هكذا اغتالت إسرائيل أبو جهاد
لم تعترف إسرائيل الرسمية والأجهزة الأمنية، حتى هذه الساعة، بالمسؤولية عن اغتيال القيادي الفلسطيني خليل الوزير في تونس، إلا أنَّ مصادر إعلامية وسياسية أجنبية، جزمت بشكل لا يقبل التأويل، بأنَّ سرية قيادة الجيش الإسرائيلي «سييرت متكال»، بالتعاون مع الكوماندو البحري الإسرائيلي، نفذت عملية اغتيال أبو جهاد في بيته في تونس في السادس عشر من نيسان 1988.
اليوم، وعلى مقربة من إحياء الذكرى العشرين لاغتياله، تبين أنَّ قتل أبو جهاد، جاء بعد ثلاث محاولات إسرائيلية سابقة. هذا ما كشف عنه محلل الشؤون العسكرية في صحيفة «معاريف»، عامير ربابورت، في تقرير مطوّل صدر أمس في ملحق الصحيفة، أشار فيه إلى أنَّ محاولات اغتيال أبو جهاد جاءت في أعقاب تخططيه لـ«عملية في مقر القيادة العسكرية في تل أبيب»، حيث استطاع تضليل الإسرائيليين بتفاصيل كثيرة، وصلت إلى حد إرسال الإسرائيليين وحداتهم النخبوية إلى ميناء الجزائر، في آذار عام 1985، لتفجير سفينة «مون لايت»، وتبيّن بعدها أنَّها السفينة الخطأ، حيث خطط الفلسطينيون للعملية بواسطة سفينة «اوتيبوريوس» التي خرجت إلى العملية وأغرقها الإسرائيليون صدفة، بينما كانت في طريقها إلى إسرائيل، معترفين بأنهم أغرقوها «لأن الحظ حالفهم فقط».
- ولا يكشف التقرير عن تفاصيل محاولات الاغتيال ومكانها، ربما لاعتبارات قد تكون سياسية. واكتفى بالإشارة إلى أنَّ هذه المحاولات تمّت «كما يبدو بواسطة الموساد»، في إحداها سار أبو جهاد «أياماً» في سيارة تمَّ تفخيخها بقنابل يدوية، إلا أنها لم تنفجر لسبب ما غير معروف. وفي مكان آخر، أطلق الرصاص قربه، وفي أخرى انفجر صاروخ قربه، إلا أن «الهدف لم يصب بأذى».
في نيسان 1985، وصلت إلى السلطة في إسرائيل حكومة وحدة وطنية بين حزب «معراخ» (العمل) برئاسة شمعون بيريز وحزب «الليكود» برئاسة اسحق شامير. واتفق الحزبان على مناصفة منصب رئيس الحكومة، بين بيريز وشامير، وأن يشغل إسحق رابين منصب وزير الدفاع. كان الثلاثة يجتمعون ويتباحثون في الشؤون الأمنية ضمن جلسات تشاورية. وأشار أحد الإسرائيليين، ممن شاركوا في الجلسات في حينه، إلى أنه «نظرنا في حينه إلى أبو جهاد كما تعاملوا أخيراً مع عماد مغنية».
وتقول الصحيفة إنه استناداً إلى مصادر أجنبية، اعتاد أبو جهاد على التنقل بين تونس والعاصمة الأردنية عمان، حيث كان الموساد الإسرائيلي و«بالتعاون مع أجسام استخبارية أخرى» مسؤولاً عن تجهيز «ملف» يرصد تقاليد حياة الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية: أين يتواجد يومياً؟ كم من الحراس حوله؟ ومع من يتحدث؟ كان التخطيط اغتيال أبو جهاد «من دون إبقاء بصمات إسرائيلية».
إسرائيل لم تتحمل ذات يوم المسؤولية عن اغتيال أبو جهاد، واستند صحافيوها حتى اليوم إلى «مصادر أجنبية». وبحسب هذه المعلومات، ففي نهاية عام 1987، تلقّت «سييرت متكال»، بقيادة موشيه يعلون (أصبح قائداً للأركان في ما بعد)، أوامر للاستعداد لعملية. ويرى كاتب التقرير أنَّ الكثير ممن لم يعرفوا عن محاولات الاغتيال السابقة لأبو جهاد «اعتبروا التخطيط لاغتياله جاء في أعقاب اندلاع الانتفاضة الأولى».
بحسب تلك المصادر الأجنبية، اتخذ القرار النهائي في جلسة في الثامن من آذار 1988، شارك فيها شامير ورابين وبيريز، وقائد الأركان دان شومرون ونائبه في حينه إيهود باراك (وزير الدفاع اليوم)، ورئيس شعبة الاستخبارات أمنون ليفكين شاحك، ورئيس الموساد ناحوم أدموني، ونائبه شبتاي شابيط، ومستشار رئيس الحكومة لشؤون الإرهاب يغال برسلر.
كان أبو جهاد مستقراً في تونس. وتم إسرائيلياً بحث خيارين أساسيين: الأول، أن تتم العملية بواسطة «سييرت متكال»، التي ستنقل إلى تونس بواسطة الكوماندو البحري، ومن هناك إلى بيت أبو جهاد. والثاني، كان بدخول تونس بواسطة طائرات وأسلحة وتنفيذ العملية. وفي النهاية، تم اعتماد الخيار الأول، وأن تكون العملية بقيادة يعلون بمشاركة الكوماندو البحري.
