هندسة الانقلاب التركي المحتمل
الجمل: تعود الناس على أسلوب الانقلاب العسكري كوسيلة لتغيير الأنظمة في بلدان العالم الثالث، وتعود الخبراء السياسيون على التداول والتعامل مع مصطلحات مثل "انقلاب قصر"، "انقلاب عسكري"، "انقلاب سياسي"... وما شابه ذلك. ولكن ما هو جديد ومحتمل القدوم حالياً، يتمثل في مصطلح "الانقلاب القضائي" بواسطة المحاكم كوسيلة لتغيير الأنظمة والإطاحة بالحكومات.
* مفهوم "الانقلاب القضائي": الطبيعة والخصوصية:
تتضمن الدساتير والهياكل المؤسسية الدستورية في الأنظمة السياسية القائمة على أساس النظام التعددي الليبرالي الغربي، على آليات ووسائط تداول السلطة، لجهة التأكيد على:
• النظام الانتخابي البرلماني القائم على التعددية الحزبية.
• النظام الانتخابي الرئاسي القائم على انفتاح المنافسة.
ولكن خصوصية النظام السياسي التركي تتمثل في وجود طابع استثنائي دستوري، وذلك عندما قام الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك بإدراج المفاهيم الآتية ضمن بنود الدستور التركي:
• إن العلمانية هي أساس الدولة والحكم في تركيا.
• إن الجيش التركي هو حامي تركيا وحامي العلمانية التركية.
• للمحكمة الدستورية العليا القول الفصل في طرح الرأي النافذ الذي يحدد مدى الالتزام بالدستور العلماني.
وعلى هذه الخلفية فقد أدت بنود الدستور الكمالي إلى تغيير طريقة توازن القوى التركي الداخلي وجعله يأخذ طابعاً استثنائياً عن طريقة توازن القوى المتبعة والسائدة في الأنظمة الليبرالية الغربية. بكلمات أخرى، لم يعد القول الفصل للشعب التركي في اختيار المذهبية السياسية التي يريدها، حيث توجد أطراف أخرى تتمتع بالقوة الدستورية بما يمكنها من القيام بالتعددية وإعادة توجيه المسار السياسي رغماً عن أنف الرأي العام التركي، فالمحكمة الدستورية العليا هي التي تفسر إذا كانت إرادة الأغلبية وخياراتها تتماشى مع بنود الدستور التركي و"المؤسسة العسكرية" جاهزة للقيام بقمع من يخرج على هذه البنود حتى لو كان الأغلبية الشعبية.
* هندسة الانقلاب التركي المحتمل:
تتفاعل معطيات وتداعيات الوقائع والأحداث التركية ضمن خارطة جيو-سياسية شديدة التعقيد، لجهة تقاطع ثلاث بيئات ضمنها:
• البيئة السياسية الداخلية: وتتكون من مجموعة فواعل داخلية منها حزب العدالة والتنمية الإسلامي والأحزاب القومية التركية، والتيارات والقوى السياسية الإثنو-ثقافية الكردية والأرمنية وغيرها.
• البيئة السياسية الإقليمية: وتتضمن مجموعة الدوائر المضطربة والمناطق الساخنة، فهناك مناطق شرق المتوسط، البلقان، البحر الأسود، القفقاس، القوقاز، آسيا الوسطى، الشرق الأدنى، بحر قزوين، الخليج العربي.. وهي جميعاً تغذى بتداعياتها البنية السياسية الداخلية التركية.
• البيئة السياسية الدولية: ترتبط تركيا بسلسلة من التحالفات وتنخرط في العديد من التكتلات العسكرية والأمنية والدولية، ومن أبرزها حلف الناتو والعلاقات الثنائية التركية – الأمريكية، التركية – الإسرائيلية، إضافة إلى علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي. وقد ترتب على هذه الروابط تورط تركيا في الكثير من الالتزامات التي أثرت كثيراً على مكانتها ووزنها الإقليمي وقدرتها على الإيفاء بمتطلباتها الذاتية الداخلية.
تقاطع هذه البيئات الثلاثة، ترتب عليه بروز وصعود ظاهرة التحدي والاستجابة في الساحة السياسية التركية. وعلى خلفية "تحدي" التبعية التركية لأمريكا والغرب جاءت "الاستجابة" من جانب الشعب التركي بدعم حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي باعتباره الوسيلة السياسية القادرة على تخليص تركيا من براثن التبعية للغرب والقضاء على شبح علاقات تركيا الثنائية غير المتوازنة مع أمريكا وإسرائيل، إضافة إلى القيام بإعادة إدماج تركيا ضمن بيئتها الشرق أوسطية.
ولاحقاً، أدى هذا الخيار إلى نشوء عملية تحدي واستجابة بشكل معكوس، فقد شكل خيار الشعب التركي لحزب العدالة والتنمية "تحدياً" للقوى العلمانية والغربية التي لجأت إلى "الاستجابة" عن طريق مجموعة من الوسائل المعلنة وغير المعلنة ومن أبرزها:
• عرقلة انتخاب عبد الله غول رئيساً للجمهورية عدة مرات داخل البرلمان التركي.
• محاولات بث الخلافات بين الحكومة والمؤسسة العسكرية باستخدام تداعيات ملف إقليم كردستان العراق.
وحالياً، جاءت محاولة استخدام المحكمة الدستورية العليا على النحو الذي يترتب عليه إصدار حكم بإدانته وحظر قيادته، وعند صدور القرار تكون الحكومة التركية الحالية أمام خيارين أحلاهما مر:
• الاستقالة والدعوة لانتخابات مبكرة.
• عدم الاستقالة ومواجهة الجيش التركي.
كذلك، يكون حزب العدالة والتنمية أمام خيارين أحلاهما مر:
• حل نفسه كأمر واقع والتحايل لإقامة حزب جديد على غرار قيامه هو نفسه كامتداد لحزب الرفاه الإسلامي الذي سبق وواجه سيناريو الحل ذاته.
• اللجوء إلى المقاومة واستخدام القاعدة الشعبية الواسعة بما يؤدي إلى المواجهة مع الجيش في الشارع.
حتى الآن، كما تقول المعلومات والتسريبات الواردة من أنقرة، ما يزال حزب العدالة والتنمية، وقيادته، في حالة استعداد لمواجهة إجراءات المحكمة الدستورية العليا وتقديم الحجج الدفاعية التي تدرأ عن الحزب شبهة تقويض العلمانية.
ولكن، ما كان جديراً بالملاحظة ويبعث على الخوف بين صفوف حزب العدالة والتنمية يتمثل في أن المحكمة الدستورية قد وافقت على عريضة الاتهام بالإجماع. بكلمات أخرى، فقد أيد الأحد عشر قاضياً الذين يمثلون المحكمة عريضة الاتهام في مرحلة الاستماع الأولي، وكان الخلاف فقط حول حظر الحزب، فقد جاء القرار بنسبة 4 إلى 7. وبرغم التطورات الأخيرة في مسار العريضة، فإن بعض الأطراف المساندة لمسيرة حزب العدالة والتنمية ما تزال متفائلة باحتمالات أن يصدر الحكم النهائي لصالح الحزب، ويرى هؤلاء المتفائلون:
• أن قبول المحكمة الدستورية لعريضة الاتهام معناه أنها وافقت على قبول الاتهامات، وسوف تطالب المدعي العام بتقديم الأدلة والبينات التي تؤكد اتهاماته، ولما كان من الصعب على المدى العام تقديم هذه الأدلة، فإن المحكمة بالضرورة ستحكم ببراءة الحزب.
• يتوجب على المحكمة الدستورية تقديم التفسيرات الدستورية للمقصود بـ"معاداة العلمانية"، وهو أمر غير متاح للمحكمة الدستورية في الوقت الحالي لأن كل من أنشطة وتحركات الحكومة التركية الحالية قد تمت وفقاً لبنود الدستور التركي العلماني، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أن قرار السماح بارتداء الحجاب في الجامعات قد تم وفقاً للإجراءات البرلمانية الدستورية.
• إذا تمت إدانة حزب العدالة والتنمية، فإن هناك أحزاباً ؟أخرى موجودة في البرلمان التركي ستتعرض لنفس المصير بسبب وقوفها إلى جانب حزب العدالة في تمرير قرار الموافقة على ارتداء الحجاب.
تقول معطيات خبرة الصراع بين العلمانية والدين، بأنه خلال الفترة من عام 1963م حتى الآن، تم حل 24 حزباً سياسياً بعد إدانتها بالعمل من أجل تقويض العلمانية، كذلك تقول التسريبات التي أوردتها صحيفة «زمان اليوم» التركية، بأن الأحزاب التركية العلمانية والقومية الكمالية المعارضة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، بدأت منذ الأمس المباشرة في تهيئة نفسها لخوض جولة الانتخابات البرلمانية المبكرة، والتي يتوقع زعماء هذه الأحزاب إجراءها على خلفية صدور قرار المحكمة بإدانة حزب العدالة والتنمية وحل حكومته، وتشير التسريبات أيضاً إلى أن زعماء هذه الأحزاب ينظرون إلى قرار المحكمة باعتباره أكيداً، وبات وشيكاً.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد