«جنيف 2» يؤجّل الاستحقاقات: «القاعدة» أولاً
في سوريا، تتغير المعادلات على الأرض، يوما بعد يوم، ومعها تتحول معادلات السياسة. الأصح أن الأثر السياسي لا تقتصر مفاعيله على سوريا، لأن المعركة الجارية هناك، صارت دولية بامتياز.
اليوم الحسينية والذيابية، وبالأمس شبعا في مدخل الغوطة جنوب الست زينب، وغدا قرى ومزارع جديدة في الريف الدمشقي الذي يكاد يلامس كل حدود المحافظات السورية.. والأهم الحدود اللبنانية.
غير أن سوريا، بميدانها واللاعبين على أرضها، لم تعد ملفا يغرد خارج سرب ما يجري من تحولات دولية وإقليمية. الخرق الإيراني ـــ الأميركي له بدايته وتداعياته، وهو مسار يبدو، حتى الآن، ثابتا، برغم ما يمكن أن يعتريه من صعوبات، في المقلبين، ولا سيما في الداخل الأميركي.
أما لبنان، فقد استطاع أن يمرر سنتين ونيّفاً من عمر الأزمة السورية، بأقل خسائر ممكنة، لا بل يمكن القول إنه تفادى تجرع كأس حرب أهلية، بعدما تورطت مكوناته الأساسية في الأزمة السورية، «حتى العظم» منذ اليوم الأول لاندلاع شرارتها.
لن يكون مفاجئا في خضم هذه التطورات أن نشهد مفاجآت، تأتي استكمالا لكل الوقائع التي تلت «التسوية الكيميائية» الروسية ـــ الأميركية، منذ شهر حتى الآن.
من بين هذه المفاجآت، اتساع دائرة التحول في المواقف العربية والدولية، لمصلحة إقامة حلف دولي ـــ إقليمي يضع يده بيد النظام السوري، لمحاربة تنظيم «القاعدة» على أرض سوريا.
البداية من «الكيميائي» والنهاية ليست في «جنيف 2». قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لنظيره السوري وليد المعلم في موسكو، في العاشر من أيلول الماضي، «معالي الوزير، هذه مقترحاتنا، ونتمنى عليكم ألا تتأخروا بتقديم أجوبتكم». لم تمض ثلاث ساعات، وهي مهلة كانت لها حساباتها وقصتها، حتى كان الرئيس بشار الأسد قد أعطى جوابه للمعلم: «روسيا وقفت معنا سياسيا وديبلوماسيا، وأنا من باب عرفان الجميل، سأفوضهم أن يتخذوا القرار الذي يرونه مناسبا».
انفرجت أسارير القيصر الروسي فلاديمير بوتين عندما تبلغ من لافروف جواب الأسد. ازدادت حماسة موسكو... وكرت سبحة الصفقة التي ما زلنا نشهد فصولها حتى الآن.. إلى حد أن الجيش السوري، بالتنسيق مع أجهزة استخباراتية دولية، كان يحاول في الساعات الأخيرة، أن يمنع وصول مجموعات من المعارضة السورية إلى مجمع عسكري ضخم في السفيرة قرب حلب يعتقد انه يحوي أسلحة كيميائية. واللافت للانتباه أن هذه المعطيات الميدانية تزامنت مع إعلان لافروف من موسكو، أمس، في مؤتمر صحافي مع نظيره الكويتي الشيخ صباح خالد الحمد الصباح أن «جبهة النصرة» تخطط لنقل مواد سامة وخبراء كيميائيين إلى العراق لتنفيذ أعمال إرهابية هناك.
أيضا ثمة تحذيرات تلقتها تركيا من جهات دولية وتحديدا أوروبية، بأن تتخذ إجراءات حدودية مخافة أن يقدم «جهاديون» على تهريب أسلحة ومتفجرات ومواد كيميائية. الأردن يواجه الاستحقاق نفسه، بفارق أن الملك عبدالله الثاني، فاز بمبتغاه من السعودية وباقي دول الخليج، وهو عبارة عن حوالي خمسة مليارات دولار، اشترى بمعظمها أسلحة وطائرات وذخائر، عشية الضربة العسكرية «الموعودة»، وبقي مبلغ يتجاوز المليار دولار، قرر الملك استخدامه لحماية اقتصاد بلده الذي يعاني أزمة كبيرة.
ما ان انتفى خيار الضربة العسكرية، حتى تنفس عبدالله الثاني الصعداء: «قمت بواجباتي مع السعوديين ومشكلتهم ليست معي بل مع الأميركيين». تدريجيا، أعيد فتح القنوات الأمنية بين مدير مكتب الأمن القومي في سوريا اللواء علي مملوك والسفير السوري في عمان اللواء بهجت سليمان من جهة ومعظم رموز الأمن والاستخبارات في الأردن من جهة ثانية.. وصولا إلى تبادل الزيارات واتخاذ إجراءات حدودية، ارتدت سلبا على حركة الفريق الأمني السعودي على الأرض الأردنية وإقفالا لمعظم معابر تهريب السلاح إلى المجموعات التي تأتمر بأوامر الأمير بندر بن سلطان وعلى رأسها «جيش الإسلام» بقيادة زهران علوش (26 حاجزا أردنيا على أحد المعابر بالتنسيق مع الأميركيين والنظام السوري!).
وباستثناء الحشود العسكرية المتبادلة في منطقة القلمون والتي تشي باحتمال ميداني ما، على طول حدود سوريا الغربية مع لبنان، فإن أبرز مفارقات الميدان السوري في الأيام الأخيرة، مبادرة مدفعية النظام وطائراته الحربية إلى تقديم دعم ميداني لـ«الجيش السوري الحر»، في أكثر من نقطة، وخاصة في بعض مناطق دير الزور.
حصل ذلك على أساس تنسيق أمني ميداني بين ضباط «الحر» والنظام، بعدما شعر الجناح العسكري السابق للمعارضة بأن السعودية قررت شطبه من الوجود لمصلحة «النصرة» و«جيش الإسلام» باعتباره من بقايا الإرث القطري ـ التركي، وبوصفه يمثل إلى حد كبير «التنظيم العسكري للإخوان المسلمين»!
أفسح قرار السعودية المجال أمام مجموعات كبيرة من «الجيش الحر» لكي تبادر إلى تقديم أوراق اعتمادها إلى النظام. أعطى الرئيس الأسد أوامره بتقديم تسهيلات لكل هؤلاء، عبر كل البوابات الحدودية (خاصة عبر الأمنين اللبناني والأردني).
وفي خضم ما يجري من تطورات في الميدان، بدأت دوائر القرار في واشنطن وموسكو تضع تصوراتها لخريطة الطريق إلى «جنيف 2» وما بعده. الموعد المبدئي هو بين منتصف تشرين الثاني المقبل ونهايته، غير أن تثبيت هذا التاريخ أو تعديله مرهون بقدرة الأميركيين على حسم هوية من سيمثل المعارضة السورية على طاولة المؤتمر، وهي مهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة في ظل حرد السعوديين المستمر بعد تسوية «الكيميائي» والانفتاح الأميركي غير المسبوق على طهران.
من المفاجآت المرتقبة أيضا، جدول أعمال «جنيف 2». الخبراء لا يستبعدون أن تصبح قضية تشكيل جبهة دولية ـ إقليمية ـ سورية ضد «القاعدة» أولوية، ربما تتقدم على أولوية نقل السلطة، في ضوء معطى بارز يكرر طرحه الروس: إذا وافق النظام على أية تسوية انتقالية وشرع بالتنفيذ، فمن يضمن لنا أن الفريق الآخر (المعارضة) سينفذ؟
هذه النقطة أثارها لافروف أمس، ولو بالمواربة، في مؤتمره الصحافي مع نظيره الكويتي عندما تحدث عن وجود «جهات في صفوف المعارضة السورية المتعنتة وفي دول أخرى، تسعى لإفشال جنيف 2، وتنفيذ استفزازات جديدة باستخدام السلام الكيميائي، بغاية تحميل الحكومة السورية مسؤوليتها ودفع الدول الغربية الرئيسية إلى العودة لطريق التهديد باستخدام القوة».
ولعل المستجد سياسيا، هو قرار دمشق بفتح صفحة جديدة مع الموفد الأممي الأخضر الإبراهيمي الذي بعث برسائل عدة إلى القيادة السورية، عبر «صديق مشترك»، وتم تثبيت موعد زيارته إلى العاصمة السورية بعد عطلة عيد الأضحى، على أن تشمل جولته أيضا إيران ومصر والعراق والإمارات (يمر في بيروت ولم يطلب أية مواعيد حتى الآن)، ولم يعرف ما إذا كان سيزور العاصمة الأردنية أو العاصمة التركية، فيما لم يحدد السعوديون له أي موعد حتى الآن، في ظل مخاوف بأن ينسحب موقفهم السلبي على الإمارات على غرار ما حصل من إلغاء لزيارتي الرئيس اللبناني ميشال سليمان إلى الرياض ودبي!
يحمل الإبراهيمي في جعبته أسئلة وأفكارا، البارز فيها سؤال التسوية الممكنة في «جنيف 2»، وما إذا كان سيشكل هذا المؤتمر محطة من محطات عدة على طريقة جنيف ولوزان قبل محطة الطائف الأخيرة لبنانيا، أم أن الظروف صارت مؤاتية لإبرام التسوية؟
واللافت للانتباه أن النظام السوري بدأ يطرح صيغا وكذلك الأميركيون ومعهم الأمم المتحدة (طرح خبراء دوليون صيغة الحكومة الانتقالية المؤلفة من ثلاثة أثلاث للنظام والمعارضة والمحايدين). ثمة طرح جدي بأن تتأجل الانتخابات الرئاسية في سوريا من صيف العام 2014 إلى نهاية العام 2015 أو 2016، على أن يكون الأسد جزءا من مرحلة انتقالية يبقى ممسكا خلالها بكل المفاصل الأمنية والقضائية والسياسة الخارجية في الحكومة الانتقالية، ويملك الحق بأن يترشح للانتخابات في نهاية هذه الحقبة.
بتسليم «الكيميائي»، وبرغم أن إسرائيل هي المستفيد الأول من هذه الورقة، فتح الروس الباب واسعا أمام النظام لكي يفك الطوق من حول رقبته، ودخلت سوريا ومعها المنطقة في مرحلة انتقالية، ستكون حافلة بالفِخاخ، وهي نقطة أشار إليها لافروف، أمس، بقوله إنه كلما تأخرنا بالتسوية السياسية كلما زادت فرصة تجذر وتمدد «القاعدة» والقوى الراديكالية على أرض سوريا.
ماذا ينتظر كل دول الجوار السوري وخاصة لبنان في خضم هذه المرحلة الانتقالية، وهل تملك بيروت خريطة طريق للتفاعل ايجابيا مع ما يجري من تطورات حولنا، أم أن الخطأ في إدارة هذه المرحلة قد يجعل لبنان يدفع أثمانا جديدة؟
«لأهل السياسة في لبنان، يقول خبراء دوليون، أن يبادروا إلى تشكيل حكومة جديدة، استنادا إلى المعطيات الجديدة في المنطقة، وأن لا يجعلوا أنفسهم آخر من يقرر في انتخاباتهم الرئاسية، كما حصل في معظم العهود، منذ الاستقلال حتى الآن».
حسين أيوب
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد