هل سقط الوزير طه حسين ذات يوم؟!
في إحدى مظاهرات طلبة جامعة القاهرة، وأثناء تولِّيه وزارة المعارف العمومية، ردَّد بعض الطلبة هتافات تقول: «يسقط الوزير الأعمى».. وقد كان هذا الهتاف من أسوأ الهتافات التي استُعملت في أيِّ مظاهرة طلابية، واستنكرها أغلب الشباب في الجامعة، حيث إنَّ الوزير المقصود كان أوّل مَن طالب بمجانية التعليم الجامعي، وجعل التعليم حقاً، مثل حق الحصول على الماء والهواء...
كان الوزير هو الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، الذي لم يفوِّتْ الفرصة لكي يردَّ على تلك الهتافات، فقد قال في حفل تكريم له في الجامعة:
«إلى مَن نادوا بسقوط الوزير الأعمى، أقول.. أحمدُ الله أنه خلقني أعمى، حتى لا أرى وجوهكم»..
واليوم، أشعرُ بمرارة كبيرة، حين أرى أنَّ ثمة مَن يستعمل حدثاً ما، أو شخصاً ما، لا مِن أجل تحقيق هدف نبيل أو غاية جليلة، بل سعياً وراء استهداف شخصي، وحاجات عابرة، وحسابات سريّة، فكيف وأنا اليوم، تلك (المادة) التي استعملها كثيرون بهدف الإساءة إلى الحكومة السورية، وإلى وزير في تلك الحكومة، إنما يمثِّل- كما قلتُ سابقاً وفي أكثر من مرة ومكان- الدولة السورية، على أنَّ الحكومة ليست بمنأى عن النقد، ولكن، حين يكون في مكانه الصحيح، ولأسباب مباشرة، وليس التفافاً ومتسللاً كما حصل..
ليس الأمر كما بدا عليه، حين نريد التحدُّث عن برنامج تلفزيوني كان عنوانه «علامة فارقة» أنتج وسمح فيه ولمقدِّمه- كاتب هذه السطور– بالظهور فيه، قاصداً اجتراح جرأة لم يعهدها التلفزيون السوري من قبل، ولم يعتد عليها المشاهد السوري ولا الإعلاميون السوريون، وأقول، سمح لهذا المشروع أن يرى النور، بموافقة ومباركة من وزير الإعلام السوري، الدكتور محسن بلال، نفسه، وكلُّ ما ورد في البرنامج مما سمِّي «جرأة وتجاوز الخطوط الحمراء»، إنما ورد تحت مظلَّة وزارة تريد أن تقدِّم الجديد، وهو ما عبَّرت عنه صراحة في الحلقة الخاصة بوزير الإعلام الأسبق، عدنان عمران، حين قلنا له: «نريد أن نخبرك بأننا اليوم نتحدَّث بجرأة أكثر مما كان عليه الحل في زمن تولِّيك حقيبة الإعلام».. وهو أيَّد ذلك الكلام وصدَّقه.
والواقع الذي أمامي الآن، أنَّ كلاماً كثيراً قيل وكثيراً من المقالات والأخبار كُتبت، ولكن أمراً واحداً لم يحصل، بل وحرص الجميع على أن لا يحصل، وهو أن يسمع المتابعون صوت من وصفوه بـ «ضحية وزير الإعلام السوري»، ورأي من قالوا إنَّ وزير الإعلام قد (طرده) من العمل في التلفزيون السوري.. وكذا وكذا وكذا.. الخ.
وكان قد طلب مني من قبل أطراف عديدة، أن أتجنَّب الإدلاء بأيِّ تصريح، وأن أبقى على الحياد الأقصى، بعيداً عن الصحافة، وبعيداً عن أصحاب القرار، والواقع أنني فهمت تلك النصيحة- على أن نسمِّيها نصيحة فقط، فهمت، أنَّ هذا الأمر سيخدم الموقف، وسيظهر أننا في سورية لا نتهاتر مع الحقيقة، وأنَّ الأمر لم يكن ذلك، فما تبيَّن فيما بعد، أنَّ مَن طلب مني ألا أتدخَّل، كان يريد أن يبقي الوزير وحيداً أمام نيران مَن يريدون اصطياد الفرصة، وكان يسعده أن يتفرَّج على (ضحية) أمثِّلها أنا ويمثِّلها البرنامج.
فسارت الأمور على النحو الذي أظهر الوزير قاسياً يأمر بإيقاف المشاريع الناجحة، ويقطع رزق فلان وعلان.
وتلك الصورة، هي ما أراده معظم مَن نصح بالصمت، ومَن اكتفى بفرجته، كي يتضخَّم الموقف إلى درجة تدخُّل بعض المغرضين ، وأوصلت الحادث من كونه قراراً بإيقاف مرحلي، ببرنامج، إلى قنبلة إعلامية، وإلى مواجهة غير متكافئة، ما بين وزير سيادي، وإعلامي مسكين، لا حول له ولا قوة!!!! والحق هو أنَّ الوزير ليس على تلك الصورة، لا أنا بالمسكين الذي يطيح منجزه قرارٌ من أحد، ولم أطلب من أحد أن يدافع عني أو عن برنامجي، أو يرفع صوته نيابة عن صوتي.
«علامة فارقة» ليس أول ولا آخر مشروع أحاول صنعه وإنجازه، ولن يكون الأخير، ولن تتوقَّف على إيقاف بثِّه مياه الفرات عن الجريان، ولم يكن يوماً ما هدفنا من العمل في الإعلام السوري- الرسمي أو المستقل- أن ننجز مجرد برنامج.. هل سنقدِّم كلَّ ما لدينا من خلال ساعة تلفزيونية؟.. هل عقمت مخيِّلاتنا عن ابتداع أفكار جديدة؟.. بالتأكيد لا.
وأحمدُ الله وحده، على أنَّ عمر البرنامج كان بذاك القدر- أكثر من عشرين حلقة- كان لها أن تعرض للناس أكبر قدر ممكن من الضيوف السوريين، الذين شرَّفونا بقبولهم الظهور معنا، والحديث بتلك الطريقة، وتحمُّل الكثير من الضغط الذي كان يمارس عليهم من قبلي في البرنامج، عبر الأسئلة التي تتعمَّد الحفر في الآخر، وتختار له من حياته تناقضات تضع القضايا الكبيرة في محكّها الصحيح، بدلا من اعتبارها مجرد شؤون شخصية، أو مفاصل من حياة فرد.
كانت كلُّ الاتصالات التي تلقَّيتها تقول: «لماذا تريد أن تبيِّض صفحة الوزير؟! والحقيقة أنني لا أراها معتمة حتى أقوم بتبييضها، فمن سمح لكلام بتلك الدرجات من الحرية، لا يستحقُّ أن نصف موقفنا منه بتبييض الصفحة! بل إنَّ مقياساً من نوع مختلف يرى أنَّ ما قدَّمه الوزير منذ تولِّيه هذه الحقيبة، ومنذ أن كتبتُ شخصياً أول مقالة تتناوله بعد أدائه القسم، وكانت بعنوان «جرَّاح وزيراً للإعلام السوري المريض» وحتى اللحظة، وكلّ ما مرَّ خلال السنوات الماضية، إنما هو مجموعة من الأحداث؛ بعضها كان مثيراً ومهماً في مسيرة الإعلام السوري، والبعض الآخر كان اصطداماً مع واقع ثابت ربما، ومتغيرات لا تتحرَّك في أحيان أخرى، والخطأ والزلل محسوبان ضمن طبائع النفوس وصفات البشر.
في فنّ الحكم، تختلف الأمور، ويصبح التعاطي مع القضايا المهمة تعاطياً من نوع آخر، يتطلَّب رؤية غير تلك التي نراها ونحن نكابد التجارب الشخصية، أو نتناول الملفات ونحن أفراد، أو حتى مؤسسات صغيرة، وما وقع من أمر الوزير من (علامة فارقة) هو رف مختلف، ولا يشبه أن يقرِّر الوزير نقل فلان، أو إيقاف برنامج أزياء أو حوارات ثقافية، أستطيع تفهُّم الأمر، وأستطيع الانقلاب عليه إلى غيره بسرعة، دون التوقُّف حتى للتحسُّر على ساعة العرض الأسبوعية مساء كل جمعة، فلست بحاجة إلى مَن يقدِّم لي الوصفة ويشرح لي الأسباب.
الواقع الآن، أنني لم أوقف عن العمل، ولم يتعرَّض لي أحد بسؤال، وبدأت بالفعل في بناء مشاريع أكثر تطوراً في التلفزيون الرسمي السوري وخارجه، ولو شئت لتحوَّلت إلى بطل في الإعلام العربي، وبطل حرية التعبير، ومناضل في معركة الرأي والرأي الآخر، ولكنني أعرف أنَّ هذا ليس شرفاً أستحقُّه ولا أرضاً أبني عليها مشروعي، ولذلك عليَّ أن أوضح أنني لا أقبل نعت الضحية، ولا أقبل في المقابل شتم الوزير، ولا تناوله بطريقة تجعل منه دريئة لسهام الكثيرين لطالما لم يكن يشرِّفني أن ينشروا مقالاتي دون إذني- في المواقع الالكترونية المشبوهة.
وثالثاً، هو أنني لا أريد شيئاً، لا من وزير الإعلام ولا من وزارة الإعلام، حتى لا يظنّ أحدٌ أنَّ كلامي هذا لغايات نفعية، فليس مثلي من يطمع بمكاسب صغيرة، إنما قصدت أن أبعد نفسي ومشروعي و»علامة فارقة» عن مرمى ليس معنيَّاً بحرية الرأي، وحرية العباد والبلاد، وموقفي كان ومن قبله موقف المشرف على البرنامج الدكتور ممتاز الشيخ المدير العام لهيئة الإذاعة والتلفزيون، إنما احترام قرار الوزير، والاستجابة له، والانتقال إلى مربع آخر دون استخدام ذلك القرار في الإساءة إلى أحد. هذا المنطق يناقض فلسفة «علامة فارقة» وأهدافه التي كانت تتقصَّد إظهار صورة سورية من خلال سوريين صنعوا تلك العلامات الفارقة، لترى صورة سورية الحقيقية، وليس سورية التي يتمُّ تشويه صورتها واستهدافها كلّ حين، في مشوار الإصلاح الذي تخوضه وتكابد فيه، ونشارك فيه جميعاً دون تردُّد.
وأنا إذا أشكر مَن تعاطف مع «علامة فارقة» ومعي، أشكر أيضاً وزير الإعلام، الدكتور محسن بلال، الذي تحمَّس لدخولي الشاشة السورية ودعم البرنامج وشجَّعه، ودعم الفيلم الذي كان أول مادة أقدِّمها للتلفزيون السوري «مطموراً تحت غبار الآخرين» حتى نال جائزة الإبداع الذهبية للعام 2008، في مهرجان القاهرة للإعلام، ودعم برنامجي الآخر مع الزميلة انتصار يونس «رقعة شطرنج» الذي لم يكن يقلّ جرأة عن «علامة فارقة» ويذكر الجميع، حلقة السابع من نيسان الفائت، وكان ضيفانا الدكتور هيثم سطايحي والدكتور محمد الحسين عضوا القيادة القطرية لحزب البعث، وكانت أقل الأسئلة (لماذا تأخَّرتم في إصدار قانون للأحزاب؟) وقد تجاوب الرجلان وشجَّعا هذا النوع من التعاطي المرن مع القضايا الحساسة.
أرغب الآن بطيِّ هذه الصفحة، وعدم استعمالي أو استعمال شغلي للنيل من أحد بطرق لم أستعملها، شخصياً، في عملي حتى الآن ولم أكن راضياً عنها من قبل.
إبراهيم الجبين
المصدر: بلدنا
إضافة تعليق جديد