..و مـا زال مـأزق القبلـة فـي الدرامـا العربيـة مستمـراً!
لندع صناع الدراما يستفيضوا في الكلام عن أن الدراما صورة طبق الأصل عن الواقع بكل تفاصيله المرّة منها والسعيدة، وانها تصميم متقن للحياة الإنسانية التي نعيشها. ذلك أننا عندما نصل عند جزئية القبلة والعناق بين رجل ومرأة نجد تعديلاً في الرؤية السابقة. ويقع الافتراق بين من يعتبر القبلة جزءاً من حالة درامية واقعية يسعى العمل الدرامي لالتقاطها، وبين من يتحفظ على وجودها ويرفضها بحجة دخول هذه الدراما كل بيوت مجتمعنا الشرقي المحافظ. والنتيجة؟ تبنّي مجموعة من الحلول الدرامية التي تراكمت نتيجة نحو أكثر من نصف قرن من عمر الدراما العربية السينمائية والتلفزيونية. بين الحلول ما هو نافر، أثار حفيظة المشاهد العربي ووُضع ضمن إطار «الجرأة الزائدة»، ومنها ما كان يثير الضحك لسذاجته كأن نشاهد أختاً تمد يدها للسلام على أخيها المفقود منذ عشرين عاماً. وما بين هذا وذاك تبدو القبلة في مأزق: كيف نضمن ألا يبدو المشهد ساذجاً من دونها وكيف لا يثير حفيظة المتفرجين في الوقت ذاته؟!
تصور عشرات المسلسلات مشاهدها الأخيرة خلال الفترة المقبلة التي تسبق شهر رمضان، وكلها اختارت «الحذر» طريقاً. وربما قد يكون العرض الرمضاني سبباً أساسياً في حرص المنتجين على استبعاد أية مشاهد يمكن ان تثير ضجة حولها. وللمفارقة، انه حتى بعيداً عن الدراما، لم يتقبل بعض الجمهور العربي مجرد رؤية قبلة عفوية بين رجل وزوجته على الهواء، فقامت الدنيا ولم تقعد مثلاً بعدما قبّلت أصالة زوجها طارق العريان في أحد البرامج التلفزيونية وفي إطار حواري. ردة الفعل كانت نموذجاً معاكساً لواقع الحال في وقت مبكر نسبياً من عمر السينما المصرية، وبالضبط في فترة إنتاج كلاسيكياتها، إذ غالباً ما كنا نجد نجمات مثل فاتن حمامة وشادية وسعاد حسني وهند رستم ونجلاء فتحي وغيرهن يتبادلن القبلات الحارة مع نجوم السينما كنور الشريف ومحمود ياسين وحسين فهمي وحسن يوسف وسليم صبري ورشدي أباظة وعمر الشريف وسواهم في مواقف رومانسية جميلة، وغالباً كانت القبلة بين بطلي الفيلم تشكل مشهد النهاية السعيدة لتلك الأفلام. لم تكن القبلة حينها لتثير اللغط الذي تثيره اليوم أفلام إيناس الدغيدي والراحل يوسف شاهين وخالد يوسف وغيرهم، لغط وصل إلى حد نشوء تيار سينمائي معارض يحمل لواء ما سمي بـ«السينما النظيفة».
هذا الواقع لا ينفي انه في مقابل جرأة القبلة في السينما المصرية وجدلها، تبدو الدراما التلفزيونية المصرية، بين مثيلاتها السورية واللبنانية، الأكثر خجلاً وتحفظاً لجهة حضور القبلة، وصل إلى حد تبني حلول ساذجة لمشاهد تتطلب تبادل قبلات في المشهد الدرامي، والأمثلة كثيرة يكاد لا يخلو منها أي مسلسل. واللافت أيضاً أن جدار التحفظ هذا كان أقوى من أن تكسره نجمات السينما، اللواتي اشتهرن بجرأة مشاهدهن في السينما، حين دخلن سوق الدراما التلفزيونية مثل يسرا ونادية الجندي وإلهام شاهين، فبقيت الدراما المصرية على تحفظها، حد السذاجة أحيانا مع استثناءات بسيطة.
تميز إنتاج القطاع الخاص السينمائي السوري في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بجرأته المفرطة، ولدرجة صادمة أحياناً. لكن الصورة بدت معاكسة تماماً في إنتاج القطاع العام السينمائي، ومع تراجع إنتاج القطاع الخاص حتى غيابه تماماً، استمر القطاع العام بإنتاج أفلام تكاد تغيب عنها القبلات تماماً. إلا أن هذه الأفلام، كما الدراما التلفزيونية السورية اليوم، عادت وأمسكت العصا من النصف فغابت عنها القبلات العاطفية بينما أبقت مشاهد قبلات الخد التي يتبادلها الإخوة والأصدقاء عادة في حياتهم اليومية.
وبينما تغيب القبلات تماماً عن الدراما الخليجية، سيبدو وجودها مبالغاً فيه في بعض مسلسلات الدراما اللبنانية، وصل حد إيقاف عرض مسلسل «الباشاوات» على تلفزيون «المستقبل» بعدما أثار جدلاً واسعاً لمشاهده الجريئة، وقيامة الدنيا على مشهد افتتاح مسلسل «عيون خائنة» على «ال بي سي»، علماً ان هذه المشاهد لها من يعارضها على اعتبار انها تخرج عن السياق الدرامي، كما هي الحال مع الفنانة اللبنانية مادلين طبر التي لا تخفي ضيقها من مبالغة بعض المسلسلات اللبنانية: «يكفي المآسي في الفيديو كليب، وكأنه كان ينقصنا دراما لبنانية تبنى على القبلات والأحضان والميني جوب(!)».
في هذا الموسم كما في كل مرة، ستكون القبلة في الدراما العربية أمام مأزق أن تكون أو لا تكون، بين أن ينتصر المشهد لواقعيته أو ينتصر لتحفظ مشاهده.. وفي كل الأحوال سيبدو مأزق القبلة الفني أخف وطأة ربما من مأزقها الإنساني، الذي عبرت عنه الخبيرة كريستينا كانتاوف، بمناسبة اليوم العالمي للقبلات، الذي مر منذ أيام، حين أسفت لتراجع «الدور الذي تلعبه القبلة، على اختلاف أشكالها، من الناحية الإنسانية والتاريخية».
ماهر منصور
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد