من سرق مقدمة ابن خلدون
اجتمعوا ليكرّموه، فإذا به غير موجود! هكذا يمكن أن نلخّص النتيجة المدهشة التي انتهى إليها، الأسبوع الماضي، «ملتقى الجزائر الدولي حول ابن خلدون».
القصة أن رئاسة الجمهورية الجزائرية قد نظّمت ملتقى دولياً حول أعمال وفكر العلامة الراحل عبد الرحمن بن خلدون، دام ثلاثة أيام. وقد حضر الملتقى ما يزيد على 24 باحثا خلدونيا من 12 دولة، لكن المفارقة المدهشة أن الحاضرين قد صحوا على خبر فجائعي، مفاده أن نسخ المقدّمة، قديمها وجديدها، قد اختفت من البلد الذي كتبت به. صاحب البشارة السيّئة كان مدير مخبر البحث في المخطوطات بجامعة الجزائر مختار حسّاني، الذي قال وسط دهشة الحاضرين «لم تعثر فرق بحثنا على أي عمل من أعمال الراحل ابن خلدون، رغم امتداد إقامته بالجزائر، وكتابته للمقدمة على أرضنا»، ولم يكتف بذلك بل قال ان نتائج بحثه الشخصي قد ترجّح إحدى الفرضيتين المشهورتين حول مكان المقدمة، إذ تقول الفرضية الأولى بأن ابن خلدون قد أهدى النسخة الأصلية لـ(أبي حفص) سلطان تونس، وتقول الثانية بأن رواق المغاربة بجامع الأزهر يحتضن هذه النسخة، ولاحظ حساني بمرارة أن الأزهر لم يعلن أي تفاصيل بخصوص هذه القضية.
لكن مختار حساني لم يغفل الإشارة إلى فرضية ثالثة تقول بأن (المقدمة) الأصلية ما زالت في الجزائر، عطفا على ورودها ضمن الإجازات العلمية التي كانت تمنح لطلبة العلم بالمغرب الأوسط، حيث يعلن العالم المختص أنه يمنح إجازة التدريس للطالب الفلاني لثبوت تمكّنه من الاطلاع على محتوى مجموعة كتب ومتون. وقد عثرت فرق البحث الجزائرية على إجازات ذكرت فيها المقدّمة، وهكذا يستنتج أن النسخة الأصلية، أو على الأقل، ان بعضاً من بين أقدم النسخ قد تكون في الجزائر.
القضية خطيرة، إذ لا معنى لعدم وجود أي نسخة من نسخ المقدمة بمكان كتابتها سوى احتمالات جدّ مؤلمة، وهو الأمر الذي دفع بكثير من المختصين إلى تصوّر بضعة سيناريوهات لما يكون قد حدث.
يقول مسعود سيساني، أستاذ في علوم التاريخ، أن الفرضية الأقرب بالنسبة له هي أن تكون فرق البحث الفرنسية قد عثرت على المقدمة في عهد الاستعمار ومن ثمّ جرى نقلها إلى باريس، وحفظت في مكان غير معلن. وهو الأمر نفسه الذي جرى مع الكثير جداً من المحفوظات ذات القيمة التاريخية الكبيرة والتي حوتها خزانة «الداي حسين»، آخر حكّام الجزائر باسم السلطان العثماني. لكن الباحثة خيرة عمراني ترجّح أن يكون الأمر بعيداً عن ذلك، فبالنسبة لها «المقدّمة حلم الكثير من الباحثين عن الكنوز، ولا استبعد أن يكون أحدهم ـ جزائريا كان أو غربيا ـ قد صادفها، وفكّر ببيعها في سوق تهريب الآثار، ولن يمضي وقت طويل حتى تعلن دولة غربية أنها اقتنت المقدّمة من شخص ما، وتحتفظ بها كإرث قومي، كما تفعل المملكة البريطانية مع العديد من المراجع العربية التاريخية».
ويضيف عمر. م ـ أحد رجال الأمن العام ـ فرضية جدّ شخصية للموضوع، إذ يقول بأن «دلائل كثيرة تقول بأن فرق البحث الفرنسية، ربما، تكون قد عثرت على المقدمة، وأودعتها بمقر المكتبة الوطنية حالياً، لكن آثارها قد اختفت بعد استقلال الجزائر، ومن المرجّح أن بعض الموظّفين قد باعوها طمعاً بالمال، أو أن إدارة المكتبة الوطنية الجزائرية لم تعلن عن وجودها بمخازنها حفظا لها من خطر السرقة».
ويردّ السيد عمر. ب، على التساؤل الذي يستغرب عجز دولةٍ عن حماية وثيقة كهذه بالقول ان «سجّلات المكتبة الوطنية نفسها لا تذكر شيئا عن الموضوع، وبالتالي فلا إثبات على وجود المقدّمة بمخازنها إطلاقا، ولا دليل على عملية بيع أو سرقة، بل إن بعضهم يقول بأن الوثيقة موجودة في مقر المكتبة الوطنية الجزائرية، لكنّها اختفت مباشرة بعد زلزال 31 مايو (أيار) 2003 والذي نتج عنه انهيار جزئي لمخازن المخطوطات النادرة، ثم أغلقت ـ بغرض الترميم ـ لفترة غير قصيرة بالمرّة. وهي فترة تفتح الباب أمام كل احتمال».
وأمام سلسلة الاحتمالات التي يطرحها كل طرفٍ، يبدو أكيداً أن البلد الذي شهد ميلاد مقدّمة ابن خلدون بمغارة «أولاد سلامة» لا يمتلك أي نسخة من هذا العمل العلمي الذي يوصف بأنّه خطوة التأسيس الحقيقية لعلم الاجتماع بمعناه الحقيقي. وهي مأساة فعلية لأجيال من عشّاق ابن خلدون، ومن بينهم الرئيس الجزائري الذي قال بأن ابن خلدون «ابن هذه الأرض.. لا يلومنا في قول ذلك مشرقي ولا مغربي»، فمن سيكشف عن سارق المقدّمة؟
شبّوب أبوطالب
المصدر: الشرق الأوسط
إضافة تعليق جديد