«المسلم الأعلى»: كيف تكون أكثر إسلاماً؟

04-07-2016

«المسلم الأعلى»: كيف تكون أكثر إسلاماً؟

يُعَد فتحي بن سلامة من بين أبرز المحلِّلين النفسانيين الذين تناولوا الظواهر الاجتماعية والسياسية والدينية. نشر أبحاثاً كثيرة في التحليل النفسي والإسلام وأوروبا في العصر الحالي. صدرت له مجموعة من المؤلفات في الفرنسية، نُقل عدد منها إلى العربية.
في كتابه الصادر حديثاً (Un furieux Désir de Sacrifice. Le Surmusulman) (Paris, Le Seuil, 2016) «رغبة عارمة في التضحية: المسلم الأعلى»، يتساءل بن سلامة: كيف تعمل الرغبة في التضحية التي استحوذت على الشباب باسم الإسلام؟ كيف ولماذا أخذت هذا المسار السّيئ؟ يجترح أستاذ علم النفس العلاجي وعميد وحدة التكوين والبحث في علم النفس السريري والمرضي في جامعة باريس، مصطلحاً جديداً يطلق عليه «المسلم الأعلى» (ما يذكرنا بـ«الأنا الأعلى» لدى فرويد) وهو يشكل «مركز الثقل» لأدوات التحليل النفسي التي يستند إليها.
بدأ اهتمام صاحب «الفحولة في الإسلام» بإرهاصات «المسلم الأعلى» ضمن تجربته العيادية في مقاطعة السين ـ سان دوني (Seine-Saint-Denis)، حيث لاحظ خلال سنوات عديدة ارتفاع «عذاب الندم» في «أن لا تكون مسلماً كما ينبغي»، ما يقود أشخاصاً لبناء إيمان يطالب بمزيدٍ من الممارسات الدينية بهدف تفادي ما يسمّيه «وصمة العار».
لا يعتمد بن سلامة في دراسته على فهم السياقات النفسية والاجتماعية لأنموذج «المسلم الأعلى» فحسب، إذ إنه يضعنا أمام تمظهرات الإسلاموية المعاصرة (Islamism)، ويعود بنا إلى جذورها التاريخية الأولية، قبل انفجارها مع تأسيس حسن البنا لجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر العام 1928، معتبراً أن «المشهد البدائي للإسلامويّة» يرتبط بحملة نابليون على مصر وصدمة اللقاء العنيف مع القوّة الغربيّة. لم تدرك النظريات السياسية الحديثة التي تناولت «الإسلام السياسي» أنه مؤسس على «قوة الراديكالية الدينية» التي تتلاقى مع المقدس القديم والإنفاق الأضحوي (dépense sacrificielle) بمساعدة التكنولوجيا الحديثة.
«الاصلنة» والجهاديون المعولمون
 يشير بن سلامة إلى أن الحروب الدائرة في العالم الإسلامي أطلقت العنان للقوى التدميرية الأشد قسوة: ضحايا وجلادون، أبطال وخونة، إرهابيون ومرعوبون، وخصوصاً الفاعلين الأكثر خطراً: «الشهداء» الذين يملكون القدرة الملتهبة، على علاقة مباشرة بالرغبة في التضحية. والحال، فإن الشباب الذين يرغبون في الاستشهاد ـ كما يشدد الكاتب ـ إنّما يريدون الخروج من الإنساني ليُصبحوا كائنات خارقة. فالآخرة متأصّلة في عقولهم من خلال خُطب الدُّعاة الذين يخترقون هواماتهم اللاوعية في لحظة تكون فيها الحدود بين الأنا واللاّأنا (le non-moi)، بين الواقعي وغير الواقعي، بين الحياة والموت، مهتزّة إلى درجة يبدو معها مباشرة فعل التضحية بالنّفس في النهاية سهلاً؛ ويغدو مجرّد خاتمة. في هذه اللحظة، يجتاح الموت المتخيّل الذات إلى درجة يفقد معها الموت الفعلي معناه. (راجع: حوار خاص مع فتحي بن سلامة: المسلم الأعلى والموت، موقع «الأوان»، 10 أيار 2016).
منذ الهجمات الإرهابية التي تعرّضت لها باريس في تشرين الثاني 2015، سيطرت لفظة «الأصلنة» على الفضاء العلمي في فرنسا بوصفها حقلاً معرفياً تُبذل حوله جهود علم الاجتماع والتحليل النفسي من أجل فحص هذا المفهوم المتضمّن قيمة عَرضية (عرضي/ تشخيصي) (Valeur Symptomatique)، وعلى هذا يميّز بن سلامة بين «الأصلنة كتهديد» و «الأصلنة كعَرض».
