أمل دنقل أوالحاضر في زحمة الغياب
"أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة.""أمل دنقل"
رأى النور على أرض الصعيد المصري وتنفس هواء الطبيعة الساحرة وتلحّف برداء النخيل...نشأ بين المزارع الخضراء "الغيط"، مستمعا إلى معزوفات "بوابير الآبار" في كلّ فجر جديد.
ولد أمل دنقل في بلدة القلعة بمحافظة قنا في صعيد مصر عام 1940.. حياته كانت قاسية حيث عانى من مرض السرطان طويلا ولكنه قاوم إلى آخر لحظات عمره بالكلمة الصادقة والمواقف المؤثرة... لم يستطع المرض أن يوقف دنقل عن الشعر حتى قال عنه أحمد عبد المعطي حجازي :"إنه صراع بين متكافئين ،الموت والشعر"...كلماته أشبه بالسفر إلى عوالم الغموض والتشتت من حلم إلى حلم في طريق مليء بالأشواك والهزّات والنكبات ... قصائده حُبلى بالصراعات تستمع من خلالها إلى زفرات حارّة متدفقة من صدر تعب وكلّ وكذلك إلى صراخ الرفض والألم.
لكنها امتازت بأسلوب سلس وبلاغة في التعبيرجعلتها ترتقي إلى مراتب عليا أثّرت في الأوساط الأدبية من جيل إلى آخر... أمل دنقل بحث عن الحضور في زحمة الغياب عندما تجاهلته المؤسسات الثقافية الرسمية المصرية ولاقى كثيرا من الصد في حياته، إلى أن رحل،ساعتها أدركت مصر أنها فقدت شاعرا كبيرا،فأقام المجلس الأعلي للثقافة احتفالية كبري بمناسبة الذكري العشرين لرحيله.
وأصدرت أعماله الكاملة، وشريط "كاسيت" مسجلا عليه بعض قصائده..ظل دنقل غريبا في قومه غربة الأنبياء في أقوامهم، فزار العرافة المقدسة وخاطبها باثا شكواه وعلته في قلبه طعنات بخنجر الزمان ورائحة الموت في كل مكان:
جئت إليك مثخنا بالطعنات والدماء "
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء
عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع .. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة
عن صور الأطفال في الخوذات... ملقاة عليّ الصحراء
عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء
فيثقب الرصاص رأسه .. في لحظة الملامسة
عن الفم المحشو بالرمال والدماء."
رفض التصالح مع الأعداء"أبناء العمّ" الذين قتلوا الأطفال وذبّحوا البراءة واستباحوا الأعراض وشرّدوا الأبرياء، إنها الحرب التي تثقل القلب..يقول في قصيدته" لا تصالح":
"لا تصالح على الدم.. حتى بدم
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟
أعيناه عينا أخيك؟
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن -يا أمير- الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِك."
عاش الشاعر أمل دنقل عديد الأحداث المريرة التي نراها جليّة في أشعاره، وكان يناضل على واجهتين ممزّقا بين استفحال الوهن في جسده وبين الواقع المضني.. لاشيء غير حرب المرض وحرب الرصاص و"ماكينات الموت" وأشباح العدم وروائح الجثث التي ملأت المكان. يقول في قصيدته"الورقة الأخيرة":
"هل أنا كنت طفلاً
أم أن الذي كان طفلاً سواي
هذه الصورة العائلية
كان أبي جالساً، وأنا واقفُ .. تتدلى يداي
رفسة من فرس
تركت في جبيني شجاً، وعلَّمت القلب أن يحترس
أتذكر
سال دمي
أتذكر
مات أبي نازفاً
أتذكر
هذا الطريق إلى قبره
أتذكر
أختي الصغيرة ذات الربيعين
لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها
المنطمس."
اهتزّ وتأثر بما يحدث في فلسطين وتأوّه طويلا لضياع القدس ومفاتيحها على يد اليهود...بكاها كثيرا حتى فاضت الروح وما عاد في الفؤاد متسّع للنواح، إلا أنه يتشبّث بأمل العودة إلى الديار الحبيبة، فنراه يتألم في صمت وعلانية ويندب في قصيدته"سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس" وفي الإصحاح الأول:
"عائدون؛
وأصغر إخوتهم "ذو العيون الحزينة"
يتقلب في الجب،
أجمل إخوتهم.. لا يعود
وعجوز هي القدس "يشتعل الرأس شيبا"
تشم القميص. فتبيض أعينها بالبكاء ،
ولا تخلع الثوب حتى يجئ لها نبأ عن فتاها البعيد
أرض كنعان - إن لم تكن أنت فيها - مراع من الشوك
يورثها الله من شاء من أمم،
فالذي يحرس الأرض ليس الصيارف،
إن الذي يحرس الأرض رب الجنود
آه من في غد سوف يرفع هامته؟
غير من طأطأوا حين أزَّ الرصاص؟
ومن سوف يخطب - في ساحة الشهداء-
سوى الجبناء؟
ومن سوف يغوى الأرامل؟
إلا الذي
سيؤول إليه خراج المدينة!!؟"
رغم قلة نتاجه الشعري فإنه وبشهادة كبار النقاد واحد من كبار الشعراء المصريين والعرب.
له مجموعة شعرية كتبها خلال فترة مرضه، وهي بعنوان "أوراق الغرفة 8"، وقد جمع شعره في ديوان واحد بعنوان" ديوان أمل دنقل". توفي دنقل في القاهرة يوم 21 مايو/آيارسنة 1983،لتنتهي معاناته في دنيانا مع كل شيء. كانت آخر لحظاته في الحياة برفقة د.جابر عصفور وعبد الرحمن الأبنودي صديق عمره، مستمعاً إلى إحدى الأغاني الصعيدية القديمة، أراد أن يتم دفنه على نفقته لكن أهله تكفلوا بذلك.
شــادي زريبــي
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد