500 صفحة عن فضائح الإدارة الأمريكية في العراق
عرض كتاب "حالة إنكار" للصحفي الأميركي الشهير بوب ودوورد الصادر في أواخر شهر سبتمبر/أيلول الماضي، مهمة بالغة الصعوبة لأسباب عدة، على رأسها كون الكتاب يتكون من قرابة 500 صفحة من القطع الكبير، ونظرا للشهرة الكبيرة التي حصل عليها الكتاب منذ صدوره، ولطبيعة منهج الكتاب الذي يعتمد على إجراء عدد كبير من المقابلات الصحفية مع بعض أهم المسؤولين عن صناعة القرار بالولايات المتحدة.
وأيضا محاولة كتابة سيناريو يحكي موقف هؤلاء المسؤولين من أهم القرارات التي اتخذتها إدارة الرئيس جورج دبليو بوش بخصوص إدارة حرب العراق وخاصة في الفترة التالية لسقوط النظام العراقي، وهي الفترة التي يركز عليها الجزء الأكبر من الكتاب.
الأسباب السابقة مجتمعة قد تدفع القارئ لمحاولة الخروج باستنتاجات متسرعة عن محتوى الكتاب قبل الانتهاء من قراءته أوعلى الأقل من قراءة غالبية فصوله، التي يبلغ عددها 45 فصلا، خاصة مع زيادة الطلب على الكتاب وعرضه من دوائر الإعلام والسياسة الأميركية والدولية، وقد تحرم هذه القراءة المتسرعة الباحث أو القارئ من الوقوف على أهم مضامين الكتاب ومزاياه وكذلك عيوبه.
يغطي الكتاب مساحة واسعة من الزمن تمتد من أواخر عام 1997 حين بدأ جورج دبليو بوش في التفكير في ترشيح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة، وتصل إلى يونيو/حزيران 2006 وقد دخلت إدارة الرئيس جورج بوش دوامة أخطاء حرب العراق حيث بدا لها أن إستراتيجيتها تجاه العراق مليئة بالعيوب والأخطاء ومع ذلك يصر كبار مسؤوليها على عدم الاعتراف بتلك الأخطاء منخرطين في "حالة إنكار" غير منطقية انطلاقا من أهداف دعائية سياسية، ومن هنا جاء عنوان الكتاب.
والملاحظ هنا أن الكتاب لا يغطي الفترة السابقة الطويلة على قدر متساو، فهدف الكتاب الأساسي هو تسليط الضوء على الطريقة التي تم بها التخطيط لإدارة عراق ما بعد صدام حسين مع العودة للخلف بشكل كاف لمحاولة تسليط الضوء على جذور الأسباب التي منعت أميركا من التخطيط السليم.
لذلك يمر الكتاب بشكل خاطف على أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وعلى حرب أفغانستان، وعلى قرار شن الحرب والتخطيط لشن العمليات العسكرية، فهدف الكتاب الرئيسي هو دراسة كيف فكرت الإدارة في مستقبل العراق بعد سقوط صدام حسين، وفي كيفية إدارة العراق، وفي مستقبل الوجود الأميركي هناك، وفي طبيعة عراق ما بعد صدام.
الكتاب مليء بكم هائل من التصريحات والأحاديث التي دارت بين عشرات المسؤولين الأميركيين حول عراق ما بعد صدام حسين والتخطيط الأميركي لتلك الفترة بما في ذلك أحاديث دارت بين أكبر المسؤولين الأميركيين على الإطلاق.
وقد أجرى المؤلف لقاءات مباشرة مع بعض هؤلاء المسؤولين وعلى رأسهم وزير الدفاع الأميركي دونالد رمسفيلد، ومع آندرو كارد الذي عمل ككبير موظفي البيت الأبيض خلال إدارة بوش الأولى وفي جزء من إدارة بوش الثانية، وجاي غارنر وهو أول مسؤول أميركي عن إعادة بناء عراق ما بعد صدام.
وسط كل هذه الأحاديث والتفاصيل يحاول ودوورد رسم صورة دقيقة بقدر الإمكان لأصل الداء دون تسميته مباشرة كما تفعل كتب التحليلات السياسية، حيث يسترسل المؤلف في التفاصيل والمقابلات والأحداث التي تقدر بالمئات تاركا الخلاصة للقارئ.
وفي أحيان كثيرة يشعر القارئ أن الداء الذي أصاب السياسة الأميركية تجاه عراق ما بعد صدام هو داء واحد واضح اسمه "دونالد رمسفيلد"، الذي يخصه ودوورد بالجانب الأكبر من النقد والأخطاء وكأنه يمثل حجر عثرة رئيسية في طريق أميركا بالعراق.
فمنذ فصول الكتاب الأولى يوضح ودوورد للقارئ أن رمسفيلد عندما تولي مهمة وزير الدفاع رفض الدور السياسي المتزايد الذي يلعبه قادة الجيش، وخاصة رئيس الأركان المشتركة للجيش الأميركي، حيث حاول رمسفيلد الحد من سلطة قادة الجيش وعلى قدرتهم على احتكار المعلومات بعيدا عنه، وعلى قدرتهم على التواصل مع الرئيس ومجلس الأمن القومي دون المرور عبره.
حيث يصور ودوورد رمسفيلد كعجوز عنيد يتدخل في كل شيء، ويريد أن يمتلك السلطة المطلقة في كل ما يتعلق بأمور الجيش والعمليات العسكرية الأميركية، ويرفض سلطة الكونغرس والخارجية الأمريكية ومجلس الأمن القومي.
لذا اختار رمسفيلد رئيس أركان قابلا للسيطرة عليه، وهو ريتشارد مايرز، ورفض تعيين رئيس أركان آخر كفء لأنه أصر على استقلاليته.
وعندما بدأت أميركا في التخطيط لشن الحرب على العراق أصر رمسفيلد على أن يكون التخطيط للعمليات العسكرية لفترة ما بعد سقوط النظام تحت مسؤولية وزارة الدفاع، ورفض إشراك أي وزارة أخرى بما في ذلك وزارة الخارجية حتى أنه أصر أحيانا على عدم الاستعانة بخبراء من تلك الوزارات، وأصر على فصل بعض أفضل الخبراء في الفريق الذي جمعه غاي غارنر -الذي كان أول من أوكل إليهم رمسفيلد مهمة التخطيط لعراق ما بعد صدام- لأنهم كانوا من وزارة الخارجية.
كما يقول ودوورد إن رمسفيلد لم يكن لديه وقت ليمنحه لغاي غارنر للتخطيط لفترة ما بعد صدام لأن رمسفيلد كان مشغولا بالتخطيط للعمليات العسكرية مع الجنرال تومي فرانكس، ومع ذلك أصر رمسفيلد على أن يكون مسؤولا مسؤولية مباشرة عن غارنر، ورفض أن يكون فرانكس مسؤولا عنه أو العكس، فرمسفيلد -كما يصوره الكتاب- رجل يريد أن يمتلك جميع الخيوط في يديه.
وعندما بدا لرمسفيلد أن غارنر يعارضه ويحاول التفكير بقدر من الاستقلالية في أوضاع العراق لم يتردد رمسفيلد في فصله، وسعى لإرسال مبعوث ثان وهو جيري بريمر، وعندما عارض بريمر رمسفيلد وثبت عدم كفاءته انقلب عليه رمسفيلد.
وبهذا دخلت أميركا العراق بدون تخطيط كاف لفترة ما بعد الحرب، واستمرت مشكلات العراق تتفاقم بدون حلول في ظل انشغال رمسفيلد وإصراره على هدف واحد وهو سرعة سحب القوات وتقليل وجودهم في العراق بأي ثمن.
التدقيق في مضمون الكتاب وقراءة أكبر عدد من فصوله تعطي انطباعا بأن المشكلة أكبر بكثير من رمسفيلد، حيث يرسم ودوورد على صفحات متفرقة من كتابه صورة متكررة ومقلقة لأسلوب صنع القرار في إدارة جورج دبليو بوش.
فهو يصور بوش بشكل منتظم على أنه رئيس لا يمتلك الخبرة الكافية، ويفوض صلاحيات كبيرة لوزرائه، حيث يشير ودوورد بشكل متكرر إلى أن المسؤولين عن عراق ما بعد صدام -مثل غاي غارنر- صدموا عندما التقوا بوش لأنه ببساطة لم يسألهم عن شيء، فهو في العادة يستمع لهم ويبتسم ويساندهم ويسألهم أسئلة شخصية بسيطة لا تمت لموضوع النقاش بصلة، ثم يمضي دون أن يسألهم في التفاصيل الحقيقية أو يشجعهم على الحديث في القضايا المهمة المثيرة للجدل.
كما يتحدث ودوورد عن سلوك غريب يشبه سلوك الطاعة أو الخوف أو الولاء أو الهيبة في مجلس الرئيس، الذي ينتاب كثيرا من مساعدي بوش عند الحديث معه ويمنعهم من مناقشة القضايا الكبرى والخلافية، وهو سلوك يشعر القارئ بأن ثقافة النظام السياسي في أميركا لا تشجع النقاش الحر كما هو مفترض، فعندما أنهى رمسفيلد وتشيني خدمة غاي غارنر، وعاد الأخير إلى واشنطن، وطلب بوش اللقاء معه، لم يخبر غارنر بوش إلا بكل ما هو جميل عن العراق على الرغم من معرفة غارنر بالعكس.
كما أن كولن باول وزير الخارجية القوي ذهب إلى الأمم المتحدة لإقناع العالم بوجود أسلحة دمار شامل بالعراق بناء على استخبارات ضعيفة جدا، وجورج تينيت -مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية- كان على علم بمبالغة بوش وتشيني في استخدام قضية أسلحة الدمار الشامل لتبرير الحرب على العراق وفكر في الاستقالة، ولكنه تراجع خوفا من أن يوصف بأنه تخلى عن المسؤولية وبلده على أبواب الحرب.
ودائما ما تسمع كبار المسؤولين في الإدارة -بما في ذلك دونالد رمسفيلد نفسه- يقولون إن "القرار قادم من أعلى"، وإنهم لا يستطيعون تغيير القرار حتى مع شعورهم بأنه قرار غير سليم، فصناعة القرار هي نهاية النقاش والنقاش محدود، والهدف هو تنفيذ القرار حتى لو كان غير صحيح، وعندما تحدث الأخطاء وهي عديدة يجب التكتم عليها، أما أكبر المتكتمين على الأخطاء فهو الرئيس بوش نفسه، الذي يصر على التفاؤل والحديث الإيجابي دائما حتى أمام كبار مساعديه، وكأنه يدير حملة انتخابية طوال الوقت.
الحلقة المتبقية والمهمة في دائرة صنع القرار بإدارة بوش تخص نائب الرئيس ديك تشيني، الذي يشارك صامتا في اجتماعات بوش المهمة، فلا يسأل ولا يشارك ما دام بوش يتحدث، وبوش في العادة يتحدث عن أشياء سطحية.
وبعد الاجتماع يستدعي تشيني الخبراء ويسألهم الأسئلة الدقيقة والصعبة التي كان من المفترض أن يسألها بوش، ويطلب منهم أن يساعدوه على البرهنة على نظريات عديدة يؤمن بها بناء على مصادر غير معروفة، مثل نظرية أن صدام على علاقة بالقاعدة، وأن صدام هرب أسلحة الدمار الشامل خارج العراق.
أما كوندوليزا رايس فيصفها ودوورد بقدر كبير من العقلانية وعدم القدرة على التأثير في نفس الوقت، فهي تبدو في اجتماعات إدارة بوش الأولى بلا حول ولا قوة، فالرئيس لا يسأل الأسئلة الصعبة، ومجلس الرئيس مشحون بالتوتر والصراع بين مصارعين سياسيين أقوياء على وزن باول من ناحية وتحالف تشيني رمسفيلد من ناحية أخرى.
عيوب كتاب "حالة إنكار" لا تتعلق بمحتواه بقدر ما تتعلق بما سكت عنه، حيث يدور الكتاب في غالبيته العظمى حول تصريحات كبار مسؤولي إدارة بوش وهم بالعشرات وخلفيات هؤلاء، ولكن الخلفيات التي يذكرها ودوورد عادة ما تكون مختصرة.
كما أن التصريحات لا تشرح الأسباب البعيدة للسياسات، فهي تشعرك بأنها أخطاء قادمة من أعلى (رمسفيلد ومساعده دوغلاس فايث وتشيني ومساعده سكوتر ليبي)، ولكنها لا تذكر لك لماذا يفكر هؤلاء بهذه الطريقة؟ وما هي انتماءاتهم الأيدلوجية؟ وما هي طبيعة علاقاتهم مع جماعات شغلت الرأي العام الأميركي والدولي بسبب تأثيرها الكبير المزعوم على إدارة الرئيس بوش مثل المحافظين الجدد والإنجليكانيين ولوبي إسرائيل وشركات النفط والشركات الأميركية الكبرى؟
صمت ودوورد شبه التام عن أدوار تلك الجماعات يشعرك أحيانا بأنه يصور الإدارة الأميركية والمسؤولين فيها كعرائس بمسرح وجد من عدم وقائم في فراغ.
والغريب هنا أن أكبر دور يمنحه ودوورد في هذه المسرحية لشخصية لا تنتمي لإدارة بوش كان من نصيب السفير السعودي السابق لدى واشنطن الأمير بندر بن سلطان، حيث يعود ودوورد بشكل متكرر لعلاقة بندر القوية بإدارة بوش بشكل مثير للتساؤل، في ظل صمت ودوورد شبه التام عن علاقة إدارة بوش بشخصيات دولية وأميركية أخرى عديدة.
علاء بيومي
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد