يوميات بيروت لميّ المصري
كانت الحرب الاسرائيلية على لبنان اندلعت عندما سافر شريط المخرجة الفلسطينية ميّ المصري الجديد من بيروت الى معهد العالم العربي بباريس عبر البحر. وقد استغرق وصوله الى هناك حوالي أربعين ساعة، وعرض لحظة وصوله. لكن المخرجه لم تستطع الحضور بطبيعة الحال نظراً للظروف التي أحاطت بلبنان وقتئذ، ولكن «يوميات بيروت: بين الحقيقة والسراب» وهو عنوانه، نال جائزة أفضل فيلم تسجيلي طويل هناك. وهنا قراءة أولية في الفيلم. علماً بأن المخرجة ميّ المصري ستكرم في الدورة العاشرة من مهرجان الاسماعيلية المقبل عن مجمل أعمالها: يد تكتب على سطح ورقة بيضاء، يد مؤهلة لأن تكتب، وهي ربما تؤرخ بالكتابة للواقعة الأليمة كما جرت في الرابع عشر من شباط عام 2005، ربما لا تريد هذه اليد أن تشير بإصبع الاتهام الى أحد، أو كما تقول صاحبتها في الفيلم «ان جريمة اغتيال رفيق الحريري قد تكون واضحة بالنسبة إلي بعكس الجرائم الأخرى»!
ربما لا تريد اليد المؤهلة للكتابة أن تقول شيئاً، فكل شيء قد قيل، ولم تعد الاضافة مهمة في أي حال من الأحوال. لم تعد أي اضافة مهمة بعد هذا التاريخ، فالصورة المتفجرة تكمل الرواية في فيلم «يوميات بيروت: الكذب، الحقيقة، الفيديو» لا كما تدور بعد «الواقعة التي وقعت»، فهي هنا من يرسم الإطار ممتداً أمام مسألتين مهمتين: الحقيقة والسراب، لأن ما يقع بينهما هو يوميات مدينة تذهب إليها المخرجة الفلسطينية ميّ المصري في تجربة (لبنانية) أولى، بعد مجموعة من الأفلام التسجيلية مع زوجها السينمائي اللبناني جان شمعون. وهذا ما يجعل من ميّ شريكة نفسها في أربعة أفلام فلسطينية خالصة.وهي هنا في الفيلم الجديد تعود الى هذه الشراكة وحدها ومع جان في الوقت نفسه بما يشبه الأحجية. تعود الى موضوعة لبنانية شائكة ومعقدة، وتقرر هي أن تزيد في درجة هذا التعقيد، اذ تضع أمامنا صورة بطلة فيلمها الجديد نادين زيدان، الفتاة اللبنانية ابنة الـ 25 ربيعاً، والتي تسكن بالقرب من السان جورج، المكان الذي قضى فيه رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وصحبه ومن معه ومن جاوره صدفة في تلك اللحظة»: تلات دقايق ركض وبكون هناك». حسناً وماذا يوجد بعد هذه الدقائق المثلثة الأضلاع التي تشير إليها نادين زيدان - شبيهة ميّ المصري- ؟ تتعدى الإجابة ضربات القلب المدوية التي حددت إيقاع الكاميرا المتوغلة في الأحداث ومجاريها، وهي لا تعود تقف محايدة. انها تدخل بين القتلى. تدخل في الانفجار ذاته، وتقول لنا ومن دون مداورة «ان ايقاعي المستلهم من الحادثة المروعة هو ما سيتحكم بي حتى نهاية الفيلم التسجيلي الطويل، وهو بالتالي ما سيتحكم بكم، وبأفئدتكم المروعة، فالموضوعة ليست اننا نسجل ما يدور أمامنا، وان كان الأمر كذلك للوهلة الأولى، الا أننا ننوي اعادة ترتيب مفاصل الرواية من فائض الصور التي «نفشت» بين أيدينا. سنضع كل هؤلاء الشبان والشابات الذين نزلوا الى «مخيمات» الاستقلال في ساحة رياض الصلح البيروتية بحثاً عن الحقيقة والوحدة الوطنية والاستقلال أمام المجهر لنكشف ما يدور في الأرواح الحيّة. هنا وراء هذه السقالات الضخمة، والرافعات العملاقة والخيم والدراجات الهوائية، وقوانين العجز الإنساني المستقاة من أخطر برهة تجمّع في ميدانها كل هؤلاء الشباب. فجميعهم ولد تقريباً من رحم الحرب الأهلية اللبنانية، أو كما تردد صبية حلوة معبرة عن هذه الفحوى بالقول انها تريد أن تفهم ما الذي جرى بين نيسان 1975 ونيسان 2005. ربما تكون هي أصابت في مطلع سؤالها فقط، فنيسان هو أقسى الشهور كما يريد الشاعر، والعودة اليه، أو تجميع الأحداث بين «نيسانين» تخلق مساحة أخرى للتبصر في ثنايا هذه الحرب التي جعلت الأخ «يقوّص» على أخيه كما شاهدنا في الفيلم الجديد.
تتحول نادين زيدان مع تقلب الأحداث وانتصار الشاشة التلفزيونية المفاجئ، الى عين للكاميرا القلقة، الباحثة عن الحقيقة والسراب كما تريد لها المخرجة بالضبط، فهي تجنح بالأحداث نحو الرواية المفصلة بالنسبة للحاضرين في الفيلم، اذ تبدأ هذه العين الدامعة الحزينة تخرج من إغماضتها على علاقة عاطفية مشبوبة عاشتها نادين مع»شخص مدة أربعة أعوام ونصف»، الى المحيط العام الذي يبدو متململاً وفي انتظار شيء أن يحدث أو يجيء، فيما هدّأ البعض من روعها وطالبها بألا تحزن لأنها نالت استقلالها من هذا الشخص. تضحك العين الأنثوية، ربما بإشفاق على العين الأخرى المسلوبة والمستسلمة للصورة الفيديوية المتضخمة على حساب كل شيء وتقرر أن تتوغل أعمق فأعمق في الأحداث التي تدور من حولها بعد أن تتجاوز المحنة الشخصية الى محنة جماعية يعيشها البلد الكبير.
تغوص نادين في الجموع، وتبدأ هذه العين الدامعة بتفتيت جوهر الصورة الكاملة. تعيد تصفيف الرواية بالأناقة المعهودة من ميّ المصري نفسها، وهي الذات الجمعية التي تنسحب على كل ما هو جوهري أمامها، فليس الملقب بـ «ترميناتور» هو المدافع عن هذا الاستقلال بعد أن يزعم أنه ظل صامتاً فترة طويلة. والآن من بعد السؤال عن أحواله جاء دوره ليترك الفكر والنخبة المشتعلة وينضم الى لبنان بصوته. ولا حتى ذلك المعوق الذي يحلم بالمجتمع المثالي وبالطيران من فوقه، ويحلم بأدواته، كأن يصبح جسده خفيفاً درجة التبخر ليكون في وسعه أن يحلق الى أبعد نقطة. ولكنه يكتشف ان المجتمع لم يكن مثالياً في يوم من الأيام، وليس هناك من أمل بأن يتحقق طيرانه. ولا يساعده على تخطي هذه الحقيقة المرّة سوى عكازين خشبيين منخورين – وربما فخورين- بتاريخ الحرب الأهلية حتى تزداد وحشته وتعاسته. فالتاريخ هنا مسور بالألغاز، وهو من خرّب عليه طيرانه الشخصي الذي لا يشاركه فيه أحد. وربما كان في وسع هذا المعوق النبيل أن يطير على جنح الأفكار، ولكن ليس فوق المجتمع المثالي الذي رُسم أمام خيام المتظاهرين. فالخرق الأول الذي سجل في الفيلم لحساب خرائبية هذه الفكرة وعدم صلاحيتها هو ظهور التلفزيون في الفيلم، وهو الأداة التي تنقل الأخبار الى أهل «المخيم». هنا، يصبح التلفزيون جزءاً من حيواتهم، وهم من يعيشون وسط هذه الأحداث المصيرية من دون واسطته. وحتى عندما يقررون إزالة المخيم من مكانه نرى واحداً منهم وهو يُبعد جهاز تلفزيون مطفأ وكأنه يقول لنا في نهاية الفيلم: انتهت الفرجة يا شباب. لم يعد بوسعكم متابعتنا عبر الشاشة نفسها، فنحن لم نعد شهوداً على شيء كان حدث للتو أمامنا وعلى مرأى من أبصارنا وأبصاركم.
اما نادين التي تدمع «عدستاها» كثيراً، فتقرر الذهاب في الاتجاه المعاكس. تزور البيت المهدم على فكرة أصيلة ونبيلة عن التعايش، وتهرب هناك الى طفولتها التي عاشتها في رحم هذه الحرب وتصبح في لحظة شقية ومجنونة أكبر من أبيها بعام واحد بعد أن قصفت الحرب عمره وهو في الرابعة والعشرين، وكأنها تقرر في لحظة متورمة من عندها أنه قتل وكأنه لم يوجد أبداً، فهاهنا الحقول والبراءة التي مضت، والعدستان اللتان تستعيدان كادرات بالأسود والأبيض من الحرب وجنونها ومقاتليها الذين تنظر اليهم من فتحة كانت فيما مضى لإطلاق الرصاص، والآن هي مجرد (فتحة) في الماضي البعيد... البعيد الذي لا يكفيه عمر نادين وأبيها معاً. . !!
«يوميات بيروت» ينتهي بانعطافات درامية تتمثل باكتشاف حقائق لم تكن تخطر في بال نادين. فهذه التحولات في المصائر لم تكن هي من أرادت لها أن تنتهي بهذه الطريقة التي انتهت إليها من تلقاء نفسها، وبدأ العديد من «المتجاورين» من مختلف الأحزاب بسحب أعمدة الخيام التي رفعوها بأيديهم لإدراكهم ان الجدوى من وجودهم انتهت في لحظة. وهم يبكون الآن ليس لأنهم سيشعرون بالفقد وبعضهم عاش علاقات عاطفية انتهت الى خطوبة أو زواج، بل لأنهم لا يعرفون ما الذي تخبئه لهم الأيام - كما تقول صبية مرحة تحاول أن تتجاوز الحالة أيضاً من تلقاء نفسها، ومن دون رتوش على الدور الذي أدته في الفيلم وفي «المخيم»، ففي الحالين كان لها دور هي الأخرى، والرواية تقتضي أن تقوم بهما، وربما بالمرح الزائد نفسه!
يحترق الصمت تحت تماثيل لم تسلم بدورها من رصاص المتقاتلين الأشداء، على أن نادين زيدان نفسها، وقد جهدت لتفهم سبباً واحداً لركضها منذ الدقائق الثلاث الأولى في الفيلم، لم تستطع أن تفسر سبب إطلاق الرصاص على تماثيل في ساحة الشهداء، فلربما من أطلق الرصاص كان يعرف أنه يطلقه على الذاكرة المقبلة وهي تتجمع تلقائياً في بركة الحرب الأهلية الآسنة.
ربما يكون في وسع نادين من الآن فصاعداً أن تجد لسؤالها في البيت المهدم جواباً عما اذا كانت حرباً بين نفس الأهل والأصدقاء والأشقاء والأهل الذين يتجمعون بحثاً عن استقلال مرهون حتماً بنشيد «كلنا للوطن»، استقلال يبدو مشوشاً، وتستحضره الدراجات الهوائية والألعاب البهلوانية وكتابات غيبية عن الحقيقة مزقها وأعاد ترقيعها الصمت نفسه، وهو يردد على لسان أم مفقود تستولي بحزنها على أهم ما في الفيلم من أسئلة:- نعم نريد أن نعرف حقيقة من قتل رفيق الحريري، ولكننا نريد بالمقابل أن نعرف 17 ألف حقيقة. كانت تقصد 17 ألف مفقود لم يعودوا من الصور الفوتوغرافية التي ذهبوا اليها ذات مرة.
كان إحساساً قابضاً ولئيماً وهو يدوي أمام «عدستي» نادين عندما فهمت من النائمين في الخيام انهم لا يكترثون بمصائر هؤلاء المفقودين، وان عليهم أن يموتوا أو يذهبوا الى البحر، فهذه ليست مشكلتهم... ولكن لماذا؟ - تصرخ نادين: أنتم لم تتقاتلوا معهم ولم تكونوا موجودين، أو حتى مولودين، أو بعضكم على الأقل لم يكن موجوداً!
ما من إجابة، فنزع «العدستين» من محجريهما يغلق الإجابات على كل الأسئلة، وتنهمر الدموع مثل مطر أمام الأعمدة التي تطقطق جرّاء معاشرتها للنار. فالصورة، صورة من يحلم بالطيران فوق مجتمع مثالي أبعد من أي مجتمع أهلي، انتهت الى رجل بعكازي خشب يمكن لهما الاحتراق أيضاً، وبنظارتين سميكتين بالكاد نرى من خلالهما ما سيحدث بعد الثاني عشر من تموز 2006... عندما تتوقف الصورة نهائياً وتبدأ حرب من جديد!
فجر يعقوب
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد