غسان الرفاعي: زيغلر والتكن ولوجيا المزيفة
-1- اكتشف جان زيغلر – الشاب – وهو يتوثب حيوية وبراءة، في جنيف، أثناء تحضيري للدكتوراه، وكان يطيب لي أن أجالسه مع المرحوم بديع الكسم،.
والمرحوم الدكتور عبد الرحمن بدوي، في مقهى يطل على بحيرة ليمان، وكان (النقار) الودي الذي يشجر بيننا أمثولة في الحوار الديمقراطي السخي: الدكتور عبد الرحمن بدوي من المهووسين بالفلسفة الألمانية، ويستظهر مقاطع طويلة من (هكذا تكلم زارادشت) لـ (نيتشيه)، والدكتور (الكسم)، أشبه ما يكون بفيلسوف إغريقي من المشائين، يتدفق حكمة ونبلاً، وأنا صاخب معربد، تتطاير كلماتي، وكأنها شهب من نار، وزيغلر يستمع إلينا في رفق وحنان، ويعيدنا إلى جذورنا الحضارية، ولست أنسى جملته التي كان يكررها: (في الإنسان الشرقي شيء من القداسة، حتى ولو تعهر، وفي الإنسان الغربي شيء من إبليس، ولو ادعى النبوءة!).
لكن زيغلر أصبح من نجوم الثقافة، لا يتوقف عن الكتابة، والمشاركة في المؤتمرات والندوات، وتعاقبت كتبه التي تتخاطفها دور النشر، وكنت أغتنم وجوده في باريس لأحاوره في انبهار وإعجاب، ولم أصدق أن سويسرا، البلد المتعجرف الذي يفاخر بأنه المجتمع الأمثل للارستقراطية، والنخبة، وأنه لا يتعامل إلا مع الأغنياء، و(الأغنياء جداً فقط)، يمكن أن يصدر إلى عالم السياسة والثقافة جان زيغلر، الإنسان – القديس الذي وهب حياته للمضطهدين والمسحوقين والفقراء، في كل مكان، وخاصة في العالم الثالث، الذي تنهب خيراته، وتستباح ثرواته، وتستعبد شعوبه، بجشع وغطرسة.
-2-
التقيت زيغلر على هامش معرض الكتاب العربي – الأوروبي في باريس، فهالتني منه شيخوخة زرعت التجاعيد في وجهه، وعكازة ذات عقد، يستند إليها في تحركه البطيء، تصافحنا، وتضاحكنا، واستعدنا في نظرات عاتبة، ذكريات قديمة، واتفقنا على تناول العشاء في مطعم لا يبتعد كثيراً عن كنيسة نوتردام دو باري، ما زال يحتفظ بمقصلتين استخدمهما الثوار الفرنسيون لدحرجة الرؤوس في عهد (الكومونة).
حينما استقر بنا المقام في المطعم، روى لي زيغلر من الذاكرة ما قاله روبسبيير، قبل أن تفصل المقصلة رأسه: (أيها الفرنسيون، لم يعد أمامنا إلا أن نختار بين أبشع العبوديات وبين الحرية الكاملة، مصير العالم متوقف على نجاحنا في معركتنا، فلنستيقظ، لنتسلح، ولندفن أعداء الحرية في المقابر، وليسمع العالم كله أصوات النفير تنطلق من باريس!).
ونظر زيغلر إلى المقصلة، المنتصبة إلى يساره، وقال بصوت خفيض: (مازلنا نخوض ذات المعركة، ولكننا سننتصر، مهما عربد القتلة الذين يغتالون أحلامنا..).
-3-
يرى زيغلر أننا نشهد اليوم حركة شيطانية لإعادة صياغة العالم، وما حدث في 11 أيلول لم يكن فرصة لجورج بوش ومن أتى من بعده من المحافظين، لتشمل العالم كله فحسب، وإنما كان الضربة القاضية التي أخضعت العالم الثالث، لأكبر عملية نهب وابتزاز، باستخدام سلاحين من أسلحة الدمار الشامل: القروض، والجوع. وآية ذلك أن الدول الهشة تتخلى عن سيادتها إذا غرقت في المديونية، ثم إنها تتخلى عن حريتها، إذا فتك الجوع شعوبها، وهذه الآلية الجهنمية في الإخضاع والإذلال، لا تتحمل من يقف في طريقها، ولا تقيم وزناً لما يسمى بالحقوق الدولية.
إن كيسنجر – بنظر زيغلر – (هو أكبر مهندس لإعادة صياغة العالم، لقد أعلن في كتابه الذائع الصيت (ترميم العالم: مترنيخ وقضية السلاح)، أن الدبلوماسية المتعددة الأطراف لا تولد إلا بالفوضى، وأن احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها لا يحقق السلام المنشود، وحدها الدولة الأحادية القطب تملك القدرة والوسائل لفرض السلام).
ونظرية كيسنجر التي يصفها زيغلر (بالوقاحة وقلة الأدب) متغلغلة في تفكير المحافظين الجدد، إنهم يوهموننا أن نظام التحكم بالأسلحة المتطورة هو نظام عملي يحقق غرضين متلازمين: أولهما: تأمين سيادة الحضارة الغربية، وثانيهما: حماية الإنسان الغربي، ويرى زيغلر أن المطلوب هو تدمير هذه النظرية، وأمثالها من النظريات التي لا تخلو من عنصرية، والنضال دون هوادة من أجل العدالة الكونية، إن إنسان العالم الثالث الذي يراد له أن يستنقع في دونيته، وفقدان كرامته، سيكتشف أن الإذلال والجوع ليسا أبديين، وإنهما قابلان للزوال، وكما قال لي زيغلر في حماسة: (لابد من أن يتحول إنسان العالم الثالث إلى مناضل عنيد ومتمرد حانق، لابد من أن يكتشف أن عبوديته ليست قدراً مفروضاً عليه!)، ويستشهد بما قاله بوبوف بعد مجزرة 1791: (تعرفون بأنه ينبغي تجنب الحرب الأهلية، إنه لا يجوز تحريض الناس على التمرد والخلاص، ولكن أية حرب أكثر قداسة من حرب تطهر الأرض من القتلة والمفسدين، هيا تقدموا باسم العدالة، وباسم النظافة! وليتم القضاء على البربرية التي تستعبدنا، وتحرمنا من حقوقنا..).
-4-
كانت قبة كاتدرائية نوتردام دو باري تتلألأ أمامنا، حينما خرجنا من المطعم (الأثري) وكانت قطرات خفيفة من الماء تتساقط على وجهينا برتابة، أتكأ زيغلر على عصاه، ذات العقد، وقال:
(ما يجري في بلادكم مروع: يقتلعون حضارتكم العريقة باسم حضارة العولمة والديمقراطية المزيفة، يصلبون إنسانكم باسم محاربة الإرهاب، ويفسدون مجتمعكم باسم التكنولوجيا المعاصرة، ولكن إلى متى؟ إلى متى؟).
قلت بشيء من المكابرة: (لن يطول صلفهم، التاريخ معنا!).
وتلاقت نظراتنا، ولكن زيغلر قال لي معاتباً، وهو يشير على سائقه الذي أوقف السيارة إلى جانب الرصيف:
(المشكلة أنهم اخترقوكم من الداخل، وأصبح نسيجكم الاجتماعي مثل قطعة من الإسفنج، لا تقاوم تسرب الماء إلى ثقوبها..).
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
التعليقات
الشرق الروحي .
إضافة تعليق جديد