من هم الشيعة؟ الدور والتاريخ
في ظل القلق العابر للطوائف في لبنان تعود الأسئلة التاريخية حول الحضور الشيعي لتحتل الصدارة من موقع الديموغرافية والجغرافية، ورغم ما يبديه المتخيل الشعبي عند غالبية الجماعات الدينية، من انفتاح قلق على هذا الآخر الشيعي، لكن الهواجس الوجودية لا تبتعد كثيراً عن تنامي هذا الحضور في مراكز الدولة والقرار، والإشكالية التي تطرح عند الكثيرين من العامة والخاصة من هم الشيعة وما هو دورهم في تاريخ لبنان القديم والمعاصر؟ لا تجيب كتب التاريخ بشكل علمي وغير ايديولوجي عن ارهاصات الحضور الشيعي وقلقه المزمن، ودائماً نبحث عن هذا الآخر المتعملق منذ دخول حزب الله في معترك الحياة الجهادية والسياسية، لكن الأجوبة المضمرة والمسجلة في المدونات المتقطعة لا تسمح لنا بمعاينة فعالية هذا الدور إذ تُسلط الأضواء على من احتل المشهد السياسي والتاريخي من الطوائف الأخرى كما لو أن هؤلاء الحسينيين أُسقطوا في تاريخنا الذي يحتاج الى مراجعات نقدية.
من هم الشيعة؟ سؤال يؤرق أصحاب الهواجس، ليس من موقع التنابد الديني فقط بل للفعالية السياسية والاقتصادية أدوار تزيد في اتساع دائرة المخاوف، والشيعة بهذا المعنى نضاليون، فهم يسعون الى صناعة تاريخهم والتأكيد على أنهم مكوّن أساسي في هذا الوطن، وبصرف النظر عن الايديولوجيات المسيطرة على بعض مؤرخي الشيعة، لكن التاريخ اللبناني المدون أقله منذ الاعلان عن دولة لبنان الكبير العام 1920 يتحمل المسؤولية الكبرى في تهميش الشيعة وإخراجهم من المشهد التاريخي المأزوم، ودائماً كنا نسأل أنفسنا وفقاً لكتب التاريخ التي درسناها أين هم شيعة لبنان ولماذا يبدو أن هذه الكتب تتحدث فقط عن القيادات المارونية والسنيّة؛ وما زلنا حتى اليوم ندور في فلك التساؤلات. هؤلاء الذين اسماهم عبد الله العلايلي بـ «المتاولة» ـ من تأويل النص ـ في تفسيره لمصطلح «المتاولة» ـ يرى البعض أن كلمة متاولة اطلقت على شيعة لبنان من منطلق الصرخة التي أطلقوها في نضالهم ضد العثمانيين والتي تقول مت ولياً لعلي ـ بكل ما يحيويه هذا المصطلح من سلطان قهري حولهم الى تيار اعتراضي مستقل واجه الظلم الديني/ السياسي في المجال اللبناني والمجالات العربية الأخرى، نظر الى اعتراضهم من زاوية الخروج عن دولة الغلبة المتعاقبة عبر الخلافات والوصايات، فلم نجد من يسأل نفسه من بعض المؤرخين وحتى الزعامات السياسية الطائفية عن أبرز العوامل المؤدية الى تحويل الظلم الى الاعتراض.
اللافت في لبنان اليوم العودة الى البحث عن هذا التاريخ الشيعي المفقود، وطبعاً موجبات هذا البحث المضني معقدة ومتداخلة، وتتحكم بها في الغالب الاسقاطات الايديولوجية، والبارز فيها الاهتمام الكبير الذي توليه مراكز الدراسات حول الشيعة ودورهم منذ الاعلان عن دولة لبنان الكبير وما قبل هذه المحطة أيضاً، والأهم فيها السعي لمعاينة هذا التاريخ بما يمثله حزب الله وإبراز خلاصات مجموعة من الكتّاب الشيعة الذين يحاولون ربط الجغرافية اللبنانية الراهنة بالجماعة أي الجماعة الشيعية وإعطائها بعداً مقدساً تدعم ما يطلق عليه المشروع السياسي.
«جغرافية لبنان من منظور شيعي» عبارة عن نصوص مختارة انتقاها المركز الماروني للتوثيق والأبحاث للكشف عن خاصية أساسية، «تظهير الايديولوجية التي تتحكم بباطن الجماعات التي قصدت جبل لبنان، متخذة منه ملجأ لها، وتحيين أدوار التاريخ حتى تكرس غلبتها على الجغرافيا بالاعتماد على ربط الارض باللاهوت». الدراسة وقع اختيارها على أربعة نماذج: سعدون حمادة: تاريخ الشيعة في لبنان، علي راغب حيد أحمد: المسلمون الشيعة في كسروان وجبيل، جعفر المهاجر: التأسيس لتاريخ الشيعة في سورية ولبنان، علي الابراهيم الطرابلسي: التشيّع في طرابلس وبلاد الشام؛ وقبل عرض أفكار الكتّاب الأربعة تخرج مقدمة الدراسة بخلاصة أساسية «إن هذه الكتابات هي عملية أدلجة للتاريخ وفي أحسن الأحوال عملية إسقاط لتضخم الأنا في الزمن الحاضر على أحداث التاريخ» ولكن المؤشر الأهم الذي يمكن استنتاجه هل هناك فعلاً وبغض النظر عن الاشكاليات التي تطرحها المخاوف الجغرافية والدينية مشروع لربط الجغرافية بالمشروعين الديني والسياسي؟ السؤال يبدو اعتباطياً فكل الجماعات الدينية الموجودة في لبنان شهدت تحولات عبر الجغرافية ولم تعرف استقراراً على مستوى المكان، ويبدو أن الموارنة والشيعة، الطائفتان الأكثر تنقلاً لأسباب تاريخية، من هنا يتضح أن الخوف متبادل من الآخر، وهو يتفاقم بفعل التعملق الشيعي علمياً وسياسياً واقتصادياً.
الأسئلة عن الحضور الشيعي وتاريخه ودوره لا تقتصر على الموارنة، الطوائف الأخرى تشاركهم في إثارة المسكوت عنه في هذا التاريخ الغامض الذي نجهله، ولم يجرؤ أحد على طرح السؤال التالي: لماذا أنتم قلقون من دخول الشيعة الى مواقع القرار هل لأنكم لا تريدون النظر الى هذا المكوّن إلاّ من موقع الموروث التاريخي؟ لن ندخل في السجال السياسي العقيم حول سيطرة حزب الله على الدولة، القلق الطائفي عند كافة اللبنانيين أعمق من هذا السجال، التاريخ الرسمي يتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية تهميش الشيعة في لبنان وبقية الدول العربية، وحتى ترسو أسس الدولة الحديثة القائمة على الديموقراطية الحقيقية وليس ديمقراطية الطوائف المتصارعة على الحكم، من المهم تنقية تاريخ لبنان من الاسقاطات وتدوينه كما هو بسواده واشعاعه، وليس من السهل أن يتصالح اللبنانيون مع تاريخهم وأن يتعلموا منه وأن يدركوا أن لهذا التاريخ عناوين أخرى غير تلك المسجلة في ذاكرتهم الانتقائية. والأهم أن نقرأ هذا التاريخ دون أن نستخدمه، لإقصاء الأخر وإلغاء وجوده، ومعركة الديموغرافية والجغرافية لا تقتصران على الأمة الشيعية القلقة، هي هاجس يطال الجميع، وخطورته في الماضي والحاضر والمستقبل لا تكمن في تنامي هذا الخوف فقط وإنما في توظيفه لغايات سياسية لا تريد الاعتراف بالتحولات الشيعية الجارية في أكثر من ميدان، ورغم الحديث المتداول عن الأرقام وبيع الأراضي فإن الصحوات الدينية لا تنحصر بشيعة لبنان بل لها حيثياتها لدى بقية الطوائف؛ وحزب الله الذي تكثر حوله الدراسات والنظريات يحتاج هو الآخر الى توضيح ماذا يريد على المستوى السياسي، أما ما يتعلق بالبعد الايماني فلا يحق لأحد مصادرة حق الشيعة في التعبير ضمن حدود لا تتخطى مقدسات الآخرين، والحق بالاعتقاد الايماني والتدين يوازيهما الحق في اللايمان واللاتدين. الشيعة وكل طوائف لبنان لا بد لهم من التصالح مع تاريخهم، والكل جزء من هذا التاريخ، الذي يتطلب قراءة واعية تتخطى أدلجة الديموغرافية والجغرافية.
ريتا فرج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد