هيثم حقي يتحدث عن الإنتاج التلفزيوني العربي المشترك
الجمل: كلما تحدثنا عن أي شيء عربي مشترك تغلب علينا النزعة العاطفية ونبدو وكأننا نستعيد أمجاد الحماسة القومية التي يعتبرها من يسمون اليوم بالواقعيين ضرباً من الخيال . بالطبع لن ندخل هنا في جدل سفسطائي حول واقع العمل العربي المشترك ، خاصة في الحالة المأساوية التي نجد أنفسناعليها اليوم ، ولن نندب مع النادبين وننعي الأمة ونعلن موتها . نحن هنا لنجد وسائل عملية للتعاون العربي في مجال الإنتاج التلفزيوني تحقق مصلحة كل طرف من أطراف هذا التعاون .
فماهي ضرورة هذا التعاون ؟
في نهاية السبعينات والنصف الأول من الثمانينات كان لي شرف المشاركة في واحدة من أنجح تجارب العمل العربي المشترك في مجال الإنتاج التلفزيوني البرامجي ، ألا وهي الأعمال التي أنتجتها مؤسسة الخليج للإنتاج البرامجي المشترك بينها إفتح ياسمسم وسلامتك وحياتنا والمرايا وغيرها الكثير . وكان سبب إنشاء هذه المؤسسة الضخمة هو إيجاد تمويل لأعمال لايستطيع تلفزيون واحد أن يمولها ، وتحتاج إلى مستوى فني عالي ، وهناك ضرورة لوجودها على الشاشات العربية .
من منطلق هذه التجربة تبرز العناصر الأساسية للعمل التلفزيوني العربي المشترك :
أولاً : إيجاد تمويل لأعمال لا تستطيع محطة واحدة أن تمولها . وأقصد هنا المشاريع ذات الطبيعة الثقافية ، أو التي تكون لها أهداف استراتيجية كبرامج وأفلام ومسلسلات الأطفال المكلفة . الأفلام السينمائية التي توفر عند المساهمة في إنتاجها حقاً للمحطة في استثمارها . الروايات العربية الهامة وتقديمها بطريقة أروع القصص التي تقدم في العالم بشكل فني متميز . باختصار الأعمال التي تجد شركة أو محطة نفسها عاجزة عن تنفيذها منفردة بسبب الكلفة العالية والريعية المنخفضة . والحقيقة أن العديد من المحطات والشركات المنتجة تنتج أعمالاً من هذا النوع إما منفردة أو بالتعاون فيما بينها ، لكنها في الغالب تقف عند سقف معين ، يجعلها غالباً أقل من مستوى المنافسة العالمية المطلوبة للإنتاج العربي .
ثانياً : الحاجة إلى تقديم مستوى فني عالي ، وهي حاجة تقرها كل المحطات وخاصة في ظل التنافس مع المحطات العالمية التي تبث فوق رؤوسنا ليل نهار . وهي حاجة ملحة أيضاً من أجل فتح أسواق لإنتاجنا الذي سيبقى حبيس الدائرة العربية الضيقة ، إذا بقي على مستواه الحالي . وفي ظل نظام لشراء المواد بأسعار تفرضها المحطات تتراوح بين 10 آلاف دولار وال60 ألف دولار للحلقة كحد أعلى . وهو أمر مضحك بالقياس إلى كلف الإنتاج في العالم . ورغم كل الظروف السيئة لإنتاجنا العربي فإننا قدمنا نماذج كان من الممكن أن نطورها وندفع بها إلى الأمام لو أتيح لها التمويل . فعلى سبيل المثال أستطيع أن أقول من تجربتي الشخصية أن مسلسلاً مثل (خان الحرير) استطاع أن يفتح لنا أسواقاً خارج المنطقة العربية حيث عرض في عدة دول مع ترجمة مكتوبة وتم دوبلاجه إلى الفارسية مثلاً . كذلك حصل مسلسل (الاجتياح) على جائزة إيمي لأفضل مسلسل أجنبي وهي واحدة من أهم جوائز التلفزيون في العالم . ولو أننا عملنا على تقديم أعمال بسوية أعلى ، مما يعني تكلفة أكثر ، لكان السوق أكبر . لكن لن يغامر أي مستثمر في هذا المجال طالما أن السوق الأساسية ، أي السوق العربية لديها سقف لا يمكن تجاوزه .
ثالثاً : حاجة الشاشات العربية لوجود هذه النوعية ذات السوية العالية ، وهو أمر واضح في ظل التنافس القائم على جذب المتفرج . لكن قيام محطة واحدة بهذا الإنتاج يرهق ميزانية المحطة ويجعلها تفضل شراء المتوفر على الإنتاج . لكن الطريقة المثلى الأخرى هي المشاركة في الإنتاج ، ونحن في سورية لدينا مجموعة كبيرة من التجارب الناجحة في هذا المجال كتعاوننا مع تلفزيون قطر مثلاً في (عز الدين القسام) بداية الثمانينات ، ومسلسلات علاء كوكش مع مؤسسة الخليج في دبي ، كذلك أعمال داوود شيخاني مع ليبيا ، ومن ثم التعاون الذي أثمر عن النهضة الحديثة للدراما السورية مع دبي في مسلسلي (هجرة القلوب إلى القلوب) و(أبو كامل) . واليوم في سورية تنتج مسلسلات كثيرة بالتعاون مع المحطات أو بالتمويل الكامل من قبلها كما في تجربة شركة الشام مع ART وتجربتي مع أوربت وتجربة نجدت أنزور ثم حاتم علي وشركة عاج مع دبي وتجربة سلوم حداد مع تلفزيون أبو ظبي ، وأخيراً تجربة بسام الملا وشركة ساما مع MBC . والتجارب الجديدة لقطاع الإنتاج المصري مع عدد من الشركات السورية والعربية المختلفة .
وهذا كله جيد لكنه أقل من الطموح . فقد حقق لنا هذا التعاون الكثير من الإٌيجابيات وأهمها الإفلات من قبضة الرقابات الأكثر تشدداً ، وزيادة الإمكانيات الإنتاجية إلى أقصى مدى تتحمله الأعمال التلفزيونية العربية . لكن ما أتحدث عنه وأعتبره طموحاً مشروعاً للعمل التلفزيوني العربي هو المستوى الفني الذي يطلق عليه في العالم ال Best-Seller . فإن طموحنا الذي صنعنا فيه الرواية التلفزيونية في سورية ومصر بشكل رئيسي كان أن نقدم هذا النوع للمتفرج العربي . معتمدين على واقعنا وعلى أدبنا الثري وروائيينا المتميزين . لكن رغم النجاحات التي حققناها يجب أن لا نتوقف عن طلب الأفضل . والأفضل هنا هو ما تحتاجه الشاشات العربية والذي تستطيع أن تقوم به مجتمعة . وهذا أمر ليس بالجديد فباستطاعة أي منا أن يقرأ على أي عمل متميز أكان فيلماً أو مسلسلاً أسماء الجهات المنتجة ليجد أن محطات تلفزيونية كثيرة تشارك في إنتاجه . فمنذ بداية الثمانينات أنتج التعاون بين مجموعة كبيرة من التلفزيونات من الشرق والغرب وبأنظمة سياسية متعارضة ( هنغاريا الاشتراكية حينها مع محطات غربية ) واحداً من أجمل مسلسلات التلفزيون وهو (فاغنر ) الذي مثله ريتشارد بورتون. وهذا المسلسل برأيي هوالأكثر سينمائية بين مسلسلات التلفزيون في العالم بسبب الصورة المدهشة لستورارو أشهر مصوري العالم .
كذلك فإنك تكاد لا تجد فيلماً سينمائياً مهماً خارج هوليود إلا وكانت هناك عدة محطات مشاركة في إنتاجه . بل إن الأمر أحياناً يبدو مثيراً للسخرية فعلاً فأفضل إنتاجات السينما العربية في الآونة الأخيرة ساهمت فيها محطات تلفزيونية عالمية وخاصة المحطتان الشهيرتان ARTE و CANAL+ . فرائعة الراحل فقيد مصر والسينما العربية رضوان الكاشف ( عرق البلح ) تم تمويلها بتعاون كهذا وفيلم ( يد إلهية ) للفلسطيني ايليا سليمان الحائز على جائزة لجنة تحكيم مهرجان كان وفيلمه الجديد (الزمن المتبقي) ممولان فرنسياً وبتعاون مماثل . كذلك فإن فيلم أسامة محمد الجميل (صندوق الدنيا ) الحائز على جائزة معهد العالم العربي سار في الطريق نفسه ، كذلك فيلم المبدع المصري يسري نصر الله عن رواية الياس خوري (باب الشمس ) نفذ بتعاون مماثل. فهل سينطلق الإبداع العربي إلى العالم بتمويل محطات التلفزيون الغربية ؟! ولم لاتقوم محطاتنا وشركاتنا المنتجة ، وهي أحـوج ما تكون لتقديم سوية من هذا النوع ، بالتعاون لسد حاجة ملحة لديها ؟!
صحيح أن بعض المحطات العربية التي تعرض أفلاماً بدأت في الآونة الأخيرة تساهم في إنتاج بعض الأفلام مقابل حق عرضها التلفزيوني الحصري ، كما أننا بدأنا مؤخراً في شركة ريل فيلمز التابعة لشبكة أوربت بإنتاج أفلام في سورية ومصر حازت تقديراً عالميا وعربيا عاليا . لكن مازال أمامنا الكثير لنصل إلى ما نطمح إليه . وكنت دائماً أقول : نحن نتأخر دائماً عن العالم في اللحاق بالركب ، لكن المثل الروسي يقول : (الأفضل أن تصل متأخراً من أن لا تصل أبداً ).
هيثم حقي
(نص الكلمة التي ألقيت صباح اليوم في ملتقى الدراما السورية الأول، في فندق ديدمان- دمشق)
إضافة تعليق جديد