"ههنا أعظم من الهيكل" موقف إنجيلي تفسيري

16-02-2010

"ههنا أعظم من الهيكل" موقف إنجيلي تفسيري

"ههنا اعظم من الهيكل" عبارة نطق بها المسيح عندما انتقد الفريسيون تلامذته لانهم قطفوا بعض القمح من السنابل وأكلوها يوم السبت. وهذه العبارة لها مدلول عميق في نظرة المسيح ونظرة العهد الجديد الى الهيكل.
ولكي نفهم موضوع الهيكل وأهميته بالنسبة الى الشعب اليهودي، لا بد لنا من العودة الى جزء العهد القديم من الكتاب المقدس، لنتوقف عند بعض المحطات المهمة التي تلقي الضوء على الموضوع.
فجزء العهد القديم من الكتاب المقدس، يعطي مكانة مهمة للهيكل، كونه كان مركز حياة وعبادة الشعب اليهودي. فبعدما خرج الشعب العبري من عبودية المصريين وساروا في البرية 40 سنة طلب الله من النبي موسى ان يبني خيمة ليلتقي فيها مع الشعب، فبنى موسى "خيمة الاجتماع"، وهكذا حضر الله مع الشعب في البرية بواسطة خيمة الاجتماع المؤقتة، التي كانوا ينقلونها معهم من مكان الى آخر، وبالتالي فالخيمة المتنقلة والمؤقتة اشارة الى حضور الله المؤقت مع شعبه. هذا في المرحلة الاولى، اما في المرحلة الثانية فانه في القرن العاشر قبل الميلاد، طلب الله من النبي داود ان يبني هيكلا له (كما يدون كاتب سفر الخروج 8:25) "فيصنعون لي مقدسا لأسكن في وسطهم". وقد اوصى الله النبي داود بكل تفاصيل ومقاييس ومحتويات الهيكل. الا ان النبي داود لم يستطع بناء الهيكل، فبناه ابنه الملك سليمان. وقد استغرق بناؤه سبع سنوات ونصف السنة واستخدم ثلاثون الف عامل لبنائه. وهكذا صار الشعب يعبد الله بفرح في الهيكل. يعبر المرنم عن فرحه في عبادة الله في الهيكل فيقول في (مزمور 4:27) "واحدة سألت من الرب واياها التمس، ان اسكن في بيت الرب كل ايام حياتي، لكي انظر الى جمال الرب واتفرس في هكيله". الا ان الهيكل دمّر مرتين، الاولى، دمره البابليون في العام 586 ق.م.، فأعيد بناؤه (ولكن في شكل اصغر من الهيكل السابق) على زمن الفرس العام 515 ق.م.، حيث قاد النبي عزرا والنبي نحميا ورشة اعادة بناء الهيكل. الا انه عاد ودمره الرومان العام 70 م. وقد تنبأ عن دماره يسوع المسيح كما ورد في انجيل متى (24: 1 – 2) اذ عندما اخذه تلاميذه ليروه ابنية الهيكل قال لهم "اما تنظرون جميع هذه، الحق اقول لكم انه لا يترك حجر على حجر  لا ينقض". ومنذ ذلك الوقت، اي منذ 20 قرنا واليهود المتدينون يرددون في صلواتهم ثلاث مرات يوميا، قائلين "لتكن مشيتك ان يعاد بناء الهيكل سريعا في ايامنا".
الا ان السؤال الاساسي الذي يطرح، مع الاقرار بالاهمية الكبيرة التي حظي بها الهيكل في العهد القديم، هل بقي للهيكل هذه الاهمية في العهد الجديد؟
مما لا شك فيه انه، اذا ما تتبعنا نبؤات بعض انبياء العهد القديم، فاننا نلاحظ انها تتحدث عن "هيكل الايام الاخيرة مفتوحا لعبادة الله يستقبل شعوبا كثيرة يعبدون الله فيه. وفي السياق نذكر نبؤة النبي اشعياء (2: 2 – 4) والنبي ميخا (4: 1 – 8) اللذين عاشا في القرن الثامن قبل الميلاد. فقد ردد الاثنان النبؤة نفسها قائلين "وتسير شعوب كثيرة ويقولون هلم نصعد الى جبل الرب الى بيت اله يعقوب (الهيكل) فيعلمنا من طرقه" الا ان هذين النبيين نفسهما، وفي الوقت الذي كان هيكل سليمان لا يزال قائما، حذرا الشعب انه اذا ما تركوا الله وعبدوا الاوثان وظلموا الناس، فانهم يخسرون مدينتهم وهيكلهم، الامر الذي تحقق عند الخراب الاول لهيكل سليمان في العام 586 ق.م.
اما النبي الذي خصص مساحة كبيرة في سفره لموضوع بناء الهيكل فهو النبي حزقيال، الذي كان كاهنا في الهيكل. فهذا النبي بدأ خدماته في القرن السادس قبل الميلاد، ويظن قبل 7 سنوات من الدمار الثاني للهيكل من قبل البابليين في العام 586. وعاش مرحلة دمار الهيكل، وعلم في الجزء الاول من سفره، بان الله سمح بتدمير الهيكل ومدينة اورشليم القدس بسبب تركهم الله وشريعته وعبادة الاوثان وعدم اجراء الحق والعدل.
الا انه في الجزء الاخير من سفره، في ثمانية اصحاحات (40 – 48) تنبأ باعادة بناء الهيكل والمدينة المقدسة، ولكن على اساس شرطي مبني على تغيير جذري في حياة الشعب بالتوبة والعودة الى الله. وقد اعتبر النبي حزقيال مهندس الهيكل الجديد، اذ يذكر تفاصيل هندسية دقيقة عن الهيكل الجديد، وتقديم الذبائح وادخال كهنوت جديد. وبالتالي، بعد هذه الجولة في نبوءات العهد القديم عن اعادة بناء الهيكل، السؤال الاساسي الذي نطرحه هو كيف نفسّر هذه النبوءات؟ هل نفسرها في شكل حرفي متجاهلين نظرة لاهوت العهد الجديد الى هذه النبوءات؟
يورد البشير متى في الاصحاح (12: 1 – 8) من انجيله حادثة تقلل من شأن الهيكل وترفع من شأن يسوع. ففي يوم من الايام، جاع بعض تلامذة المسيح، وبينما كانوا يمشون بين الزروع قطفوا بعض سنابل القمح واكلوها ليسدوا جوعهم، وقد انزعج الفريسيون من التلامذة لانهم قاموا بذلك في يوم سبت، مدعين بأنهم دنسوا السبت. لكن المسيح ذكّرهم بحادثة مماثلة في (1 سموئيل 12: 1 – 6) حيث ان النبي داود، وهو من اعظم انبياء العهد القديم، عندما جاع هو والذين معه دخل الهيكل واكل خبز التقدمة، الامر الذي لم يكن مسموحاً به وفق شريعتهم، لكن بالرغم من ذلك، سمح النبي داود لنفسه بأن يأكل من خبز الهيكل. وبعدما انتهى المسيح من سرد القصة قال للفريسيين "اقول لكم ان ههنا اعظم من الهيكل، فلو علمتم ما هو اني اريد رحمة لا ذبيحة". فيسوع المسيح هو ابن الله العلي، (كما اعلن الملاك جبرائيل لمريم العذراء عندما بشّرها بولادة المسيح (لوقا 1: 30)، هو اعظم من النبي داود، واعظم من الهيكل، وله السلطان الكامل ان يسمح لتلامذته بأن يأكلوا من سنابل الحقل يوم السبت، خلافاً لتفكيرهم. والرحمة والرأفة هما ايضاً اعظم من الهيكل، الرحمة بآلام الناس وبجروح الناس وبحاجات هي اعظم من تقديم الذبائح الحيوانية التي انتهت في المسيح، الذي قدّم نفسه ذبيحة عن الانسان بموته على الصليب وقيامته من بين الاموات، كيما يقدم الانسان المؤمن حياته ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله (رومية 12: 1). اما البشير يوحنا (2: 12 – 22) فهو يورد حادثة طرد المسيح للصيارفة وباعة الحمام، لانهم دنسوا الهيكل بسوء استخدامه كمركزتجاري ومالي للبيع والشراء. وقد استاء رؤساء الكهنة والكتبة كثيرا من موقف يسوع، فقالوا له "أية آية ترينا حتى تفعل هذا؟ فأجاب يسوع "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة ايام اقيمه". لكن بالرغم من انه، لا اليهود، ولا التلاميذ، فهموا ما قاله المسيح، اذ ظنوا انه يتكلم على الهيكل الحجري، الا ان البشير يوحنا يوضح قول المسيح فيقول: "واما هو فكان يقول عن هيكل جسده"، اي عن موته وقيامته في اليوم الثالث. وبالتالي، نفهم من تفسير القديس يوحنا ان المسيح بموته وقيامته قد اضحى هيكل الله الجديد، الذي لا يدمر، بينما الهيكل الحجري قد دمر مرتين. وبالتالي ما رمز اليه هيكل سليمان الماضي القديم، كونه العلامة المرئية لسكن الله مع شعبه، قد تحقق بيسوع المسيح. يخبرنا القديس متى في الاصحاح الاول، انه عندما اعلم ملاك الرب، يوسف خطيب مريم العذراء بانها حبلى بالروح القدس، وعليه الا يقلق، فقد قال له الملاك، ان الاسم الآخر ليسوع هو "عمانوئيل" الذي تفسيره الله معنا (متى 1:23) وبالتالي فمجيء المسيح في الميلاد هو للاعلان ان هيكل سليمان قد انتهى في كل معانيه القديمة، ولا سيما في اشارته القديمة لحضور الله مع الانسان، لان حضور الله الجديد مع شعب العهد الجديد هو بيسوع المسيح "بعمانوئيل" الذي تفسيره الله معنا.
يورد لنا القديس لوقا، كاتب سفر اعمال الرسل، الكلمات الاخيرة لاستفانوس، الشهيد الاول للمسيحية ففي اللحظات الاخيرة من استشهاده في سبيل ايمانه بالمسيح. فهو ابطل الفكرة القديمة ان هيكل سليمان هو لسكن الله مع الشعب، اذ قال استفانوس "ولكن سليمان بنى له بيتا، لكن العلي لا يسكن في هياكل مصنوعه بالايادي، كما يقول النبي، السماء كرسي لي، والارض موطئ لقدمي، اي بيت تبنون لي يقول الرب، واين هو مكان راحتي. اليست يدي صنعت هذه الاشياء كلها" (7:47 – 50). وبعد ان صعد المسيح الى السماء ارسل الروح القدس الذي اسس الكنيسة في يوم العنصرة، صارت الكنيسة، جماعة الايمان، هي هيكل الله الجديد والحي، وليس هيكل سليمان الحجري والجامد. هذا ما اكده الرسول بولس في رسالته الثانية الى اهل كورنثوس (6:16) اذ شبه أعضاء الكنيسة، بأنهم هيكل الله قائلا لهم: فانكم انتم هيكل الله الحي كما قال الله، اني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبا، كما ان القديس بطرس شبه الافراد المؤمنين بالمسيح، بالحجارة الحية بالبيت الروحي، اذ قال لهم في رسالته الاولى "كونوا انتم ايضا مبنيين كحجارة حية بيتا روحيا لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح" (5:2).
بعد اطلاعنا على المفهوم الجديد للهيكل، حان الوقت لنجيب عن السؤال الاساسي: كيف نفسر نبوءات العهد القديم عن اعادة بناء الهيكل؟ هل نستطيع ان نفسر هذه النبوءات في شكل حرفي متجاهلين مفهوم العهد الجديد للهيكل؟
وسؤالي هذا، هو ليس للتقليل من شأن أسفار كتاب العهد القديم، فتلك الاسفار كانت الكتاب المقدس الوحيد للكنيسة الاولى في القرن الاول، كما يطلعنا سفر أعمال الرسل سجل الكنيسة الاولى، قبل كتابة أسفار العهد الجديد. كما اني لا أقلل من وحيها وسلطتها في الكنيسة، وحياة جماعة الايمان. لكن أدعو الى عدم فرض تفسير حرفي لنبوءات العهد القديم على مفهوم العهد الجديد. وبالتالي يجب علينا ان نتعامل مع نبوءات العهد القديم عن الهيكل من منظار العهد الجديد. ايضا، لا أقصد ان أقول ان نبوءات العهد القديم تتناقض مع ما ورد في كتاب العهد الجديد، لكني أؤمن ايمانا راسخا بأن التوجه العام للاهوت العهد الجديد هو المقياس الصحيح الذي يوضح ويفسر نبوءات العهد القديم. وقد اعتمد هذا المقياس القديس اوغسطينوس منذ القرن الرابع عندما قال "العهد الجديد مخبأ في العهد القديم والعهد القديم معلن في العهد الجديد". وبالتالي نحن مدعوون لتفسير نبوءات العهد القديم عن اعادة بناء الهيكل، ليس في شكل حرفي ولكن بشكل روحي ورمزي ومجازي. فنحن نؤمن بأن المضمون الاساسي لنبوءات العهد القديم، أشار الى المسيح الذي أتى الى عالمنا في الميلاد، والتالي قد تحققت، بل تكمّلت روحيا في شخص يسوع المسيح، ففي عظته على الجبل (متى 5:17) علم المسيح قائلا "لا تظنوا اني جئت لانقض الناموس أو الانبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل" وعلى الصليب قبل ان يسلم الروح، فالعبارة الاخيرة التي قالها يسوع كانت "قد أكمل" (يوحنا 19:40). لقد تحققت تلك النبوءات في تعاليمه وموته وقيامته وصعوده الى السماء، ومن ثم تحققت في تعليم رسل الكنيسة الاولى (بولس وبطرس) بعد حلول الروح القدس، حيث اصبحت الكنيسة هيكل الله الجديد الحي. في تعليقه على نبوءة النبي حزقيال (40-48) عن اعادة بناء الهيكل الجديد، او النبوءات الاخرى في هذا الشلأن يقول اللاهوتي الهولندي الانجيلي Herman Bavink في كتابه The Last Thnigs" "الامور الاخيرة" الذي صدر العام 1996 ان الهيكل الهديد الذي رآه النبي حزقيال منذ حوالى 2500 سنة ق.م. انما يرمز في شكل روحي ومجازي الى الجسد الروحي لكنيسة المسيح في العهد الجديد.

 

القس سهيل سعود 

المصدر: القدس العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...