يرى صاحب «ليلة الفلق» أن انبثاق الجهادية على المسرح العالمي بعد هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 أدى إلى زيادة الاهتمام بمفهوم الراديكالية في الخطاب الذي يتناول العلاقة بين العنف والسياسة. ومن المفارقات التي يسجلها: في الوقت الذي ينفتح العالم على بعضه، يتفجّر من هذا الانفتاح خطر مخيف آتٍ من إرهاب أعمى، لا يوفر أي وسيلة من أجل نشر الرعب. يمتلك الجهاديون المعولمون الوسائل المتاحة التي وفّرتها التكنولوجيا الحديثة لبث إيديولوجيتهم وعلى رأسها الجهاد الإعلامي. آثر مرتكبو المجازر عبر التاريخ إخفاء جرائمهم لمحو البصمات وإنكارها، بينما اليوم المجازر مرئية. فلماذا يجعل تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») نشر الخوف والقسوة جزءاً من دعايته؟ ثمة علاقة بين تقنيات المرحلة ومذبحة الجموع، مُنطلقها الرئيس هذا الرعب الذي يقدم نفسه كقوة تدميرية لا تهاب شيئاً. هؤلاء الجهاديون يستهلّون إساءتهم بصرخات «الله أكبر» من أجل الإيحاء بأن الله نفسه يفعل من خلالهم، والضحايا بالنسبة لهم ليسوا أشخاصاً إنما فقط كائنات حُولت إلى جثث؛ الإرهاب هنا يعني القتل الكلي.
إذا كانت الأصلنة (Radicalisation) تحتوي على قيمة عرضية، فهي أيضاً ترمز إلى دلالة حمائية. وقد عاين بن سلامة خلال نشاطه العيادي في الخدمة العامة ضمن الضواحي شمال باريس، وجود خطاب «فائق الإسلامية» يستبطن رغبة طارئة بتأصيل الجذور. وبهذا المعنى تُفهم الأصلنة كعَرض رغبوي للتجذر لأولئك الذين لا جذور لهم. لم يكن مصطلح الأصلنة حاضراً في الاستخدامات السياسية والتحليلية، وجرت الاستعاضة عنه سابقاً بمصطلحات أخرى من قبيل: الأصولية، التعصب، التبشير المتحمّس (أو الدعوة الحارة للدين). يشرح بن سلامة العلاقة بين الهوية والأصلنة الكامنة التي تتغذّى على الإحباطات والكره ورفض العالم الواقعي، فتجد جواباً لها لدى الإسلاموية الجذرية.
«المكبرون» و«المسلم الأعلى»
تتمظهر أعراض «الأصلنة» في علم نفس الجموع من خلال: الهلوسة، تكاثر الطقوس الدينية، العدوى السلوكية، الإيحاء والخضوع الأعمى. هذه الأعراض تطرح معضلة في التحليل النفسي تجعل صاحبها في حالة طوارئ نفسية. ومن خلال التحليل العيادي لهذه الأعراض، يستنتج بن سلامة اختفاء العرض بفعل الإشباع المثالي الذي يضع الموضوع في مهمة إلهية.
إن الراديكالية الإسلاموية هي إيديولوجية دينية تتأسس إحدى قواعدها على الندم والتطهير. يشير بن سلامة في مقاربته لهجمات باريس الدامية إلى معطَيَيْن على علاقة بمنفّذي الهجمات: الأول يرمز إلى مجموعة طلّقت الحياة الدنيا؛ والثاني يصنف الذين قتلوا كوثنيين مشركين في عاصمة الرجس والانحراف. تستحضر التضحية الذاتية في الجهادية ما كان يسمّيه المحلِّل النفسي الفرنسي جاك لاكان «النرجسية الأسمى» للسبب المفقود.
إن إحدى الفرضيات الأساسية المطروحة من الكاتب قوله: إن الإسلاموية غايتها إسقاط أنموذج القيادة السياسية، بمعنى تبعية السياسي للديني لدرجة امتصاصه كي يختفي. فالصفة الملازمة للإسلاموية ليست استقطاب الدين، وإنما امتصاص السياسة عبر الدين؛ وهي تعود بجذورها إلى فكر ابن تيمية، فبالنسبة له ليس هناك سياسة إلاّ الدين: الدين هو السياسة.
يقصد الكاتب بـ«المسلم الأعلى» ذلك الميل لدى بعض المسلمين إلى شكل من أشكال المزايدة الدينيّة، حيث يتم إبراز فائض من التدين كي يصبح المسلم أكثر إسلاماً لجهة الالتزام المفرط بتطبيق الطقوس الدينية، وإلا سيعيش في نكد. المسلم الأعلى تشخيص للحياة النفسية للمسلمين مخصب بالتأسلم ومسكون بحالة الشعور بالذنب والتضحية. يريد المسلم الأعلى التلفظ دائماً باسم الله في العالم، ويدين الذين يخرجون عن دائرته الإيمانية المفرطة في التديّن عبر الوعد والوعيد. يُسمّي بن سلامة هؤلاء بـ«المكبرين» (الله أكبر) طالما أنهم لا يكفون عن التلفظ بـ«الله أكبر». وإذ يشير إلى الانكسار التاريخي المترتّب على تفكك الخلافة الإسلامية وانعكاسه على المسلمين، يلفت إلى أن ظهور جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر ترجمة للمثال الإسلامي الجريح الذي يريد الانتقام واستعادة أنموذج سياسي ضائع.
يحدّد الكتاب الآليات الدفاعية التي تلجأ لها عموماً الإسلاموية، معتبراً أن لها عدوين: العدو الخارجي الغربي والعدو الداخلي المتغربن (Occidenté) (نسبة الى الغرب) الذي يرفض خضوع السياسة للدين ويريد العيش كمواطن داخل الأمة.
فتاوى الجنس و«الربيع العربي»
يتوقف بن سلامة عند ظاهرة الفتاوى والفوضى التي تعتريها، مشدداً على أنها تؤسس لسلطة في وعي المسلمين. وتنطوي الفتاوى المرتبطة بالجنس على أعراض دينية عصابية. من بين عوامل الذعر الغريزي للمسلم الأعلى: ظهور الجسد الأنثوي في الفضاء العام وقربه اليومي من الرجال في الميادين كافة. يرى الكاتب أن فتوى إرضاع الكبير التي أصدرها أحد الشيوخ العام 2007 تعكس بشكل عصابي توجّس بعض الفقهاء والحركات الإسلاموية من خروج النساء الى الفضاء العام، وهي تنبيه لخطورة الاختلاط بين الجنسين، لأنه يسمح بإطلاق الغرائز الجنسية، والحل الذي أوجدته الإسلاموية: الحجاب، بأنواعه، الذي يُخفي الجسد الأنثوي، خصوصاً الشعر منبع الإغراء في العديد من الثقافات. تطرح الفتوى هنا مسألة انتزاع الجنسنة (Desexualisation) أي تعرية الجسد الأنثوي من صفاته وعلاماته الجنسية؛ ومقابل هذا المصطلح هناك «الجنسنة» (Sexualisation).
في سياق فهم الحراك الثوري الذي شهده العالم العربي بدءاً من العام 2010، يرفض بن سلامة الخطاب الإنقاصي والأحكام السلبية التي تحيط بحركات الاحتجاج، معتبراً أنها تحتوي على عناصر غنية في مقاربة السياسي والذاتي. ويدرس بشكل أساسي الحالة التونسية محلِّلاً شخصية زين العابدين بن علي كطاغية احتلت صورته المشهد السياسي التونسي لعقود، واستولت على فضاء الحياة في كل البلاد.
يصف بن سلامة نظام بن علي في إحدى مقارباته بنظام الحكم الذي تسبب بالعجز الكامل: إلغاء التونسيين سياسياً وتحويل الفاعلين على الساحة العامة إلى دمى، وشرطة همجية ومتطوِّرة تقنياً، ونهب جماعته الجشعة للأملاك العامة على مرأى من الجميع، وإذلال المعارضين جسدياً ومعنوياً، وعنجهية وأكاذيب تتواصل يومياً، ويترافق ذلك مع الإطراءات من الديموقراطيات الغربية التي تدَّعي، كالعادة، أنها لا تعرف. ثمة ظواهر مهمة انبثقت من الثورة التونسية أهمها انخراط الناس في الفضاء العام: الشوارع والطرقات والأزقة التي كانت سابقاً مكاناً مخصصاً لصور الديكتاتور. تمكّن التونسيون من التعبير عن أفكارهم وآرائهم، ومن المؤكد أن الديموقراطية ليست ممكنة بلا هذه المرايا: مرايا الفضاء العام التي تنتج ذاتية جديدة.
يخرج الكتاب بخلاصات شديدة الأهمية ويتضمّن تحليلاً متيناً متعدّد الجوانب لأعراض «المسلم الأعلى». لقد قدّم إجابات علمية على ظواهر حديثة، لعل أبرزها ظاهرة الإفراط المرضي في التدين، أي ذلك الأنموذج المتخيل في أن تكون أكثر إسلاماً.

ريتا فرج

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...