وتابعت الصحيفة، استناداً إلى تلك «المصادر الأجنبية»، أن الموساد الإسرائيلي أدى دوراً مركزياً، وكان جزءاً من التخطيط والتنفيذ، حيث كان عناصره «منتشرين» في تونس، و«عملوا في مكاتب هناك تحت غطاء شركات أجنبية»، وجمعوا معلومات كثيرة عن أبو جهاد وبيته ومكان سكنه في قلب المدينة. وبحسب المصادر نفسها، كان في تونس قبل العملية بفترة وجيزة، ثلاثة عملاء للموساد، بينهم امرأة. واستأجر كل واحد منهم سيارة مختلفة، ودفعوا مبالغ نقدية في مقابل هذا. كان الثلاثة يحملون هويات لبنانية مزوّرة وعملوا على رصد الأماكن في تونس ومعاينة «الهدف» استعداداً لليلة العملية.
في ليلة العملية، خرجت خمس سفن إسرائيلية. كان باراك، الضابط الأكبر في تلك العملية، على متن سفينة متمترسة قبالة شواطئ تونس استعملت كـ«غرفة عمليات». كان على متن السفينة أيضاً طائرات احتياط لحال وقوع جرحى إسرائيليين. وفي الأفق، حلقت طائرات إسرائيلية على ارتفاع عالٍ تحسباً للقصف «إذا ما تطلب الأمر».
بدأت العملية حين نزل عناصر الوحدات الإسرائيلية النخبوية من السفن بواسطة قوارب مطاطية ووصلوا إلى الشاطئ. كان بيت أبو جهاد يبتعد خمسة كيلومترات عن الشاطئ. كان بانتظارهم عملاء «الموساد» والسيارات المستأجرة هناك.
وصلت القوات إلى المكان عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وكان أبو جهاد لا يزال مستيقظاً. اقترب ضابط وعنصر متخفيان على شكل زوجين محبّين من البيت، فكان «الرجل» يحمل السلاح، و«المرأة» خريطة مفصّلة للمكان. اقترب الاثنان من حارس بيت أبو جهاد، وطلبت منه «المرأة» أن يشرح لها كيف تصل إلى عنوان ما في المنطقة. اقترب «زوجها» من الحارس وأطلق النار على رأسه من بعد صفر. وكانت تلك علامة للإسرائيليين من أجل الاقتحام.
كانت انتصار الوزير، زوجة أبو جهاد، قد رصدت في مقابلة لملحق «معاريف» قبل عشر سنوات، الدقائق الأخيرة في حياة أبو جهاد: «كان أبو جهاد إلى جانب الطاولة، وفجأة أزاح الطاولة وقام بسرعة وتناول مسدسه من الخزانة. سألته ما الذي حصل، لكنه لم يجبني». وتابعت «سمعت اقتحام باب البيت من الأسفل، وفهمت ما الذي جرى، صرخت على أبو جهاد، لكنه لم يجبني، واتجه نحو باب غرفة النوم، وأنا من ورائه، كل هذا خلال ثوان. رأيت أناساً ملثّمين، لا يظهر منهم سوى عيونهم وشعرهم. دفعني أبو جهاد باتجاه غرفة النوم. فاقترب منه أحد الإسرائيلبين وأطلق النار عليه عن كثب». وتابعت «وقع أبو جهاد فذهبت إليه، احتضنته، عندها وجّه أحد الإسرائيليين السلاح إلى ظهري وأزاحني باتجاه الحائط. كان وجهي باتجاه الحائط وكنت متأكدة من أنه سيطلق الرصاص على ظهري».
وأضافت أم جهاد «من أطلق النار على أبو جهاد وقف جانباً، وجاء رجل ثالث وأطلق النار عليه أيضاً ووقف جانباً، وجاء رابع وفعل أيضاً، لكن أعتقد أن أبو جهاد قتل من إطلاق النار الأول». وتابعت أن الإسرائيليين دخلوا من بعدها إلى غرفة النوم، وأطلقوا النار، «كان ابننا نضال، ابن العامين، في غرفة النوم واستيقظ وبدأ بالبكاء. كنت متأكدة من أنه أصيب بأذى. فقدت كل حواسي وبدأت بالضراخ. سمعت صوت امرأة من الأسفل تقول: تعليه تعليه (اصعد اصعد). وفهمت أنها تتحدث العبرية. ودخل رجل خامس وأطلق النار على أبو جهاد، وصرخت عندها كفى. فاستيقظت ابنتي حنان من نومها وسألت الإسرائيليين من أنتم؟ ماذا يجري هنا؟ فدفعها أحدهم وقال لها اذهبي إلى أمك».
كان الرجل الأول الذي أطلق النار على أبو جهاد جندي في العشرين من عمره. أما الرجل الخامس الذي أكد موته برصاصة فقد كان موشيه يعلون نفسه.
على الرغم من أن الإسرائيليين كانوا يحملون كواتم صوت، إلا أن إطلاق الرصاص أيقظ الحيّ. عندها استطاع الإسرائيليون التضليل واتصلوا بالشرطة المحلية وأبلغوهم بأن منفذي العملية هربوا باتجاه مركز المدينة، فيما هم كانوا متجهين نحو البحر. وترك عملاء الموساد السيارات المستأجرة في تونس وغادروا مع القوة.
فراس خطيب
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد