مسرحة التاريخ أو مكمن الضعف في تراث كفافيس
لم يكن اليوناني قسطنطين كفافيس المعروف بشاعر الإسكندرية يعتبر نفسه شاعراً بقدر رؤيته لذاته كمؤرخ أو منشد جديد للتاريخ اليوناني القديم، حتى إن بعضاً من نقاده اعتبروه هوميروس العصر الحديث، لكن إنشاده لتاريخ اليونان لم يتوقف عند حدود المدن والممالك الإغريقية القديمة، فقد انشغل بالتاريخ الهيليني الذي عبر فيه اليونانيون حدود مدنهم ليختلطوا بأفكار وثقافات مدن أخرى في مصر وتركيا والهند وغيرها.
وعلى رغم سقوط هذه الثورة الهيلينية على يد الرومان في ما بعد إلا أن المسيحية الناشئة بامتزاجها مع التاريخ الثقافي العريض لليونان، شكَلا حلقة جديدة في مسيرة حضارة ما زالت مرجعاً للمركزية الأوروبية، ومثلت مصدراً للإلهام الشعري لدى شعراء اليونان في مطلع القرن العشرين، ومن بينهم قسطنطين كفافيس الذي لم يزر مسقط رأسه سوى مرات قليلة كان آخرها قبل وفاته بشهور، حين أصابه سرطان الحنجرة عام 1932 فذهب لإجراء عملية جراحية فقد على إثرها صوته إلى الأبد، وليغادرها من جديد إلى مدينته الأثيرة؛ الإسكندرية، فيقيم فيها مجدداً خمسة أشهر فقط، يرحل بعدها عن الحياة في نيسان (أبريل) 1933.
لم يصدر كفافيس في حياته غير مجموعتين شعريتين: كانت الأولى عام 1904 وضمت أربعة عشر نصاً، بينما كانت الثانية عام 1910 وأضاف فيها اثني عشر نصاً إلى المجموعة الأولى، ولم تنشر المجموعة الشعرية لكفافيس إلا عام 1935، أي بعد رحيله بعامين، إلا أنها ظلت مجموعة شعرية غير مكتملة، حتى عكف الشاعر والمترجم المصري رفعت سلام على جمعها وترجمتها وإصدارها أخيراً في مجلد واحد (670 صفحة من القطع الكبير) من الهيئة العامة لقصور الثقافة، في القاهرة، فقد ترك كفافيس مجموعة شعرية كبيرة غير منشورة، جمع أصدقاؤه بعضها مع قصائد المجموعتين اللتين أصدرهما في حياته، وأصدروها عام 1935 في كتاب واحد حمل عنوان المجموعة الشعرية الكاملة، لكنها لم تتضمن قصائده الأولى التي أوصى بعدم نشرها، كما لم تتضمن 34 نصاً اشتغل عليها في الفترة من 1918 حتى وفاته، وتركها كمسودات غير مكتملة أو معدة في شكل نهائي للنشر.
وظلت هذه المجموعة بحوزة جورج سافيديس الذي ائتمنه كفافيس على أرشيفه، حتى عكفت عليها أستاذة الدراسات اليونانية والبيزنطية في بجامعة باليرم؛ وريناتا لافانيتي، بالدراسة والتحقيق، ونشرت هذه المجموعة مكتملة إحدى المجلات الثقافية اليونانية في تسعينات القرن الماضي.
التئام الشتات الشعري
وعلى رغم كثرة الترجمات التي تعاملت مع أعمال كفافيس الشعرية إلا أن أياً منها لم يعكف على جمع شتات تراثه في كتاب واحد غير هذه الترجمة العربية الجديدة لرفعت سلام، والتي احتوت الأعمال المنشورة التي صدرت عام 1935 وعددها 154 نصاً، والقصائد الأولى وعددها 33 نصاً، والقصائد غير المنشورة وعددها 66 نصاً، والقصائد غير المكتملة وعددها 34 نصاً، وقصائد كفافيس النثرية وعددها 4 نصوص، إضافة إلى تأملات كفافي عن الشعر والأخلاق، وأرشيف لصور كفافي ووثائقه، كما احتوت مخطوطات لعدد من القصائد، من بينها قصيدته الشهيرة «في انتظار البرابرة»، فضلاً عن ثلاث مقالات نقدية لثلاثة من أهم نقاد قسطنطين كفافيس هم إ.م.فورستر، و.هـ.أودن، ج.باورسوك. فضلاً عن المقدمة الضافية التي قدمها المترجم لتاريخ كفافيس الشخصي مع وصف لرحلة البحث عن كل هذا الشتات لجمعه بين دفتي كتاب واحد، ليس موجوداً حتى في الثقافة اليونانية.
يمكن تقسيم عالم كفافيس الشعري إلى ثلاثة أقسام: أولها التاريخي الذي اهتم فيها بالتحاور مع أو استعادة التاريخ اليوناني القديم، بخاصة المرحلة الهيلينية التي انفتحت فيها اليونان على عوالم أخرى، لتقدم من خلالها نموذجاً ثقافياً إنسانياً يجمع بين ثقافات العالم القديم (آسيا، أوروبا، أفريقيا) من خلال التمازج بين ثقافات اليونان والمصريين والهنود والأتراك، لكنه لم يقتصر على هذه المرحلة في استدعاءاته التاريخية الشعرية، إذ ضرب بتماثلاته في الجذور الهوميرية القديمة تارة، وفي العصور البيزنطية الحديثة تارة أخرى، ليصل إلى مرحلة من الإحياء الثقافي المسيحي الممتزج بالفكر اليوناني القديم، عبر الكثير من الشخوص التاريخية التي احتفت بهم نصوصه.
أما القسم الثاني فهو القصائد التي دارت عن همومه الشخصية، وولعه الجنسي المثلي، ورغباته التي يسعى إلى إشباعها بعيداً من العيون في محيط ثقافة محافظة.
وفي النهاية يجيء القسم الثالث عن المكان الذي عشقه وأقام فيه، وهو الإسكندرية التي اختارها بديلاً عن وطنه الأم، ربما لقناعته بأنها لا تختلف كثيراً عنه، وربما لأنها أيضاً جزء من التاريخ اليوناني والمرحلة الهلينيستية التي امتزجت فيها ثقافات الغرب بالشرق.
وعلى رغم أهمية الجزء الأول إلا أن الجزءين الآخرين كان أكثر صفاءً وإنسانية في شعر كفافيس، وربما تعود أهمية القصائد التاريخية إلى أنها كانت الحس الشعري السائد لدى شعراء اليونان في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، هؤلاء الذين رغبوا في تأكيد استقلال بلادهم عبر تأكيد خصوصية تاريخهم وعراقة ثقافتهم. إلا أن الأمر كان لدى كفافيس أقرب إلى التعامل الإنساني مع التاريخ عبر مسرحته من جانب والسخرية من وقائعه من جانب آخر، فضلاً عن تقديم فرضيات بديلة لما هو مستقر من أحداث ووقائع معروفة للجميع، وهذا ما جعله في مقدم شعراء الحداثة لدى الثقافة اليونانية والغربية عموماً، لكنه يمثل الآن الجزء الأضعف في منجزه الشعري بحكم انشغاله بالشخوص والأسماء والوقائع التي تحتاج إلى مرجعيات خارج نطاق القصيدة، وهو الأمر الذي لم يعد مستساغاً في التلقي الحديث للنص الشعري.
صبحي موسى
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد