ميـتــاثـقـافـــــة

17-07-2009

ميـتــاثـقـافـــــة

لا أعرف كيف نسميها، «الرواية السياسية» إسم فضفاض فضلا عن انه غير دقيق. كان هناك نوع من الشعر يسمونه الشعر الوطني وهو بالرغم من انه ذا موضوع سياسي الا انه ليس سياسيا. كان شيئا شبيها بذلك الارتجاز الذي تصاحب به النسوة الرجال إلى المعارك لتحميسهم على القتال، ولا يسمى شعرا سياسيا. تلك الرواية التي كانت تسعى لتستنهض الروح القومي وتستعيد أثناء ذلك وفي سبيله ماضياً مجيدا كدخول صلاح الدين القدس او قضاء المماليك على الصليبيين وقد تذهب إلى أبعد، إلى الفتح الاسلامي. ليست رواية جرجي زيدان سياسية بالتأكيد. لكن رواية هاني الراهب وجدله القومي تحيرنا أيضا. هل نصنفها في الرواية القومية، ليس هذا اسما أدبيا. هل نتكلم عن رواية سياسية وغير سياسية، رواية ذات موضوع سياسي ومعالجة ليست كذلك. هل هذا نوع من اعادة الاعتبار للسياسة وفرزها مما وراءها. هل يمكن ادراج هذه الرسالة القومية وذلك المخيال الحربي وتلك الأنشودة التحريضية في ما وراء السياسة، في ما قبل السياسة. لنسم ذلك الميتا سياسة ولنتكلم عند ذلك عن أدب ميتا سياسي. على ذلك يبدو «الغليان السياسي» أحيانا نوعا من الميتا سياسة. ربما لا تكون الحرب او شبهها سوى نوع من الميتا سياسة أيضا. هكذا نجد اسما لجانب كبير من الأدب نحتار في تسميته. لن يكون الأدب الوطني وهو أدب يندرج فيه شعر وفن ورواية بقدر ما تندرج فيه أدبيات سياسية سوى تجل ميتا سياسي.
إذا كنا نريد مصداقا لهذا الفن الميتا سياسي فلنبحث في الغناء الوطني وهو فرع معتبر من الغناء. ألم يغن سيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ و.. و... أغاني وطنية. أليس هناك تراث عريض من هذا الغناء الذي يحيرنا الآن أين نصنفه. انه الغناء الوطني، هذا الاسم بالطبع علم عليه. لكن باستثناء سيد درويش ماذا نجد. تهويلاً حربياً لا نعرف على ماذا يعتمد. تمجيداً لماض لا يقوم على أقل قراءة للتاريخ. حنيناً لملكوت لم يوجد قط ولم يكن له أي ذاكرة حقيقية. لكن الميتا سياسي ليس في الفن وحده. انه يملأ بدون شك مؤلفات تنتمي بعناوينها إلى السياسة، كما يملأ خطبا وتعليقات ومقالات. جميعها تقوم على «تابو»، على أقنوم يرد مفردا ولا يحتاج إلى أن يوضع في سياق أو حتى في جملة. انها كلمات محرمة فوق الأسئلة وفوق التحديد، انه دين أعلى يرد بتسميات شبه سياسية ويحولها إلى دين او شبه دين. لكننا في الميتا سياسي لا نعدم ان نكــون في «المــيتا» دائما. في الأدب نتكلم عن «ميتا الشعر» او «ميتا الرواية» في معرض توسعتنا للشعر او الرواية. لماذا لا نتكلم عن ثقافة اكـثرها في «الميتا».
لنتكلم مثلا عن ميتا التاريخ. لدينا مؤرخون بالتأكيد لكن إلى أي درجة هم كذلك، لست مؤرخا لكن قارئ التاريخ الذي يبحث في بطون الكتب يجد ازدواجا عجيبا في روايات المؤرخين القدامى. انها من ناحية ما ورائية تجد في العالم انفاذا غامضا لتدبير إلهي، وهي من ناحية اخرى تاريخية تسجل وقائع لا تنظم في هذا التدبير ولا تملك تجانسه واتساقه. أي لنقل ان التاريخ الإلهي يقع أحيانا كثيرة في تعارض مع التاريخ الدنيوي بما في ذلك تاريخ المتألهين انفسهم. شيء كهذا حوته، على ازدواجه، ثقافة كان لديها من الامتلاء ما تتحمل به تناقضاتها. اما حين صارت عصابا وقلقا كما هي الحال اليوم فقد بات عليها ان تتكتم على تناقضاتها وأن تحاسب على ذكرها وحتى على معرفتها. هكذا يتصل تمجيد التراث باغفال التراث. التراث المجيد جزء من التراث او تراث مؤدلج، اما التراث بجملته فثمة منه ما يجب تكميمه ونبذه جانبا. هكذا يتم تكفير ونبذ كتب لم تفعل الا استشارة التراث والاقتباس منه. هكذا تغدو كتب اخذت من التراث محرمة ملعونة. في ذلك طبعا العجب، اذ يجوز لنا عند ذلك ان نتساءل ما هو الماضي وما هو الأصل وما هو السلف وما هو التراث أساساً. اذا كان كل ذلك لا يقبل الا بعد فرز ونخل وتنقية وممّن؟ من المعاصرين الراهنين الذين هم أبعد ما يكون عن الايمان الأول وعن التراث وعن الأصل. اذ ذاك نفهم ان ما يسمى سلفا وماضيا مطبوخ، على نحو ما، في ملابسات الراهن وفي متوجباته، لكننا مع ذلك نسأل ما هو التاريخ كما يصلنا، ان لم يكن مقشورا مصفى متجانسا بالفرض وبما يشبه التزوير. أي انه يصلنا بعد ان لم يعد تاريخا. يصلنا بعد ان تحول الى مادة ايديولوجية، أي مادة سحرية الهية وليس عند ذلك من التاريخ في شيء، ولا يختلف في حقيقته عن الشعر الوطني والغناء الوطني والتعليقات الوطنية والخطب الوطنية. أي انه شيء طبخ وصنع من مادة يحتاجونها للتعبئة والتحريض، انه ليس سوى ميتا التاريخ.
كان التوسير يتكلم عن مظاهر فكر ليست فكرا على الاطلاق. يمكننا ان نتميز ذلك في دورياتنا ويومياتنا وسجالاتنا المحتدمة. يمكن لأي منا، اذا كان خبيرا، أن يحصي كم يتزايد المقدس والمكرس واليقيني في ثقافتنا. يفترض في ثقافة ما، أي ثقافة، ان نتقدم في اتجاه معاكس. يفترض فيها ان تتقدم في اتجاه ضدي. أي نحو مزيد من خلع الأوهام وتحطيم التابوات، مزيد من التشكيك والافتضاح والنقض. مر يوم بدأت فيه مفاهيم سائــدة تهتز. كان ذلك متوافقا مع اهتزازها في مناطــق وثقـــافات أخرى. لقد خضنا حربا طويلة شكل فيــها الواقــع نقــدا ميدانيــا لأطــروحات كاملة، لقد رأيناها تقريبا تسقط على الأرض، ايديولوجيات بحالها اظهرت عجزها ونهاياتــها البشــعة والآن لا أدري كيــف، نراها تنهض وتستعيد روحها ولغتــها وغلواءهــا وعصابها وكراهيــتها وعنفها والمعلن او المضمر. الآن نراها تنهض وتــسد القليل من الهواء الذي حصلناه بغيابها المؤقت، وعليــنا ان نعود الى الوراء لنصارع، أضعف من قبل، في المواقف والمواقــع التي حســبنا اننــا أنجزنا فيها صراعا او خرجنا منه. انها دائما عودة إلى الوراء، عودة إلى الميتا.
ثم يأتي بعد ذلك، سؤال إلى أين نتقدم. سيكون الجواب غير تاريخي وغير معقول. لكن هذا حالنا، فالأرجح ان ما نحن فيه لا يقاس. سيكون الجواب اننا نتقدم القهقري.

عباس بيضون

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...