قتلوا، قاتلوا وقتلوا. فهذه المعركة، معركة العقل، لا يجب ان نقول عنها إنها معركة يائسة. جمال الرياضة الا يشبه صيد الإنسان؟ هل سمعت بما يسمى بصيد الإنسان؟ هذا يمارس في اميركا، مثلا عصابة تحكم على فلان وفلان بالموت ويعلم أولئك، وتحصل مطاردة من اجل اصطياد الإنسان ـ توجد فكرة الآن، اميركية ايضا، ان بعض المناطق المعزولة من السلاح ستحد بأسلاك كهربائية لا يستطيع ان يتجاوزها الإنسان، ثم تأتي طائرات هيليوكوبتر تنزل صيادين للإنسان لقاء دفع مبالغ كبيرة ـ ربما كانت مزحة، ولكن يجب ان نرفع من اذهاننا بأنه يمكن إصلاح الإنسان، ومن العبث إصلاح الإنسان. هل سيتطور الى الأفضل او ألطف؟ سيتطور، لكن قضية الإصلاح انزعها من ذهنك.
^ أدونيس: حسناً. الآن عليك ان تفسر لنا ما معنى التقدم إذاً. عندما يتقدم احد، او مجتمع، فهو ينتقل من شيء بطلت فاعليته إلى شيء يعتقده بأنه فعال. هو ينتقل من مرحلة الى مرحلة. فعندما توحد الأزمنة في اللحظة وتقول انه لا يوجد قديم، فكيف تفسر اذن عملية التقدم في مجتمع من المجتمعات؟
÷ فاتح: اذا كنت تفسر التقدم بأنه البحث عن مزيد من السعادة والاستقرار والنظام والبوليس وتعاليم الكنيسة والخوف من القصاص واحترام القوانين لخلق جنة، أي شبه جنة، فهذا لا اعتبره تقدماً. انه نوع من الرياضة العقلية، وهي ضرورية. البحث عن الدهشة والبحث عن الجديد. البحث عن الجديد موجود لدى الإنسان، مثلا تعدد الزوجات في الديانة الإسلامية هو بحث عن الجديد، مغامرة. لا يفعلها الأميركي ولو ان له عشيقات. أكل الهواء ذاته، اللعبة نفسها. فغريزة البحث عن الجديد والبحث عن الدهشة... وهنالك الكثير من الناس الذين انتحروا، لأنهم فقدوا عنصر الدهشة في حياتهم. فأنا لا اعتبر هذا تقدماً، هنالك البحث عن الدهشة والتقدم هو رياضة عقلية لا غير.
^ أدونيس: لكن التاريخ يقول لنا عكس ذلك، يقول لنا إن المجتمعات مرت في مراحل، مرحلة العصر الحجري ومرحلة البرونز ومرحلة الحديد ومرحلة التكنولوجيا، وفي التكنولوجيا انتقلوا إلى مرحلة جديدة اسمها مرحلة الالكترونيات. والآن نحن مقبلون على مرحلة جديدة. فإذا العالم ينتقل من مرحلة متقدمة إلى مرحلة أكثر تقدماً. كيف تفسر هذه المراحل؟ ثم لا يوجد حديث إن لم يكن يوجد قديم.
÷ فاتح: ماذا أنت كريم وتسمّيها تقدماً...
^ أدونيس: كلا، بين هلالين، أنا اتفق معك ان تقدم، بين هلالين، لكنهم ينتقلون من حالة إلى حالة.
÷ فاتح: هذا الانتقال من حالة إلى حالة عبر العصور، ما يُسمى بعالم الثقافة وعالم التكنولوجيا، هو بحث الإنسان عن عالم اشد مغامرة. بحث عن شغف الحياة، وشغف الحياة، لا تؤاخذني، غير موجود. حتى الآن غير موجود. واذا جاء في المستقبل فليخبرنا أولادنا عنه.
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد