من باريس إلى فيينا: إسقاط ثوابت أردوغان!
مرت قمة العشرين التي انعقدت في أنطاليا بتركيا يومي الأحد والاثنين الماضيين بخلاف جدول أعمالها. القمة التي انتظرها «حزب العدالة والتنمية»، وتحديداً رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، لتكون مسرحاً لاستعراض قوة بعد فوزه القسري بالانتخابات النيابية في الأول من تشرين الثاني الحالي مرت على غير ما يشتهيه المسؤولون الأتراك.
فقبل يومين فقط من انعقاد القمة حصلت هجمات تنظيم «داعش» في باريس، وقبلها بيوم واحد انتهت لقاءات فيينا حول الأزمة السورية. والحدثان ارتبطا مباشرة بسياقات لا تنسجم مع سياسات أنقرة الإقليمية.
في مجزرة باريس
جاءت المجزرة الرهيبة وغير المسبوقة لتلقي ظلالها الكثيفة على قمة العشرين، ولتسرق الأضواء من النقاشات التي كان يفترض أن تحصل لو لم تحصل المجزرة. كان الرهان التركي أن تنصب جهود القمة على اللاجئين السوريين، بعدما ألقت بهم تركيا بحراً ليذهبوا إلى أوروبا، ومات منهم من مات غرقاً بالقوارب التركية المنطلقة من كل سواحلها وعلناً.
كانت تركيا تتطلع إلى قرار يدعم مطالبها بتسوية للاجئين تضمن وقف تدفقهم، من أجل المقايضة عليهم ببعض المال من جهة وإيجاد منطقة آمنة في سوريا لوضعهم فيها مؤقتاً.
هجمات باريس غيرت الأولويات. وبات كل زعيم من المشاركين لا يعرف عما سيتحدث، وتحول الكلام على الإرهاب، ولا سيما المرتبط بـ«داعش»، إلى مركز النقاشات.
الرئيس التركي لم يجد ما يقوله سوى أنه يجب أن توجه القمة رسالة قوية ضد الإرهاب. لكن كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن دعم 49 دولة، بينهم أعضاء في قمة العشرين، ترك بصمته على محادثات القمة، وترك أثراً سلبياً لدى البعض الذين يعرفون جيداً أنهم من داعمي الإرهاب.
هجمات باريس أعطت مصداقية عالية لكلام بوتين. ففرنسا التي ليس أمامها سوى شن حرب مفتوحة على «داعش» وأخواته، تلتقي هنا بالكامل مع النظرة الروسية، حيث يتوقع، كما بات معلوماً تنسيقاً وتعاوناً كاملاً بين موسكو وباريس في الحرب على التنظيم. ولهذا لا شك في تداعيات هذا الأمر على أولويات فرنسا، التي أعلن رئيسها فرانسوا هولاند أن لباريس عدواً واحداً هو «داعش». وهذا ما يثير قلق أنقرة من تحول المواقف من مسألة بقاء الرئيس السوري بشار الأسد من عدم بقائه في اتجاه الرضوخ لأمر واقع لا تحبذه تركيا.
كذلك فإن إعلان بوتين أن «داعش» هو المسؤول عن إسقاط الطائرة الروسية في سيناء، قبل أن تصدر لجنة التحقيق المشتركة المصرية – الروسية قرارها، كان رسالة إلى الاندفاع الروسي أكثر في محاربة «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية في سوريا وغير سوريا، وهو ما يطلق زخماً أكبر ويخلق قلقاً أكبر لدى أنقرة، بعدما غيّر التدخل الروسي في سوريا المعادلات منذ لحظة بدايته، فكيف الآن بعد إسقاط الطائرة الروسية وهجمات باريس؟
مؤتمر فيينا
غابت أهمية مؤتمر فيينا ونتائجه في خضم التطورات المتسارعة بعد هجمات باريس. مع ذلك فإن قرارات فيينا، رغم مشاركة تركيا فيها، لا تثير ارتياح الحكومة التركية ولو ضمناً. فالقرارات لم تتضمن أي إشارة إلى استبعاد الأسد من المشهد السياسي. وجاءت هجمات باريس وموقف روسيا بعد إسقاط الطائرة في سيناء لتصب في مصلحة بقاء الأسد، حيث أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن المطالبة برحيل الأسد أمر غير مقبول.
كما إن قول وزير الخارجية الأميركي جون كيري إن وقف النار المقترح في سوريا لن يشمل «داعش» و«جبهة النصرة» أيضا لا يثير ارتياح أنقرة، التي لعبت دورا كبيرا في دعم «جبهة النصرة» للاستيلاء على جسر الشغور وإدلب من جهة، فضلاً عن دعمها لـ«داعش» الذي لم يتوقف حتى الآن، من جهة أخرى. وهذا يعني أن منطقتي جسر الشغور وإدلب معرضة لحرب تكتسب شرعية لضرب «النصرة» هناك، وليس هناك من قوة تريد ذلك أكثر من الجيش السوري وحلفائه، براً وجواً، وبالتالي تقليص رقعة النفوذ التركي في شمال سوريا.
ونأتي إلى بعد آخر متصل بتصريحات كيري عن بدء حملة أميركية مشتركة مع تركيا لإغلاق 98 كيلومتراً من حدود تركيا أمام تنظيم «داعش». هذا الكلام العام يقصد منه المنطقة الممتدة من جرابلس غرب الفرات إلى مدينة مارع غرباً، ويسيطر عليها «داعش» بالكامل، وهي المعبر الوحيد المتبقي له إلى تركيا، وعبره تتواصل عمليات إمداد «داعش» بالسلاح والمقاتلين، ويتم إرسال جرحى التنظيم للتداوي في المستشفيات التركية. والتحقيقات التي تنشرها الصحافة التركية هذه الأيام عن العلاقة العضوية بين تركيا و «داعش» تؤكد المؤكد.
لكن الأسئلة حول طبيعة هذه العملية لا تزال غير واضحة. هل هي عملية جوية أم برية أم الاثنتان معا، وهل ستكتفي بتعطيل حركة «داعش» هناك أم ستدخل قوات أخرى لتحل مكانها، ومن هي هذه القوات؟
دائما كانت واشنطن تقارب نظرة أنقرة إلى سوريا و«داعش» تحديداً بنظرة شك. ونائب الرئيس الأميركي جو بايدن تحدث علناً عن دعم أنقرة لـ«داعش»، وكذلك رئيس الاستخبارات الأميركية. مجرد قول كيري انه ستتم عملية لإغلاق الـ 98 كيلومترا مع تركيا هو تأكيد للقول إن «داعش» يستفيد من هذه المنطقة المفتوحة على تركيا واتهام غير مباشر لأنقرة بدعم التنظيم.
لذا، فإن تركيا عندما تذهب إلى معركة إخراج «داعش» من هذه المنطقة، فهي تذهب إليها متثاقلة الخطى، لأنها لا تريدها، ولكن الضغوط الأميركية والتحولات الدولية ترغمها على ذلك. وما دام التسليم بالأمر الواقع حتمياً، فإن تركيا تذهب إلى المعركة على أمل أن تعوض شيئا من عناوين سياساتها المنهارة في سوريا، وتتلخص بهدف أساسي، وهو منع الأكراد السوريين من التمدد غرب الفرات للاستيلاء على جرابلس والمنطقة الممتدة إلى مارع ووصل كانتون عين العرب (كوباني) بكانتون عفرين. إذا حصل تنظيف لهذه المنطقة، فهذا سيكون مقابل منع تمدد الأكراد، وحينها تعتبر تركيا أنها حققت شيئا أو كبحت الاندفاع الكردي غرباً. ولكن تركيا تأمل ما دامت العملية واقعة لا محالة أن تكون المنطقة في ظل سيطرة قوات تابعة لها، مثل «الجيش السوري الحر» أو فرق تركمانية يقال إنها سورية، بينما لا يعرف أحد أصلها وفصلها.
وهنا يبدو أن عناوين تركية أساسية قد سقطت. والمفارقة أن الذي أسقطها رسميا هو الرئيس الأميركي باراك أوباما نفسه، بعدما كانت سقطت بفعل تقدم الجيش السوري ومعارضة كل من إيران وروسيا لها.
أول هذه العناوين هو الرغبة في تدخل بري لقوات التحالف بحيث تكون تركيا جزءا منه لاحتلال منطقة شمال حلب. أوباما أعلن انه يرفض إرسال قوات أميركية إلى سوريا، وبالتالي فإن أنقرة لن تستطيع التدخل بمفردها في ظل معارضة واشنطن. وثانيها إقامة منطقة حظر طيران تطالب بها تركيا منذ بداية الحرب في سوريا لمنع طائرات الجيش السوري من قصف المجموعات المعارضة، حيث قال أوباما إن «داعش» لا يملك طيراناً. وثالثها المنطقة العازلة، حيث قال أوباما إنه لا يعرف ممن ستنظف ومن سيدخلها. ورابعها إسقاط النظام في سوريا حيث لم يشر بيان فيينا إلى ذلك أبدا. أما مسألة استمرار دعم تركيا لـ «داعش» فستواجه إحراجات كثيرة، خصوصاً عندما تشتد وتيرة الحرب الفرنسية والروسية على هذا التنظيم. وسيكون على تركيا أن تحسم أمرها، إما في اتجاه استكمال التلاعب والمماطلة وخسارة المزيد من الحلفاء، أو باتجاه إحداث تحول نوعي يمكن أن يفتح عليها غضب «داعش» كما حصل مع فرنسا.
ولا يغيب عن كل هذه التطورات معركة استعادة سنجار في العراق، التي رغم أنها تعزز نفوذ «رئيس» إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني، صديق أردوغان، في المنطقة والعراق غير أنه كان انتصاراً للحالة الكردية في الشرق الأوسط، في ظل مشاركة قوات الحماية الكردية و «حزب العمال الكردستاني» فيها، وبغطاء أميركي، ما يزيد، في المقابل، من قلق تركيا من توسع «الكوريدور» الكردي من العراق وصولا إلى عين العرب..وعفرين.
من الواضح أن تركيا تمر في مرحلة صعبة وحساسة من سياستها الخارجية، ولا سيما في سوريا، والمؤشرات لا تعكس سوى المزيد من العزلة والإحباط لهذه السياسة.
محمد نور الدين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد