واشنطن تتجسس على الدول «الصديقة»، الأوروبيون يهدّدون وكيري لا يأبه
«نعم نحن نتجسس عليكم، ومن لم يعجبه الأمر فليشرب من البحر»، هذه هي الترجمة غير الحرفية، ولكن الأمينة معنوياً، لما أجاب به وزير الخارجية الأميركي جون كيري المسؤولين الأوروبيين المصدومين مما نشرته صحيفة «دير شبيغل» الألمانية بداية الأسبوع الحالي، وبعدها «الغارديان» البريطانية أمس، عن التجسس الأميركي على اتصالات مقر الاتحاد الأوروبي في واشنطن وبعثته في نيويورك، فضلاً عن سفارات وبعثات 38 دولة «صديقة»، من بينها فرنسا وإيطاليا واليونان، وألمانيا.
الوزير جون كيري قال إن «كل دولة في العالم معنية بالشؤون الدولية والأمن القومي تقوم بكل الأنشطة لحماية الأمن القومي، وجميع أنواع المعلومات تساهم في ذلك، كل ما أعرفه أن هذا ليس غريباً في الكثير من الدول».
ودخل الفرنسيون على خط الاحتجاج الديبلوماسي والسياسي على التصرفات الأميركية المهينة. وللمرة الأولى منذ حرب فيتنام، يصدر وزير الخارجية لوران فابيوس بياناً يتضمن عبارات من نوع الدهشة لوصف سلوك أميركي، كما طلب «توضيحات بأسرع وقت ممكن لوقائع لو تأكدت فلن تكون مقبولة على الإطلاق».
وذهب الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى المطالبة «بالتوقف فوراً عن تلك التصرفات التي ثبت وجودها»، مستدعياً احتمال الرد إذا لم يتوقف التجسس الأميركي «عبر وقف المفاوضات مع واشنطن حول السوق الأوروبية ــ الأميركية».
أما عتب مفوضة العدل الأوروبية فيفيان ريدنغ، وقولها «ما هكذا يعامل الحليف حلفاءه»، فلم يثر أكثر من جواب مختصر من وكالة الأمن القومي الأميركية، من النوع المحبب لدى الجواسيس، والحريص على تنظيف الغسيل الوسخ بين أبناء العائلة الواحدة، وهو «سنرد عليكم عبر القنوات الديبلوماسية». وكان النائب الأوروبي الأخضر دانيال كوهين بانديت أكثر حدة وجدية، حيث هدد بتجميد مفاوضات السوق الأوروبية ــ الأميركية، قبل بدئها في الثامن من الشهر الحالي.
يذكر أن النظام التجسسي الأميركي يسترق السمع يومياً إلى ثمانية ملايين مخابرة هاتفية فرنسية. أما بالنسبة لألمانيا، فيستمع الأميركيون إلى 48 مليون مخابرة هاتفية يومياً، وهو ما ساعد على «إنقاذ حياة الكثيرين»، بحسب ما دافع الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام المستشارة أنجيلا ميركل قبل أسبوعين، وقبل أن تتسع الفضيحة لتشمل الاتحاد الأوروبي.
والقضية التي أثارتها كل من «الغارديان» و«دير شبيغل»، ليست إلا فصلاً إضافياً في الفضائح التي يواصل إشهارها عميل وكالة الأمن القومي «الخائن» إدوراد سنودن، والهارب إلى المنطقة الدولية في مطار موسكو منذ أسبوع، بعد فضحه سراً أمنياً لـ«الغارديان» حول تجسس أجهزة الاستخبارات الأميركية على المواطنين والشركات في بلاده عبر نظام «بريسم» المعلوماتي.
وتناسى الإعلام أن الوزير الأميركي المصرح من بروناي، يأتيها لحضور اجتماع آسيوي اليوم، وأن الأنظار تتجه إليه للقاء منتظر حول الملف السوري مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لإحياء العملية السياسية في سوريا عبر جنيف بعد إخفاق الاجتماع التحضيري فيها وحولها الأسبوع الماضي.
وطغى غضب أوروبي مضبوط على كل الملفات. وصعدت أصوات تطالب الحليف الأميركي بتوضيحات حول فضيحة طعنه لحلفائه الأوروبيين. وطلبت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين اشتون «توضيحاً عاجلاً لصحة ما نشر من وقائع أو مزاعم».
ولم تدافع واشنطن عن نفسها بالقول إن هذه النشاطات تدخل في نطاق الحرب على الإرهاب، لأن شبكة «بريسم» التجسسية تخترق سفارات حليفة، وتتقاسم مع أجهزتها الأمنية عادة ودونما حاجة إلى أي تجسس، كل المعلومات التي يحصل عليها جواسيسها.
وتمهلت ريدنغ في طلب وقف المفاوضات مع الولايات المتحدة، ولكنها هددت بالقول إنه «لن يكون بوسعنا أن نفاوض على إنشاء سوق كبير على ضفتي الأطلسي، إذا اعتمل فينا شك ولو بسيطاً بأن من يفاوضنا يتجسس على مفاوضينا».
ولكن الغضب الفرنسي لا ينبع من جرح نرجسي أو افتضاح طعنة الحليف الجاسوس، بل ينبع من قلق حقيقي بعد تحويل أجهزة الاستخبارات الأميركية جزءاً كبيراً من أنشطتها نحو التجسس الصناعي منذ أن وضعت الحرب الباردة أوزارها من دون تمييز في الأيديولوجية بين صديق أو عدو. ويقوم «بريسم» الأميركي بنسخ وخزن ملايين المعطيات في حواسيب الشركات الفرنسية ومؤسسات الأبحاث الأوروبية، والتي تنفق مئات مليارات اليورو في هذا السبيل، فيما لم تنفق الاستخبارات الأميركية أكثر من ملياري دولار على مشروعها الرابح للحصول على المعلومات، وتزويد المؤسسات الأميركية بها، وتحسين تنافسيتها بطريقة غير مشروعة.
الأوروبيون مفجوعون بحليفهم، ليس لانكشاف تجسسه الداخلي على مواطنيه، بل لأن سنودن أماط اللثام عن قيام وكالة الأمن القومي بالتنصت على الاتصالات الهاتفية والمراسلات الالكترونية للاتحاد الأوروبي في واشنطن ونيويورك، وفي مقره الأساسي في بروكسل.
وكشف سنودون لـ«دير شبيغل» أن أجهزة الاستخبارات الأميركية دسّت بأجهزة تنصت، واخترقت الشبكات الالكترونية والمراسلات الداخلية لبعثات 38 دولة «صديقة وحليفة من بينها فرنسا وسفارتها في واشنطن، وبعثتها الأممية في نيويورك، وتركيا والهند واليونان والمكسيك واليابان».
ونشر سنودن وثيقة سرية تعود إلى الاستخبارات الأميركية، وتمثل الأوروبيين «كأهداف صالحة للهجوم». وما يثير غضب الفرنسيين والألمان خصوصاً هو أن الوثيقة توصي عملاءها بعدم الثقة بالفرنسيين والألمان. وتقتصر ثقة الأميركيين في العالم بحسب الوثيقة على أربعة أجهزة استخبارات، وهي التابعة لكل من كندا، ونيوزيلاندا، وبريطانيا، وأستراليا.
والأغلب أن العميل الأميركي، الذي فضح نظام التنصت والتجسس «بريسم»، وهو الذي تستخدمه أجهزة الاستخبارات الأميركية في مرحلة أولى بصفته برنامجاً للتجسس الداخلي على المواطنين والشركات في الولايات المتحدة، انتقل إلى مرحلة أخرى من الفضائح ضد مشغليه السابقين. فبعد هدنة استمرت أسبوعاً في تسريب المعلومات عن أنشطة وكالة الأمن القومي، يرد العميل سنودن حملة المطاردة الشرسة، التي نظمتها أميركا لمنع الإكوادور من منحه حق اللجوء السياسي.
وكان نائب الرئيس الأميركي جو بايدن قد اتصل شخصياً بالرئيس الإكوادوري رافاييل كوريا ليطلب منه باسم الولايات المتحدة ألا يمنح «الخائن» سنودن حق اللجوء السياسي.
يذكر أن سنودن محجوز اليوم في مطار موسكو، ورداً على سؤال حول تسليمه إلى الولايات المتحدة، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمس إن «روسيا لا تسلم أحداً على الإطلاق ولا تنوي فعل ذلك»، مضيفاً أنه «في أحسن الحالات كنا نجري تبادلاً بين عناصر من استخباراتنا الخارجية وأشخاص معتقلين ومحكومين في روسيا». وأشار إلى أنه على سنودن إذا أراد البقاء في روسيا أن يتوقف عن «القيام بنشاطات تهدف إلى الإضرار بشركائنا الأميركيين»، إلا أنه استطرد قائلاً «بما أنه يعتبر نفسه مدافعاً عن حقوق الإنسان، لا يبدو أنه قد ينوي وقف هذا النشاط، لذلك عليه أن يختار بلداً يتوجه إليه».
وكان مسؤول في الدوائر القنصلية الروسية قد قال إن سنودن تقدم بطلب لجوء سياسي إلى روسيا.
محمد بلوط
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد