موقف معاوية بن أبي سفيان من الفتنة

19-04-2011

موقف معاوية بن أبي سفيان من الفتنة

جلس والي الكوفة سعيد بن العاص في يوم من أيام سنة ثلاث وثلاثين في مجلسه العام، وبينما كان حوله العامَّة من النَّاس، يتحدّثون، ويتناقشون تسلَّلَ بعضاً من المتآمرين السَّبئيين إلى المجلس، وعملوا على إفساده، بإشعال نار الفتنة، من خلال كلام وحوار بين سعيد بن العاص وأحد الحضور، وهو خُنيس بن حُبيش الأسدي، واختلفا على أمر، وكان سبعة من الذين سيكونون خوارج، أصحاب الفتنة جالسين، منهم: جندب الأزديّ، الذي قتل ابنه السَّارق بسبب تورطه في قضية قتل، والأشتر النَّخعيُ، وابن الكوَّاء، وصعصعة بن صوحان، فاستغل أصحابُ الفتنة المناسبةَ، وقاموا بضرب خُنيس الأسدي في المجلس، ولمَّا قام أبوه ينقذه، ضربوه، وتدخل سعيد لإيقافهم، فلم يمتنعوا، وكادت الحرب تقع بين الفريقين، عند مطالبة، بنو أسد بالثأر لأبنائهم، ولكنَّ سعيداً تمكّن من إصلاح الأمر، ولمّا علم عثمان بالحادثة، طلب من سعيد بن العاص أن يعالج الأمر بحكمة، في حين عمل المتمردون على نشر الافتراءات والأكاذيب ضدَّ أهل الكوفة، فاستاء أهل الكوفة منهم، وطلبوا من سعيد معاقبتهم، إلاّ أن سعيداً اعتذر، وطلب منهم مُكاتبة الخليفة، فكتب أشراف أهل الكوفة إلى عثمان بشأن هؤلاء النَّفر، وطلبوا منه إخراجهم منها، فأمر عثمان واليه بإرسالهم إلى معاوية في الشام، وكانوا بضعة عشر رجلاً، فيهم الأشتر النَّخعيُ، وجندب الأزديُّ، وصعصعة بن صوحان، وكميل بن زياد، وعمير بن ضابئ، وابن الكوَّاء، وكتب عثمان إلى معاوية بشأن هؤلاء، فقال له: "إنَّ أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفراً خلقوا للفتنة، فَرُعهُم، وأخِفهم، وأدِّبهم، وأقم عليهم، فإن آنست منهم رشداً، فاقبل منهم"، ولما قدموا على معاوية رحب بهم، وأحسن ضيافتهم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يُجرى عليهم بالعراق، وفي أحد المجالس قال لهم: "إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً، وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم، ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً وإن قريشاً لو لم تكن، لعدتم أذلة كما كنتم"، ويتابع معاوية حديثه معهم، فيقول: "إن أئمَّتكم لكم إلى اليوم جُنَّة، فلا تشذوا عن جنَّتكم، وإنَّ أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتَهُنَّ أو ليبتلينَّكم الله بمن يسومكم، ثمَّ لا يحمدكم على الصَّبر، ثم تكونون شركاء لهم فيما جررتم على الرَّعية في حياتكم، وبعد موتكم".
فقال رجل من القوم: "أما ما ذكرت من قريش، فإنها لم تكن أكثر العرب، ولا أمنعها في الجاهلية، فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجُنَّة، فإن الجُنَّة إذا اخترقت خلص إلينا"، فقال معاوية: "علمت الآن أن ما أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم، ولا أرى لك عقلاً، أُعْظِمُ عليكَ أمر الإسلام، وأذكِّرك به، وتذكرني بالجاهلية، وقد وعظتك وتزعم لما يُجنُّك: أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجُنَّة، أخزى الله أقواماً أعظموا أمركم، ورفعوا إلى خليفتكم". وعرف معاوية أنَّ الإشارة العابرة لن تقنعهم، فقال: "افقهوا! ولا أظنكم تفقهون، إنَّ قريشاً لم تعزَّ في جاهليةٍ ولا في إسلام إلا بالله عزَّ وجلَّ، ولم تكن أكثر العرب، ولا أشدَّهم، ولكنَّهم كانوا أكرمهم أحساباً، وأنساباً، وأعظمهم أخطاراً، وأكملهم مروءةً، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضاً، إلا بالله الذي لا يُستَذَل من أعزَّ، ولا يوضع من رفع فبوأهم حرماً آمناً يتخطف الناس من حولهم، هل تعرفون عرباً، أو عجماً، أو سوداً، أو حمراً إلا قد أصابه الدّهر في بلده، وحرمته بدولةٍ، إلا ما كان من قريش، فإنَّه لم يردهم أحد بكيد إلا جعل الله خدَّه الأسفل، حتى أراد الله أن يتنقذ من أكرم، واتَّبع دينه من هوان الدُّنيا، وسوء مردِّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثمَّ ارتضى له أصحاباً، فكان خيارهم قريشاً، ثمَّ بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم بالله، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم الله في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم. أفٍّ لك، ولأصحابك ولو أن متكلماً غيرك تكلّم، ولكنَّك ابتدأت، فأمَّا أنت يا صعصعة، فإنَّ قريتك شرُّ قرىً عربية، أنتنها نبتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشَّرِّ، وألأمها جيراناً، لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سُبَّ بها، وكانت عليه هُجنة، ثم كانوا أقبح العرب ألقاباً، وألأمها أصهاراً، نُزَّاع الأمم، وأنتم جيران الخطِّ وفعلة فارس، حتَّى أصابتكم دعوة النبيّ (ص)، ونكبتك دعوته، وأنت نزيع شطير في عُمان، لم تسكن البحرين، فتشركهم في دعوة النَّبي (ص) فأنت شرُّ قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام، وخلطك بالنَّاس، وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين الله عوجاً وتنزع إلى اللآمة، والذِّلة، ولا يضع ذلك قريشاً، ولن يضرَّهم، ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إن الشَّيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشَّرِّ من بين أمَّتكم، فأغرى بكم النَّاس، وهو صارعكم، لقد علم أنَّه لا يستطيع أن يردَّ بكم قضاء الله، ولا أمراً أراد الله، ولا تدركون بالشَّرِّ أمراً إلا فتح الله عليكم شراً منه، وأخزى!".
ثم قام وتركهم فتذامروا، فتقاصرت إليهم أنفسهم، وبذلك بذل معاوية كلَّ طاقاته لإقناعهم، ثم أتاهم فتحدَّث إليهم طويلاً، فقال: "أيُّها القوم! ردُّوا عليَّ خيراً، أو اسكتوا، وتفكَّروا، وانظروا فيما ينفعكم، وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المسلمين، فاطلبوه، تعيشوا، ونعش بكم!" فقال صعصعة: لست بأهل لذلك، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله، فقال معاوية: "أوليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله، وطاعته، وطاعة نبيّه (ص)، وأن تعتصموا بحبله جميعاً، ولا تفرقوا؟" قالوا: بل أمرت بالفرقة، وخلاف ما جاء به النبي (ص)! قال: "إنِّي آمركم الآن، إن كنت فعلت، فأتوب إلى الله، وآمركم بتقواه، وطاعته، وطاعة نبيِّه (ص)، ولزوم الجماعة، وكراهة الفرقة، وأن توقِّروا أئمتكم، وتدلُّوهم على كلِّ حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لينٍ، ولطف في شيءٍ إن كان معهم!".
قال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإنَّ من المسلمين من هو أحقُّ به منك! قال معاوية: "من هو؟" قالوا: "من كان أبوه أحسن قِدْماً من أبيك، وهو بنفسه أحسن قِدْماً منك في الإسلام"، قال معاوية: "والله إن لي في الإسلام قِدْماً، ولغيري كان أحسن قِدْماً منِّي، ولكنَّه ليس في زماني أحدٌ أقوى على ما أنا فيه منِّي، ولقد رأى ذلك عمر ابن الخطَّاب، فلو كان غيري أقوى منِّي، لم يكن لي عند عمر هوادة، ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين، وجماعة المسلمين، لكتب بخطِّ يده، فاعتزلت عمله، ولو قضى الله أن يفعل ذلك، لرجوت ألا يعزم له على ذلك إلا وهو خير، فمهلاً فإنَّ في ذلك وأشباهه ما يتمنَّى الشيطان، ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تُقضَى على رأيكم، وأمانيِّكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يوماً ولا ليلة، ولكنَّ الله يقضيها، ويدبِّرها وهو بالغ أمره، فعاوِدوا الخير، وقولوه!".
فقالوا: "لست لذلك أهلاً!"، قال معاوية: "أما والله إنَّ لله سطوات، ونقمات، وإنِّي لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشَّيطان حتَّى تُحِلَّكم مطاوعة الشيطان، ومعصية الرّحمن دارَ الهوان من نِقَم الله في عاجل الأمر، والخزي الدائم في الآجل!".
فوثبوا عليه، فأخذوا بلحيته، ورأسه، فقال: "مه! إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا أمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم! فلعمري إنَّ صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً"، ثم قام من عندهم: فقال: "والله لا أدخل عليكم مدخلاً ما بقيت!".
كانت هذه المحاولة الأخيرة التي بذل فيها معاوية أمير الشَّام كلَّ جهده واستعمل حلمه، وثقافته، كي يثنيهم عن الفتنة، فدعاهم إلى تقوى الله، وطاعته، والاستمساك بالجماعة، والابتعاد عن الفرقة، وإذ بهم يرفعون عقيرتهم قائلين: ليس لك أن تطاع في معصية الله، وبحلمه الكبير، وصدره الواسع ذكَّرهم بأنَّه لا يأمرهم إلا بطاعة الله، وعلى حدِّ زعمهم، فهو يتوب من المعصية، إن وقعت، ثمَّ يعود لدعوتهم إلى الطاعة، والجماعة، والابتعاد عن تفريق كلمة الأمَّة، ولو كان الوعظ يجدي معهم، لتأثَّرت قلوبهم لهذه المعاملة، وهذا اللُّطف، ثم تحلَّم عليهم رغم مناوأتهم له، إلا أن ختام الجلسة كان مؤسفاً عرف من خلاله أنَّ هؤلاء يستحيل أن ينصاعوا للحقِّ، فلا بدَّ من إبلاغ أمرهم لأمير المؤمنين عثمان، وكشف هويَّاتهم، وخطرهم، ليرى فيهم أمير المؤمنين رأياً آخر.

 

من كتاب: معاوية بن أبي سفيان كاتب الوحي ومؤسس الدولة الأموية بدمشق
المؤلف: علي عزت آقبيق – إصدار دار التكوين - دمشق 2010

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...