أجمل حوار مع يعسوب الشعراء وظريف دمشق علي الجندي

25-08-2007

أجمل حوار مع يعسوب الشعراء وظريف دمشق علي الجندي

الجمل - نبيل صالح: دعت دار الجندي للنشر وجمعية أصدقاء سلمية لتكريم الشاعر علي الجندي يوم السبت 25 آب الساعة السادسة في المركز الثقافي العربي بسلمية. وبهذه المناسبة نعيد نشر (أجمل حوار مع علي الجندي) كما وصفه سامي الجندي بعد نشره في 23/3/1990 (بجريدة تشرين)، وكنت حينها أجري حوارات غيابية للشعراء السوريين بعد أن أحصل على موافقة الشاعر (بحضور شاهدين) وقد اشتهرت في جريدة تشرين في أواخر الثمانينات بواسطة هذا النوع من الحوارات الغيابية مع شعراء ودواوين شعر حيث قدمت نمطاً جديداً من ثقافة الصحافة في سورية ولاقت استحساناً من القراء والشعراء، وكان صديقنا المشاغب يعرب العيسى يفكر بإصدارها في كتاب، ثم أفلست دار (البلد) على اسمي، وهذا  أفضل ما جرى لصاحبنا يعرب، حيث تحول من الأدب إلى ساحة الاقتصاد وبات يحتسي قهوته مع الوزراء والمستشارين الحكوميين الذين نشتمهم في (الجمل) التي ساهم يعرب بتأسيسها.. وحتى لا نطيل عليكم، نقدم لكم نموذجاً من حواراتنا الغيابية في أواخر ثمانينات  القرن المنصرم وهي بعنوان:

علي الجندي:
موسيقي يستمع إلى صوت الطبيعة ويستمتع بمخالفة الأعراف في الحياة كما في الشعر

حملنا روحنا وذهبنا إليه:
- صباح الخير أيها الشاعر.. استقبلنا بابتسامة وأشار أن أجلس حتى لا تكدر استرسال الموسيقى اليونانية.. موسيقى زوربا وهي تنساب عبر اصص الزهور ثم ترفرف في الفضاء فوق البيوت المتناثرة في شعاب جبل الفقراء كما يدعوه هو.. في كل صباح يقف بنافذة بيته العالي كعش النسر ليتأمل حركة الناس في هذا الحي المخالف على اطراف جبل قاسيون.. يشرد مع الموسيقى.. عبر الدروب القديمة. خلال ضجيج الأزقة، يمضي مجرجراً خطواته المتعبة كأنه ينساب فوق وحول السنين، خائضاً لجة الذكريات..

- بعد ساعة من النشوة وأنا أتأمل انفعالات وجهه: وجه رجل في الستين عرف معنى النشوة وشغف الحياة.
* قلت:- كأنني أرى طيف زوربا في ملامح وجهك؟
قال: - قد سمعتها من كثيرين.. ولكني اؤكد لك أني اشبه بزوربا الذي كان يسكن روح كازاتنزاكي  من ذاك الزوربا الواقعي الذي عاش معه في جزيرة كريت.
* والموسيقى، كيف بدأت علاقتك بها وكيف تموسقت مع لغتك الشعرية؟
- في طفولتي كانت اسرتي تعيش في بيت منعزل عن الضعية، وكنت كثير الحركة، ابحث دائماً عن شيء ألهو به في هذه العزلة، اتتبع أعشاش العصافير، أركض خلف السحالي واستمع إلى زمزمة النحل. وكان أكثر ما يفتنني صوت الحليب عندما يتدفق من ثدي البقرة.. بقرتي الوحيدة التي كنت ارعاها حافياً.. حتى الآن مازلت أذكر ذلك الصوت السحري، عندما أقطف ورقة تين وأكورها على شكل كأس تحت الثدي ثم أحلب الحلمة: بش بش.. كنت أحس بكل طمأنينة العالم وكل هذا الارتواء.
ومن يومها وأنا أحاول أن أنسق بين هذا الصوت الدافئ وبين موسيقى الشعر الذي افتتحت حياتي بها.
* هذي هي الموسيقى التي تعيد لك طفولتك.. ولكن ماهي الموسيقى التي تعيد لك شبابك؟
- موسيقى كعب حذاء نسائي يخطر خلفي على الرصيف، كأصابع فنان تعزف فوق مفاتيح البيانو.. في تلك اللحظة تتفتح مصاريع ذكرياتي وأشعر بالحنين لكل هذا العدد من الحسناوات اللواتي سأغادرهن يوماً.. ولكن، آه ياولعي المجنون بالحياة، اقفر الساح وعربد الأصيل..
* ألا تخشى من ان تسمعك زوجتك؟
- دلال؟ هذه آخر حسناء اقفلت علي الباب.. لقد ولت ايامي والصبايا الان ينادينني (عمو علي) وللحقيقة فقد غدا شعوري أبوياً نحوهن.
* ضحكت متخابثاً وأنا اردد مقولة زوربا: (عندما يفقد أحدنا أسنانه يصرخ قائلاً: من العار أن تعضوا أيها الأصحاب).
- هيه.. كن طيباً وإلا امتنعت عن الحوار معك!
* في هذه الحالة سأجري معك حواراً غيابياً..
- وأنا لا مانع عندي لقد مللت من اولئك الصحفيين الذي يسألونني عن تاريخ ولادتي واسم قريتي وشهاداتي واسماء مؤلفاتي ووزني أيضاً.. وما أرجوه هو الا يسألونني عن تاريخ وفاتي...
* الشعراء لا يموتون يا عزيزي، وانما يبقون احياء في اغاني الناس وذاكرتهم...
- اذن هيا بنا ننزل إلى الناس..
اعطاني آخر ديوان مخطوط له ريثما ينتهي من حلاقة ذقنه.. تأنق ثم تعطر ولما خرجنا زادت ابتسامته اتساعاً...
* هل ننزل في المصعد؟

- لا أحب السجون المغلقة.
* وهل جربتها يوماً؟
اختفت ابتسامته ثم أجاب:- لماذا تود تعكير مزاجي؟
* عفواً، (أبا لهب) لم أقصد ذلك.. ولكن، لماذا اخترت هذا الاسم المشاكس لابنك الأكبر: لهب؟
- كنت استمتع بمخالفة الاعراف، في الحياة مثلما في الشعر.
خرجنا إلى النور. وقبل ان نقطع الطريق صافح آذاننا صوت نسائي ناعم:- علي.. ياعلي.. انتبهت إلى سيدة اربعينية تحمل بيدها أكياس خضار قلت:
* هي زوجتك، السيدة دلال حاتم؟
- كيف عرفت!
* لانها نادت بـ علي (حاف) بكل بساطة.. أهلاً مدام.. تعارفنا ثم مدحنا بعضنا:
- كتاباتك لطيفة..
* شكراً لقد تربينا على قراءة قصصك في مجلة أسامة..
قبل ان تودعنا سألت مازحة: - ماهي اخبار بقرتك الثقافية؟
* انها تعكف على كتابة مذكراتها بعد تحسن وضعها المعيشي..
في الطريق كانت التحيات تأتي من كل أهل الحارة مستفسرة عن أحوال الاستاذ..
* سألته: إلى أين يا مولانا؟
- إلى مطعم "الشرفة" لنعمل بنصيحة سيدنا المسيح: كثير من الخمر يفرح قلب الإنسان!
* قلت مصححاً: - قليل من...
- يجب ان تعلم أن قليل الانبياء كثير بالنسبة لنا...
حسنا، انك تشرح النصوص بطريقة ممتعة...
هاقد وصلنا إلى مبنى الاتحاد الفخم. المصعد معطل. نرتقي الدرج. كانت الساعة قد بلغت الثانية ظهراً وموظفي الاتحاد يغادرون.. بينما كنا نصعد التقينا برئيس الاتحاد وهو هابط سلاماً فكلاماً:
- اهلا استاذ علي.. امازلت تسرج القوافي؟
- لكنها تغير نحو الموت دونما أعنة..
تحيات سلامات... ابتسامات ليعسوب الشعراء وظريف دمشق.. في الطابق الرابع أخذه التعب.
* قلت ساخراً:- أنهم يقتلون الخيول؟
- هذا أفضل من أن تنفق مللاً...
* وهل تخشى الملل؟
- ولماذا برأيك نحن بحاجة للأولاد والأحباب والأصدقاء!؟ و.. اسمع .. هناك أسطورة تؤكد على أن الملل هو السبب في تطور الحياة!! تقول الأسطورة: أن الملال أصاب الآلهة فخلقوا الإنسان.. وأصاب الملال آدم  لانه كان وحيداً فخلقت حواء.
وهكذا دخل الملال في العالم. وازداد بقدر ازدياد عدد السكان.. وكان آدم في ملال وحده، ثم أصاب الملال آدم وحوء معاً فأنتجوا أولاداً للتخلص من هذا الملال.. ثم أصاب الملال آدم وحواء وقابيل وهابيل كأسرة.. ثم ازداد عدد سكان العالم فأصبح المجموع في حالة ملال بالجملة كجماعة...
كنا لا نزال نصعد الدرج المتعرج عندما توقف من جديد:
- اسمع! هل تذكر ما قاله فاوست: ندور في حلقة مفرغة، على دروب متعرجة وقويمة.. واعرف جيداً أن الجهل مصيرنا. وهذا أكثر ما أبغض وأكره..)  أكملت له المقطع: «وهذا أنا ضائع بين ركام من كتب يفتك بها الدود والغبار..».
أخيراً وصلنا إلى "شرفة" كتاب الوطن.. كان المكان فارغاً سوى من بعض الندلاء وشاعر شاب ينظر بلهفة إلى وجه صديقته وشفتيها اللتين تتحركان باستمرار.. قبل أن نجلس قطب علي الجندي وجهه فجأة وكأنه تذكر شيئاً!
- هيه؟ لماذا لم تقرأ في مخطوطتي التي أعطيتك إياها قبل أن تخرج.. شاهدتك وأنت تلقي بها جانباً يا... (قام بشتمي بطريقة فنية وناعمة).
* لأني أعتقد أن حياتك أكثر شعرية من شعرك، وأنا قد أتيت لمتابعة تفاصيلها بدلاً من تبديد الوقت في تصفح دواوين يمكنني قراءتها فيما بعد..
- أنت تشتم بطريقة ممتعة أيضاً..
جلسنا في الجهة الغربية لنطل على المساحات الخضراء المتبقية من هذي المدينة التي استعمرها الاسمنت.. وكأمير متقاعد كان الندلاء يحتفون بأبي لهب: غطاء الطاولة الأبيض والكؤوس البلورية الشفافة، قفص الطيور وعازف البيانو.. الجميع يخدمونه بسرور. امتلأت الطاولة وأترعت الكؤوس. وكنت أفكر بأننا سنعيش امتلاء اللحظة كحبة حنطة ناضجة.. أمسكت قلمي ثم تناولت ورقة وخططت عليها:
* وهذا أنا رهيف كسيف حزين/ وهذا رغيفي، وأنت.. أنا/ وكل الصحارى، وكل الندى تودع فصل الخريف/ وهذا بقايا الرغيف/ فهيئ لنا الزاد والمحبرة.
أخذ الورقة والقلم وخط عليها «وهذا زمان الحكايا الرديئة/ وتحت فروع الفلاسفة الصيد يورق صخر الخطيئة».
قلت له: - صحيح أن الفشل الدائم في الحب هو الذي يخلق الفلاسفة والفنانين..
- لأنه عندما يكون لديك أنياب قوية ومعدة جيدة لن يتوفر لديك الوقت للتفكير..
* ولكن، لماذا نحن ضعفاء أمام كل هاته النساء اللائي يحاولن امتلاكنا؟
- عندما تحبك المرأة أكثر مما ينبغي يصبح حبها سجناً لك.. وأنت كرجل معشوق تنتقل من ملكية الأم إلى ملكية الزوجة.. ما أغبانا ونحن الذين نظن أننا نحرك العالم! إنما النساء هن اللواتي حركن التاريخ. ولو أردت دراسة التاريخ لبحثت في سيرة زوجات السلاطين والفاتحين وعشيقاتهم.
صمت علي وسرح بصره فوق دمشق. كان في عينيه التماعة من حزن وحنين.
تنحنح ثم قال: -كانت أمي تسرّح لي شعري وتزرر لي قميصي. تقبلني ثم تربت على ظهري: - هيا إلى المدرسة يا حبيبي.. أيضاً زوجتي كانت تفعل الشيء نفسه قبل ذهابي للعمل.. أيتها النساء لقد تعبنا من حبكن..
* ولكنك قد أدمنت هذا التعب.
- لأنه يساعدني على فراق الأصدقاء.. كل هذا العدد من الذين أحببتهم وغابوا.. بعضهم ابتلعتهم الأرض، وآخرون ابتلعتهم ديمقراطية الغرب بعدما رحلوا..
* وأنت بقيت هنا كطائر مقيم.
- اعشب الحزب على ارماس أحبابي، ولم يبق لحقلي من تخوم.. «ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردا».
* سيف!.. ولكن البشر استغنوا عن السيوف هذه الأيام.. لقد غدا الشعر ترفاً أيها السيد.
- بعد ما كان خبزاً يقاتل البشر من أجله..
وبعفوية أخذ يخط على الورقة التي ملأها بالخطوط المتشابكة كحياته: جالس وحدي على مائدة الإيقاع أستجدي من الصمت قصيدة /طاعن في الوهم، لا شمس على دروبي، قوافيّ حزانى، وأمانيّ فريدة.
* أنت تبكي يا أبا لهب!
- لأن العالم مازال يصدمني، كالطفل ساعة الولادة: يبكي محتجاً لمجيئه إلى هذا العالم المجنون.
* مع ذلك فأنت تحب هذا العالم وتحاول تجميله بالشعر.. كم أنت شبيه بدون كيشوت..
تبسم من جديد وقال: -أهذا مديح أم شتيمة؟
* كلاهما معاً.. الشعراء فاشلون كبار، يقدمون حياتهم لإضاءة العالم.
والذي يحصل هو أن يحرقوا أنفسهم.. كل جيل يضم رجلين أو ثلاثة يضحى بهم من أجل الآخرين ومهمتهم أن ينشدوا في الآلام المروعة ما يستفيد منه سائر الناس. هذا ما كان يردده كير كيغارد..
بعد هذه الكلمات الجدية تابعت وبشيء من الشقاوة:
* أستاذ علي، أنت الآن في الستين. ألم تنته من اللهو بعد؟
- (شتيمة).. أنا أكبر من أن يرضيني اللعب واللهو، وأصغر من  أن أحيا بلا رغبات.. كلما تقدّمنا في العمر تعلقنا بالحياة أكثر وعرفنا قيمتها.. وأنا لا أستطيع أن أعزف عنها عندما تهتز أمامي بكعب عال وساقين ممشوقتين.. كلما ابتعدت عن الماء عرفت قيمته أكثر يا صديقي الشاب..
كان يبحث عن فسحة بيضاء على الورقة الممتلئة فسارعت بوضع صفحة أخرى أمامه.. فبدأ يكتب بخط جميل:
وأمضي، أنقل خطوي برفق خلال المدينة/ إذا لاح طفل يحدق فيّ، يخيل لي أن أمسي يلوح بعينيه احزن/ يوقظ آلام عمري الدفينة، مررت على كل شيء قديم وصار يهلّ عليّ نشيد المطر/ لقد جمد اللحن في خاطري.. وأمسى جنون شبابي حجر!!
وعندما قرأت «نشيد المطر» علمت أنه تذكر صديقه الراحل بدر شاكر السياب فتركته لأشجانه ومضيت تاركاً إياه مع أحلامه القديمة المنسلة عبر شقوق المرارة والفرح وأنا عالم أني وأنتم وأنتن سنتسرب عبر رمال شبابنا داخل لعبة الزمن.. وكان لسان حالي يردد قوله:
 كان نهر البكاء ينساب من أول الحقل المدمى إلى مشارف أهلي.. كنت من كوة الغيوب مطلاً، وعلى وهجها المريع.. أصلي.

نبيل صالح

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...