من صناعة الموت الى صناعة الحياة
المتــابـــع للفـــضائيات العربية، يجدها تعنى بــأدق التفـــــاصيــــل السياسيــــة، وتتابع أخبـــــار الجــــريمة، فتقدمها بصـــور حية غارقة بالتفاصيل. ولا مغالاة بالقول إن هذه الفضائيات أصبحت مصدراً لأمراض نفسية تصيب الصغار وبعض الكبار بفعل تلك المشاهد المروعة المنقولة عن مصادرها سواء في العراق وأفغانستان أو باكستان، وقد أصبح كل منها مسرحاً للجريمة بنوعيها: العشوائي والمنظم. ولا يتورع بعض هذه الفضائيات من إظهار العاملين في الدفاع المدني، والمتطوعين من المواطنين في مكان الحدث وهم يجمعون نثار اللحم البشري في علب الكرتون، أو على بطانية، وما هنالك من مشاهد أخرى مروّعة تزرع الرعب في النفوس.
ومع أن الفضائيات التي «تعنى» بتقديم مثل هذه «المشاهد الحية» تتلمس العذر لنفسها في أنها إنما تقوم بعملها الإعلامي في «نقل الخبر من موقع الحدث»... فإنها في الوقت ذاته لا تعير الأمور والقضايا الأخرى ما هي جديرة به من اهتمام. فالمشاهد الذي يكاد يعرف عدد القتلى ومسارح الجريمة ساعة بساعة، وفي «مواقعها»، لا يعرف، بالمقابل، شيئاً يستحق الذكر عن الكتب المهمة التي صدرت هذا الأسبوع، أو الشهر، في هذا البلد أو ذاك، وما الذي قام به المبدعون هنا أو هناك من عمل ثقافي، سواء كان ندوة أو مؤتمراً... كما لا يعرف شيئاً عن تطورات الفنون، من تشكيلية وموسيقية ومسرحية... وحتى رحيل أديب أو مفكر أو فنان، ممن لهم شأن في الحياة الثقافية والفكرية والفنية، قد لا يحظى، إن حظي، بأكثر من خبر مسطور بين الأخبار المتحركة أسفل الشاشة التي لا تشير إلاّ الى اسم الراحل وبلده وصفته الإبداعية بإيجاز بالغ... أما ماذا قدم خلال مسيرته الحياتية - الإبداعية؟ وما أهمية ما قدّم؟ وأية مكانة كان يحتل، أو أي تهميش وإهمال لحقا به من بلده، فتلك أمور ليس لنا، كمشاهدين متابعين للشأن الثقافي، أن نطالب بها فضائيات قد لا يكون بين العاملين فيها من يعنيه مثل هذا الشأن!
ترى، هل سأل القائمون على هذه الفضائيات أنفسهم عن سر هذا الاهتمام بالموت، وعوامل الموت، ونتائجه، مقابل عدم الاهتمام، ولو جزئياً، بالحياة، وموضوعات الحياة، وما ينتجه الإنسان السوي من أجل هذه الحياة، وفي مقدمها الآداب والفنون، وبمنتجيها الفعليين؟
هذا الواقع قد يدفع الى الشك بوجود أقسام ثقافية في هذه الفضائيات، ذلك أن العاملين فيها، كثيراً ما يبدون وكأن لا علاقة لهم بالشأن الثقافي، مع استثناءات قليلة لا تشكل واقعاً... فلو كانت هناك أقسام ثقافية يديرها معنيون بالشأن الثقافي لوجدوا الى جانب برامج «صناعة الموت» برامج نظيرة عن «صناعة الحياة»، ولاستضافوا مبدعاً، أو ناقداً، يتحدث في صناعة الحياة هذه ويعمل على تكريسها، معطيات وأبعاداً، في عقول المشاهدين، نظير استضافتهم «إرهابياً سابقاً» أو «خبيراً في شؤون الإرهاب»... والفارق جوهري بين الاثنين.
ماجد السامرائي
إضافة تعليق جديد