مسرحية "ليلي داخلي": تفكيكك رمزية المرأة/الوطن وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة
الجمل ـ غفران خضرة: أنظر إلى الأمام بغضب
إذا لم يكن جيمي بورتر, في مسرحية "أنظر إلى الوراء بغضب" للكاتب المسرحي الإنكليزي جون أوزبورن, يعرف سبب غضبه من حيث أنه غاضب على كل شيء, فإن وداد (روبين عيسى) – في مسرحية "ليلي داخلي" – تعرف تماماً أسباب غضبها وإحباطها.
منذ اللحظة الأولى التي يسقط فيها ضوء المسرح على وداد وزوجها سمير (بسام البدر) تفيض الخشبة بشحنة انفعالية تحضّر المشاهد للانفجار الذي سرعان ما يتدفق ويغرق الخشبة و أثيرَ الصالة أيضاً.
الزوجان عائدان من سهرة من المفترض أنهما احتفيا فيها, برفقة أصدقاء آخرين, بعيد زواجهما العاشر. صورة حفلة الزفاف معلقة على يمين الخشبة, وسامر يجلس إلى طاولته المعتادة يتصفح "الفيسبوك" ويشرب ويدخن, غارقاً في عوالم يتكشف بعضها لنا على شاشة كبيرة تحتل خلفية المسرح.
كل شيء, باستثناء الشحنة الانفعالية الواضحة في عصبية وداد, يشي بنوع من الرتابة والاستقرار. لكن هذا الزيف سرعان ما يتبدد من اللحظة التي تبدأ فيها وداد ببعثرة الأشياء قطعة قطعة – من شعرها المستعار إلى وسائد الأريكة التي تجلس عليها والجرائد والمجلات والثياب المعلقة على المشجب – لتنتقل بعدها إلى بعثرة الصورة الزائفة لزواجهما وتفكيك إحباطاتها وادعاءات زوجها على المستويين الخاص والعام. لكن الطاقة التعبيرية التي تسكبها المرأة على خشبة المسرح وبين صفوف المشاهدين تتطاول لتأخذ الحضور, على غفلة منهم, بهديرها الذي يقودهم رويداً رويداً إلى نزع أقنعتهم, بصمت وفي الظلمة, ومشاهدة ادعاءاتهم وهي تتهاوى أمام أعينهم, في جسد وخيبة امرأة ضاق بها الصمت والخواء والزيف.
تعري وداد خواءها العاطفي والجسدي على خلفية خيانات زوجها وبروده الجنسي والعاطفي, مقابل الذكورة الجسدية البارزة المزيفة للرجل الصامت الجالس على الكرسي (كما على خلفية الصورة التي تظهر على الشاشة: ثور بقرنين حادين) وتكشف عن الخراب الاجتماعي الذي يأكل العلاقات التي يدوران فيها؛ كما تزيل القناع عن هذا المثقف العصري الذي يتاجر بالناس وقضاياهم المصيرية في الوقت الذي يخوض فيه نضالاته الوهمية على صفح
ات "الفيسبوك" وصحف الجرائد, مدافعاً عن حقوق الإنسان في الوقت الذي ترك والده الذي ينهشه السرطان وابنه الذي رماه في دار لرعاية الأطفال المعاقين, ... وصولاً إلى انهيارها العصبي التام على الخشبة وصمت الرجل الخشبي الغارق في الدخان والمشروب و صفحات "الفيسبوك".
يستعين المخرج بوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي (الشاشة, الفيسبوك, الموسيقا, الصحف, المجلات, إلخ) لإضفاء طاقة تعبيرية تشكل إطاراً لخيبة المرأة وإحباطاتها؛ طاقة تستدعي عوالم الوهم والادعاء اللذين يملآن المناخ العام بالزيف والأكاذيب ويشكلان سحابة دخانية تغطي على البؤس الذي يملأ العالم الواقعي.
الشاشة تضفي بُعداً أوسعَ على المشهد المسرحي: فمن جهة, تساهم في تعزيز مونولوج المرأة الغاضبة (صور الثور, والابن المعاق, والرومانس الغائب من العلاقة, إلخ)؛ ومن جهة أخرى, تنفتح لتطال عوالم ودلالات أوسع تلامس الهمَ الوطني والقومي (صورة "القبلة" لغوستاف كليمت على بناء مهدم في أحد شوارع المدن السورية, والأطفال السوريين المهجرين يبيعون الورد في الشوارع, وصورة ياسين بقوش الذي قضى بقصف عشوائي للمجموعات المسلحة في دمشق, وتمثال المعري الجديد بعد أن قطع الثوريون الظلاميون رأسه, وصورة امرأة فلسطينية تلف شجرة زيتون مقطوعة كأن حياتها معلقة بها يرمقها في الخلفية جندي إسرائيلي من سيارته العسكرية, إلخ).
تفيض الخشبة بموسيقا وأغنية وصور تبعث على الحنين وكأنها تسعى يائسة إلى بلسمة جراح ربما تحتاج إلى أكثر من أغنية, وأكثر من كلمات, وأكثر من صور.
يبقى على المشاهد العارف بالرموز الفنية واستخداماتها ودلالاتها أن يفكك رمزية المرأة/الوطن التي تلفظ أنفاسها الأخيرة في بوح عنيف أمام زوجها المدعي الصامت بعد (10) سنوات من الزواج المليء بالعجز والخيانة والإهمال, بل أمام ثلة من التجار والسماسرة ومدعي الثقافة والحريات؛ فعندها فقط تكتسب كلمات المرأة الغاضبة معانيها الكاملة لتخرج من محيط الخشبة والصالة إلى شوارع الوطن كله.
وداد امرأة غاضبة تتحسس إحباطها وخيبتها, في مونولوج عاطفي مشحون يرتقي إلى مستوى المحاكمة الأخلاقية التي يتدفق بها سرد رواية "البحث عن الظلام" للروائي السوري حسن صقر.
"ليلي داخلي"... تستحق الحضور والمشاهدة.
مسرحية "ليلي داخلي"
المسرح القومي/اللاذقية 17 – 22 نيسان 2013
إعداد وإخراج: سامر محمد اسماعيل
(عن نص لماركيز بعنوان "خطبة لاذعة ضد رجل جالس")
تمثيل: روبين عيسى/ بسام البدر
رعاية مجلس محافظة اللاذقية وتقديم دار الفنون ومجلس الشباب السوري
الجمل
إضافة تعليق جديد